المنشور

شيء من الذاكرة «3-3»

فجأة، أصبح صغار الحي ‘مقاومين للمستعمر المحتل’، وسلاحهم الفعّال كان آنذاك ‘فلاتياتهم’، وخام هذا السلاح لصناعته واستخداماته المتعددة فيما بعد متوافرة في منطقتنا بكثرة (أشجار ‘لكنار ولصبار’، وجلود ‘اتيوب’ السيارات أو الدراجات الهوائية، وخيوط الخياطة لتبيت الجلد في غصنين متقابلين على شكل 7 بالعربي)، أما قذائفنا؛ فهي أحجار ‘الكنكريت’ الصغيرة نلتقطها بسرعة خاطفة من أية زاوية نقف عليها، لكن الأكثر ذخيرة تأثيراً كانت ‘التيلة’ و’الصجمة’، حيث يستخدمها القناصة الماهرين، أمثال: (حسين الحايكي، عزيز برني، أحمد تقي الصباح، وعبد الخالق الصباح) وآخرين يشهد لهم أهالي الحيّ دقة تصويبهم وقناصتهم للفريسة المستهدفة عن بعد، سواء كانت عصفوراً أو بلبولاً أو بشراً من جنس ‘الشرطة السرية’ التي تداهم بيوت الطين. كان الصبية يركزون على هؤلاء الأخيرين في مراكزهم الحساسة من الجسم، حيث يستهدفون كل مكونات رأس الإنسان الذي من وجهة نظرهم ‘مرتزق’، وإن كان مواطناً بحرينياً، لأنه يخدم ‘الاحتلال’؛ وهنا تبقى ‘عيون وآذان وخشوم وروس الشرطة المكشوفة’ أهداف أساسية للتصويب عليه من مسافة بعيدة تقاس بعشرات المترات. يتجمع الصبية في المسجد الكبير، المقابل لجسر المحرق، الذي كان يومها كحال فقراء الحي، ‘خربة’ تتكون من أعمدة عتيقة آيلة للسقوط، أو ساقطة بالفعل على الأرض، وبينها أحجار ‘افروش’ [1] رقيقة متلاصقة بين عمود وآخر، ونسمي العمود ‘اسطوانة’ يتوزع الأطفال للاختفاء وراءها بانتظار التعليمات من قائد المفرزة ‘الجنرال حسين الحايكي، أو عزيز برني اللذين يضعان ‘الخطط العسكرية’، فيحددون لنا الأهداف وساعة الصفر لإطلاق ‘القذائف الصاروخية’. في البدء يندبون مستطلع يرصد الشارع من ‘الدردور’ [2] الأول على جسر المحرق، ويمر بالساحل على جانبي الجسر لتقضي أجياب الشرطة، والشرطة المترجلة والانجليز، وتقوم ‘الاستخبارات العسكرية للمقاومة’، ببث المعلومات لـ’القيادة العليا’، وتقوم هذه الأخيرة بإصدار الأوامر بناءً على هذه التعليمات. جاءنا ذات يوم حسين الحايكي فأصدر الأوامر وقال: شباب استعدوا (….) هناك سبعة شرطة قادمين من منطقة الحورة إلى منطقتنا. جهزوا ذخيرتكم المعتبرة (التيّل والصجم)، هذه المرة ‘خلوهم يتعفرتون’ انتقاماً لاعتقال ثلاثة أشخاص دفعة واحدة (علي ورضي وعبد الله) وإصابة جواد ميلاد بالرصاص في صدره .. ركّزوا على ‘العين والخَشِم والإذن’ .. نريد أن ‘انبطط’ آذانهم وعيونهم، وانكسر خشومهم، أولاد ‘……’، أطلقوا طلقة واحدة صائبة واهربوا إلى بيوتكم من المسجد، إلى الخرابة .. إلى البيت!!.. إياكم الركض على الشارع الرئيس الممتد من الجسر إلى داخل رأس الرمان، ربما سيارة شرطة تلتقيكم في مصادفة عمياء، سواء كانت آتية من المحرق أو المنامة والعكس فتكشفكم. رد الجميع: صار .. صار، ‘يا ولد حوّام’ [3] .. سننتقم!!. بالفعل، جاءت الشرطة إلى الاستراحة مقابل مستودع المؤيد للأخشاب (التشبرة) في محاذاة المسجد الكبير بالضبط، وما هي إلا لحظات صمت رافقتها تعليمات من ‘الجنرال’ الحايكي وحدد المهمات لكل واحد فينا، حتى ‘تعفرت’ السبعة وصرخوا من شدة ألم الإصابات الدقيقة والخطيرة .. ثم هربنا بحسب التعليمات من المسجد إلى الخرابة فـ’الدواعيس’ الضيقة .. فالبيت، لكننا لم نسمع من الراديو نتائج ‘عمليتنا البطولية’ التي ‘عفرتت’ سبعة شرطة في كمين محكم. تبقى أشياء كثيرة في ذاكرة الطفولة، لا يمكن أن تنسى عن أيام انتفاضة مارس المجيدة قبل 43 عاماً، والصبية الصغار كبروا، فمنهم من أصبح عاملاً أو نجاراً، أو بحاراً، أو فناناً في الرسم، ومنهم من مثل منتخب البحرين في كرة القدم، وفيهم من صار حكما دوليا في كرة الطائرة والسلة .. وكثير من هؤلاء درسوا في الخارج بفضل التنظيمات السرية آنذاك، وآخرون بعثتهم وزارة التربية والتعليم مشكورة، والشكر موصول لجماعة ‘بابا عود’.

[1] افروش: أحجار بحرية رقيقة تستخدم لتغطية القبور في المقابر والبناء في البيوت.
[2] دردور: فتحة في الجسر لتحرك المياه من الشمال إلى الجنوب.
[3] حوّام: نسبة إلى منطقة برأس الرمان تسمى حالياً الحياك، وبيت حوّام يعني بيت الحايكي، وحوّام جد سلمان الصحافي والشاعر سلمان الحايكي، وفي هذه المنطقة يوجد بيت الفنانين المرحومين أحمد السني وشقيقه حسين، كما يوجد بيت المناضل علي دويغر، أحد كبار جماعة ‘بابا عود’، أطال الله عمره.
 
صحيفة الوقت
20 مارس 2008