المنشور

حكايات من تاريخنا (56)

أم “لينين” المصري كم في حياتنا السياسية العربية من جنود وجنديات مجهولين لعبوا ادواراً مهمة في حركات بلدانهم السياسية ولم يحظوا بالتكريم الذي يستحقونه لا خلال حياتهم ولا بعد مماتهم، لا بل جرى اهمال او طمس تلك الادوار وغيبت عن الذكر في اعلام وتاريخ تلك الحركات ليقتصر الذكر والتكريم على من سنحت لهم الفرصة للشهرة بفضل البروز الاعلامي بوجه حق او من دون وجه حق أي لمجرد ما يتمتعون به من قدرات ومهارات في ابراز وتلميع انفسهم اعلامياً. وأحسب ان الجنود والجنديات المجهولين في الحياة السياسية بكل بلد عربي موزعون على كل التيارات والاحزاب السياسية المعارضة من دون استثناء، بالرغم من ان ادوارهم، كما قلنا، بالغة الأهمية ولا تقل أهمية عن ادوار مشاهير ورموز الحركات السياسية ان لم تفق عليها. وعلى الصعيد النسائي، ومادمنا في اجواء الاحتفال بيوم المرأة العالمي، فلعل واحدة من هذه الجنديات المجهولات على الصعيد العربي المناضلة المصرية اليسارية الراحلة سعاد زهير والدة الكاتب والمخرج المسرحي المعروف “لينين الرملي” وزوجة المناضل اليساري الراحل فتحي الرملي. وحينما كنت في القاهرة اثناء الدراسة الجامعية لطالما لفت نظري وشد انتباهي بقوة اسم ابنها هذا “لينين” فوق افيشات واعلانات المسرحيات الجديدة بالشوارع. وهذا الاسم هو نفس اسم قائد أول ثورة اشتراكية مظفرة في تاريخنا المعاصر ومؤسس وزعيم اول دولة اشتراكية عظمى ألا وهو الاتحاد السوفيتي السابق. ولا شك في أن اطلاق مثل هذا الاسم المقرون بالالحاد والكفر في المخيلة الشعبية لدى العوام والبسطاء أو المثقفين تحت تأثير الدعاية السياسية المسطحة التي برعت في ترويجها القوى المعادية للفكر الاشتراكي عموماً، في الداخل كما في الخارج، نقول: ان اطلاق مثل هذا الاسم على مولود عربي مسلم ليعد بمثابة جرأة غير مسبوقة وغير عادية في البلدان العربية تشبه جرأة اطلاق اسم الدكتاتور صدام حسين على بعض مواليد عصرنا الراهن. ولعل الندرة من المثقفين هي التي كانت تعرف خلفيات حكاية هذا الاسم الغريب الشاذ ومن يقف وراء اطلاقه، على الرغم من الشهرة الفنية المعروفة لمن يحمله كفنان وكاتب ومخرج مسرحي ودرامي. وفي عدد مارس الأخير من مجلة الهلال المصرية المخصص عن المرأة يكشف هذا الابن “لينين الرملي”عن سطور مجهولة من سيرة حياة أبويه اليساريين، وعلى الأخص نضال امه الجسور في مواجهة ومقاومة الطغيان والاستبداد. فوالدته سعاد زهير هي الابنة الثانية لناظر بإحدى مدارس دسوق، وقد تولدت عندها نزعة التحدي منذ نعومة اظفارها وهي ترى كيف ان المرأة مضطهدة في مجتمعها، ولاسيما انها حرمت من حنان الأب بسبب اهماله لها لكونها انثى بعد ان كان يتوقع ويرغب في ولادة ذكر عند ولادتها. وكان وراء تعرفها بفتحي الرملي وزواجها منه وراءه قصة حب رومانسية فريدة من نوعها، استمد منها لاحقاً الروائي الكبير احسان عبدالقدوس حبكة روايته المشهورة “في بيتنا رجل” التي اخرجت بعدئذ في فيلم سينمائي، حيث كان الرملي صديقاً لزوج اختها الكبرى واختبأ في منزله من مطاردة المخابرات، فنشأت قصة حب بين سعاد وفتحي الرملي طوال تخفيه في هذا المنزل. وزوجها الرملي هذا لم يكن سوى احد مناضلي المنظمات اليسارية السرية خلال الاربعينيات، ونزل