المنشور

القمة الميتة

لعل أسعد المشاركين في قمة دمشق الوشيكة هم رؤساء الوفود العربية من مستويات دُنيا أقل من وزير، يأتي بعدهم وزراء الخارجية الذين يترأسون وفودهم لأول مرة نيابة عن رؤساء دولهم، ولعل مبعث سعادة هؤلاء جميعاً، وعلى الأخص الذين هم أقل من درجة وزير، انهم سيشعرون طوال القمة بأهمية مكانتهم السياسية الجديدة باعتبارها مكانة تضاهي تماماً أقطاب ورؤساء الدول الحاضرين الذين سيشاء حظهم “التعيس” أن يتعاملوا ويتناقشوا مع “نظراء” لهم هم أقل من مستويات وزرائهم بما يحمل ذلك ضمنياً إساءة لمكانتهم كأقطاب وزعماء دول. ومع ذلك تظل أكثر الدول شعوراً بالاشمئزاز والحنق الدفين من هذا الاستهتار في تخفيض مستوى التمثيل هي الدولة المستضيفة نفسها سوريا. فما من دولة في العالم تستضيف أي قمة تؤنسها وتفرحها هذه الاستضافة أكثر من أن يكون تمثيل رؤساء الوفود في مستوى زعماء وأقطاب الدول المشاركة في القمة المعنية. ولعل مما يزيد من استياء الدولة المضيفة حينما يكون عرسها، أي عرس استضافتها مؤتمر القمة، هو أول عرس في تاريخها فإذا به يتحول عملياً إلى عرس أشبه بالمأتم، لا أراكم الله مكروهاً. لكن هل كان لزاماً على دمشق، رغم كل علمها المسبق بهذه الأجواء المحبطة والمخططة سلفاً لإفساد عرسها، أن تصر على انعقاد هذه “الزفة” ــ المأتم؟! وهل كان ينبغي للدول العربية في المقابل التسليم بالموافقة الضمنية على مضض كارهة على انعقادها وهم يعلمون علم اليقين مقدماً بأنها ستولد ميتة، وأنها ستكون أيضاً بامتياز فضيحة جديدة تضاف إلى فضائح قممهم السابقة أمام العالم؟! لعل من الأرجح لو أن الرئيس الراحل حافظ الأسد موجود لما ارتضى بتاتاً أن تعقد قمة في عاصمة بلاده بهذا المستوى المتدني الهزيل المهزلة، لا بل لربما تمكن بدهائه المعروف وحنكته المجربة أن يقنع أكبر عدد من الدول العربية المشاركة بأعلى مستوى من التمثيل لا يقل عن رئيس حكومة في أسوأ الظروف الموضوعية، بل لربما جاءت الخلافات التي عصفت بالمشاركين في القمة حول الأزمة اللبنانية أضيق بكثير مما هي عليه الآن.. هذا بافتراض أن مسارات الأزمة ستأخذ متاهاتها نفسها من التأزم المتفاقم الذي اتخذته في ظل رئاسة نجله بشار الأسد. وهكذا فنحن حيال طرفين لهما دورهما الفاعل المؤثر في تعقيدات الأزمة اللبنانية ذاتها، الأول هو الطرف السوري على وجه الخصوص، والثاني هو طرف الدول العربية وعلى الأخص تلك المعروفة بدورها المؤثر الإقليمي في الأزمة اللبنانية ذاتها. وفي الواقع ليست الأزمة اللبنانية هي السبب الوحيد أو الرئيسي لضعف قمة دمشق كما يحلو للعديد من المراقبين أن يعزو ذلك، أو كما يحلو لوزير الخارجية المصري أبوالغيط ربط نجاح القمة مقدماً بمدى حلحلة الأزمة اللبنانية، وعلى وجه التحديد انتخاب رئيس جديد للبنان.. فالكل يعلم جيداً أن مؤسسة القمة غدت مشلولة أو شبه مشلولة منذ اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979م، وازداد شللها بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990م، وظلت لعدة سنوات بعدئذ في التسعينيات مجمدة في سبات شتوي طويل. وحينما تم احياؤها أخذت تُعقد سنوياً وسط كل تلك الأجواء المشحونة والفضائح المتكررة من مشاحنات ومصادمات بين بعض الأقطاب، كما حدث في قمتي شرم الشيخ والدوحة قبل الغزو الأمريكي للعراق 2003م. وطوال تاريخ القمم العربية لم تشعر الشعوب العربية بالاشمئزاز والقرف الشديدين من هذه القمم كما شعرت خلال العقدين الماضيين حتى زهدت هذه الشعوب تماماً من مجرد حتى سماع أخبارها، دع عنك نتائجها وقراراتها. ذلك بأن هذه الشعوب تدرك جيداً طبيعة هذه القرارات وميوعتها في عجزها عن الإيفاء بالحد الأدنى من التضامن العربي في مواجهة استحقاقات القضايا المصيرية الراهنة، والأقطاب العرب بدورهم، ومع انهم يدركون جيداً أنهم لم يعد يستطيعون أن يقدموا إلى شعوبهم، وقضايا أمتهم أكثر من هذا المستوى من القرارات الهلامية الفضفاضة المتواضعة المتكررة إلا أنهم يصرون على المضي قدماً في مسلسل انعقاد هذه القمم الهزيلة المهزلة. يكفي للدلالة على ما بلغته مؤسسة القمة من وهن وانهيار ان المؤسسة الأم أو كما يحلو لبعض العرب تسميتها ببيت العرب المشترك “جامعة الدول العربية” هي ميتة منذ زمن بعيد، وأن أمينها العام لم تعد له وظيفة فيها كأكبر مسئول تنفيذي عن قراراتها والعمل على تقوية العمل العربي المشترك وتعزيز التكامل العربي في مختلف المجالات في مواجهة التآمر الصهيوني ومن أجل تقوية المصير الواحد والدفاع عن الأمن القومي، بل على العكس من ذلك أضحت وظيفته الجديدة مندوباً دائماً للمساعي الحميدة لفض المنازعات العربية. وفي حين تعقد كل قمم منظمات العالم الإقليمية بأعلى تمثيل، بغض النظر عما ينشب ما بين دولها من خلافات طارئة أو ما بينها وبين دولة مقر انعقاد القمة، فإن الأقطاب العرب لا يعرفون فصل خلافاتهم عن مؤسسة القمة كمؤسسة قانونية مستقلة دائمة ولا عن خلافاتهم مع دولة مقر القمة. ومادام الحال كذلك فماذا عسى أن يفعل أمينها العام سوى أن تتحول وظيفته ليكون عرّاباً ورسولاً فيما بينهم لمنع رثائها وفقدان وظيفته.. وكفى الله المؤمنين شر القتال.

صحيفة اخبار الخليج
27 مارس 2008