المنشور

العرب والرئاسة القبرصية الجديدة

على الرغم مما تتميز به نتائج الانتخابات الرئاسية القبرصية التي جرت أواخر الشهر الفائت (فبراير) وأسفرت عن فوز المرشح اليساري ديمترس خريستوفياس فيها من دلالات وأبعاد مهمة بالنسبة إلى العرب، فضلا عن دلالاتها وأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، فإن هذه النتائج لم تحظ باهتمام كاف من قبل المحللين والسياسيين العرب، ناهيك عن اهتمام الحكومات العربية والقوى السياسية عامة. ولا يمكن أن نفهم بعمق دلالات النتائج الانتخابية الأخيرة إلا إذا أدركنا جيدا الأهمية التي يشغلها موقع قبرص بالنسبة إلى العرب، وما مرت به الجزيرة من متغيرات سياسية منذ نحو 35 عاما أثرت ليس في الأوضاع السياسية لشعب الجزيرة فحسب، بل في جزء من موازين القوى الإقليمية الذي كان يتمتع به العرب سابقا في ظل قيادة زعيمها الراحل مكاريوس الذي قاد شعبه إلى تحقيق الاستقلال الوطني عام 1960 وعرف بمواقفه المبدئية المناصرة لقضايا الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب العربي الفلسطيني ومعاداته لإسرائيل والصهيونية، هو الذي كان أحد الزعماء المؤسسين لحركة عدم الانحياز إلى جانب تيتو وعبدالناصر وسوكارنو ونهرو وغيرهم. كما عرف هذا الزعيم بمواقفه المناوئة للسياسات الغربية ودفاعه المستميت عن السيادة الوطنية القبرصية ورفضه المشاريع الإلحاقية لأي جزء من الجزيرة بتركيا أو باليونان. ومنذ الانقلاب العسكري الرجعي الذي حدث عام 1974 بتواطؤ وتخطيط من النظام العسكري في أثينا الذي كان قد انقض بدوره على السلطة في اليونان عام 1967، وما أدى ذلك إلى تدخل تركيا عسكريا وإقامة كيان صغير موال لها في الشمال، لم تشهد الجزيرة استقرارا سياسيا ثابتا دائما حتى على الرغم من انهيار وفشل كلا الانقلابين اليوناني والقبرصي. وزاد الوضع تعقيدا في أعقاب وفاة مكاريوس بعد ثلاث سنوات من التدخل العسكري التركي في الجزيرة. وعلى الرغم من تناوب على الرئاسة القبرصية بعد رحيله أربعة رؤساء تراوحت اتجاهاتهم بين اليمين المعتدل والوسط، فإن ما من أحد منهم استطاع أن يملأ الفراغ الذي خلفه مكاريوس في الرئاسة، وبخاصة بالنظر إلى ما كان يمثله هذا الرئيس من زعامة كارزمية وصداقة وطيدة مع الدول العربية.. نقول هذا دونما أن نغفل ما للأوضاع السياسية المتدهورة التي يمر بها القبارصة والعرب على السواء من دور أيضا في فتور العلاقة التي تربط الطرفين، وتلوح اليوم في الأفق فرصة استثنائية تاريخية للاستفادة من فوز المرشح التقدمي خريستوفياس في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لتوطيد العلاقات القبرصية – العربية من جديد وتوظيفها في صالح قضايا العرب المصيرية الراهنة، وعلى الأخص القضيتان الفلسطينية والعراقية، وذلك لما هو معروف عن هذا الرئيس الجديد وحزبه من تأييد ثابت مبدئي لقضايا العرب. إن خلفية الرئيس خريستوفياس وهويته اليسارية لا ينبغي أن تخيف الدول العربية البتة، أو تحملها على التحفظ في العلاقة مع قبرص الدولة الصديقة تقليديا للعرب مادام الرجل