في الانتخابات النيابية تحت شعار بسيط وجذاب “انتخبوا مرشح الجبهة الاشتراكية الذي لا يسنده لقب او مال أو حكومة”، ولصق مجاميع من العمال صورته على بدلات العمل الزرقاء التي يرتدونها اثناء العمل. ويشهد لويس عوض واسامة الباز بأنهما شهدا “أم لينين” المصرية وهي تقف مزمجرة بصوتها الهادر على سلالم قسم الشرطة بالسيدة زينب منددة بقمع السلطة وطغيان المحتل الانجليزي وذلك على اثر اقتحام البوليس سرادق زوجها الانتخابي وجره للقسم للاعتقال والتحقيق. ويشير الابن لينين الى ادوار امه وابيه النضالية قائلا: “وتكرر اعتقال ابي بتهم الترويج للاشتراكية والعيب في الذات الملكية، ورغم ذلك ورغم صغر سن أولادها راحت توزع المنشورات الملتهبة، وتتذوق الاعتقال…”. وكانت سعاد ضمن اول وفد نسائي مصري حضر اول مؤتمر نسائي عن المرأة عقد في باريس عام 1945م الى جانب الفنانة التشكيلية انجي افلاطون وصفية فاضل، وتركت ابنها لينين رضيعاً اثناء سفرها إلى المؤتمر. كما كانت مديرة تحرير “بنت النيل” التي كانت تصدرها درية شفيق المعروفة بدورها الريادي في الحركة النسوية المصرية. وفي احدى الفترات ضبط البوليس كلا الزوجين في وقت واحد متلبسين بتوزيع منشورات تحرض على مقاومة الاحتلال الانجليزي فكان مصيرهما السجن، واصرت على ان تأخذ معها الى السجن ابنها لينين ذا الثلاث السنوات وشقيقه جهاد ذا الاربعة الأشهر فقط، وفي السجن اضرب الزوجان كل في معتقله عن الطعام مطالبين مع رفاقهما بإلغاء معاهدة 1936م الجائرة، واستمر الاضراب اسبوعين وكان له دور الى جانب نضال الحركة الوطنية لإلغاء هذه المعاهدة الاستعمارية. ولأن غلطة الشاطر عن ألف فإن المباحث التي عجزت عن النيل من صمود “أبو لينين” نجحت في التشهير ببعض اسرار حياته الشخصية والايقاع بينه وبين زوجته على اثر كشفها لهذه الاخيرة عن وجود علاقة عاطفية بينه وبين امرأة اخرى فطلبت الطلاق على الفور عام 1955م، وكان لها ما ارادت رغم محاولاته المستميتة لإصلاح ذات البين. وفي حين انضمت إلى تنظيم “حدتو” ظل هو يسارياً مشاكساً صعب المراس في الانضباط الحزبي، ووصف بالفوضوي والمتطرف داخل التنظيم. وبسبب شعورها بعبثية الصراع المحتدم بين المنظمات والحلقات اليسارية السائدة في تلك الفترة آثرت الاستقلالية والانزواء عن كل هذه التنظيمات حتى رحيلها الفاجع في يناير من عام 2000م وذلك على اثر حادث سير عادي وهي تهم بعبور كورنيش الاسكندرية عن عمر ناهز الـ67 عاماً وهو رحيل يذكرنا بنهاية حياة العديد من المناضلين في مثل هذه الاحداث كانقلاب سيارة المناضل الفلسطيني توفيق زياد في طريقه الى غزة من اراضي 48، وكحادث رحيل زوجة عبدالعظيم انيس على اثر عقرها من كلب ضال في مطار القاهرة وغيرها من احداث الرحيل الفاجعة الاخرى العديدة. تلك هي باختصار شديد سطور من قصة حياة المناضلة المجهولة ام المخرج والمبدع المسرحي المصري “لينين الرملي” والتي تحمل في طياتها سر حمله هذا الاسم الثوري تيمناً من قبل ابويه بأخطر مفكر وزعيم سياسي ومؤسس اول دولة “اشتراكية” كبرى في القرن العشرين.. والذي لطالما اقترن اسمه مزدوجاً مع اسم ماركس في تسمية احد اكبر التيارات السياسية الراديكالية في عصرنا، “الماركسية – اللينينية” أو “الشيوعية”.
 
صحيفة اخبار الخليج
20 مارس 2008