معروفا باعتداله اليساري وشعبيته الواسعة داخل بلاده، ولاسيما أن الغرب مازال ينظر إلى أن عصر اليسار العالمي قد ولى بانهيار الاتحاد السوفيتي. وليس أدل على ما يتميز به هذا الرئيس الجديد من اعتدال وواقعية عقلانية أنه على الرغم من موقف حزبه المناهض لوجود القواعد العسكرية البريطانية فإنه لا يطرح حاليا بإلحاح برنامجا لإزالة هذه القواعد على الفور. كما لا يتبنى الرئيس وحزبه مشروعا اشتراكيا متطرفا لإلغاء ثوابت النظام الرأسمالي الذي يقوم عليه الاقتصاد القبرصي، حتى على الرغم من معارضاته وتحفظاته على اقتصاد السوق والخصخصة المنفلتة بلا ضوابط والعولمة. وهكذا لم يفز المرشح اليساري خريستوفياس إلا بفضل مرونة وواقعية برنامجه الانتخابي وابتعاده عن الشعارات اليسارية المتطرفة.. فهو يتبنى بقوة مشروعا لإعادة توحيد شعبه المقسم بين شمال تركي وجنوب يوناني. وكان حزبه “اكيل” قد عرف دائما بوقوفه ضد النزعات القومية والساسة القبارصة اليونانيين الرامية إلى إلحاق الجزيرة باليونان مثلما يقف ضد سلخ جزء منها لإلحاقه بتركيا أو تأسيس عليه كيان آخر. وبفضل هذه المرونة والسياسات الواقعية حظي الحزب وقائده بشعبية واسعة في أوساط كلتا الفئتين اليونانية والتركية، أو بالأحرى فإنه تمتع بتأييد هذه الفئة الثانية، وفي هذا الصدد صرح خريستوفياس عشية الانتخابات الأخيرة: “أريد أن أوجه رسالة صداقة إلى القبارصة الأتراك بأننا معهم في خندق واحد لإعادة توحيد وطننا ولنتمكن من إدارة أمورنا بعيدا عن التدخلات الخارجية”. وبفضل هذه السياسة الواقعية حظي في الانتخابات الأخيرة بدعم أبرز أحزاب اليمين فضلا عن دعم الكنيسة الأرثوذكسية المعروفة بنفوذها الديني والسياسي الواسع في أوساط القبارصة اليونانيين. علما بأن حزبه يعد اليوم أقوى الأحزاب القبرصية ويتمتع بثقل أساسي في مقاعد البرلمان الذي كان خريستوفياس نفسه رئيسا له قبل ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة. وقد بادر رئيس القبارصة الأتراك محمد علي طلعت بتهنئة الرئيس المنتخب واتفقا على عقد لقاء في أقرب فرصة لاستئناف المباحثات من أجل توحيد الوطن القبرصي المقسم بين جزأين منذ 34 عاما. وبفضل هذه السياسة العقلانية المتوازنة تجاه مشكلة الانقسام بين فئتي شعبه استطاع خريستوفياس أن يجذب لأول مرة نحو 400 قبرصي يسكنون في الشطر الجنوبي ذي الغالبية اليونانية للمشاركة في الانتخابات. كما أن وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند أعرب عن تفاؤله بتوحيد الجزيرة بعد فوز خريستوفياس. وفي ضوء كل هذه المعطيات المتقدم ذكرها والتي تؤكد النهج الواقعي العقلاني الذي يختطه الرئيس القبرصي الجديد في سياساته الداخلية والخارجية هل تبادر الدول العربية في ظل هذا الوضع السياسي الجديد الناشئ لتوطيد علاقاتهم مع قبرص، هذه الجزيرة الاستراتيجية التي تعد أقرب الجزر الأوروبية إلى منطقتهم العربية أم يمضون سادرين في مشكلاتهم الداخلية والإقليمية دونما اكتراث للاستفادة من هذه التطورات المؤاتية لهم؟
 
صحيفة اخبار الخليج
18 مارس 2008