المنشور

شيء من عبق آذار !!

في حياة شعوب الأرض قاطبة توجد لحظات مضيئة من التاريخ، محفورة في الذاكرة الجماعية من أيامٍ- ليست كسائر الأيام العادية- تستلهم منها الأجيال، التي تترى تباعا سرّ ديمومتها، اخضرارها الأبدي وتجددها السرمدي، التي لولاها (تلك الأيام الرمزية المجيدة)، لما استطاعت الشعوب أن تتطور وترتقي ولم يكن بمقدورِ التاريخ من الدوران، في حركته اللولبية -أبدا- نحو التقدم! يُشكل شهر مارس/آذار بالنسبة للتاريخ الحديث لهذه الفسيفساء / أرخبيل البحرين: هيبة، عزّة، شُموخ وجلال.. يرتشف من منهله، الذي لاينضب، جيل بعد جيل بدون أن يرتوي أو يشفي غليله! ففي كل مارس تجدد الطبيعة نفسها، حيث ‘النيروز’ يشق غسق الدجى، ببساطه الأخضر..وان كانت الأرض ظمآنة- حينئذ- لدماء حمراء قانية!كنا ثلة من اليافعين، لم نبلغ بعد مبلغ الرجال وان كنا ملأى بثقافة الحرية والتقدم المجلوبة من بذور الأفكار الجديدة التي أينعت و أثمرت بعد أن ذرّها كوكبة من الرواد قبلنا على هذه الأرض العطشانة، من شتى مدارس الحداثة أمثال ‘نظام’، ‘الباكر’، ‘مدان’ وآخرين .. نحمل في جوانحنا عزيمةً، سحريةً تحرك الجبال .. فانطلاقة الفتوّة، رمح لايخطىء الهدف ورصاصة جامحة تخترق المستحيل! شاء التاريخ -يومئذ- أن يضع على أكتاف ذلك الجيل الفتيّ، مسؤولية إشعال فتيل الشرارة الأولى لتلك الانتفاضة الجامعة في ساحة مدرسة الثانوية للبنين بالمنامة، في الأسبوع الثاني من مارس/ آذار سنة ,1965 تضامنا مع عمال ‘بابكو’، الذين أصبحت أرزاقهم عالقة في مهب الريح بسبب التسريح الجماعي للعمال البحرينيين من جراء تطبيق خطة الأتمتة ؛ ‘زيرو ديفكت’. كاتب هذه السطور، كونه شاهد عيان على تلك الانتفاضة، كان له شرف المشاركة فيها والحماس لها (بدون أي تباهىِ أو مزايدة) كأي تلميذ في مثل عمره -وقتئذ- في الصف الأول الثانوي في مدرسة المنامة الثانوية تلك، محاولا هنا وبكل أمانة – اعتمادا على الذاكرة – ترتيب أهم أيام أحداث ذلك الشهر، مع شيء من التركيز على مدينة المنامة وساحة المدرسة تلك، كونهما الساحتين الرئيستين للشرارة الأولى من جهة، وكوني ‘مناميّ’ من جهة أخرى .. ولعله من الأجدى ولسهولة تتبعها، يستحسن تلخيص مختصر يوميات الأحداث في الآتي: 
– يبدون الأخوة الكرام ( شاهدي عيان الأحداث)، الذين كتبوا عن ذكرياتهم عن مارس، عدم اتفاقهم على تواريخ الأيام بالضبط أو عدم تذكرهم ذلك مما أدى إلا خلط التواريخ بالأيام!
- هناك شيء من الانحياز والنرجسية والفئوية لادعاء أسبقية مشاركة مناطق وأماكن محددة من البحرين في الانتفاضة، منطلقة جُلّها من حبهم لمدينتهم وانحيازهم لمدرستهم السياسية.
- تقويم سنة 1965 هو بالضبط: 1 مارس/ آذار كان يوم اثنين مما يعني أن 5 مارس/ آذار كان يوم جمعة، 11 مارس/ آذار كان يوم خميس(هجوم الخيالة على الحرم المدرسيّ)، 13 مارس/ آذار يوم سبت (مظاهرة المنامة الكبرى) 14 مارس/ آذار كان يوم ‘الأحد الدامي’ الذي سقط فيه أربعة شهداء من المنامة دفعة واحدة!
- الشرارة الأولى كانت يوم الأربعاء 10 مارس/ آذار في الفسحة المدرسية حين أخرج زميلنا تلميذ الصف الأول ثانوي ‘سيد إبراهيم سلمان مكي’ (من سنابس- أصله من قرية الحجر) من تحت إبطه لفة من قماش أحمر اللون مع هتافات من’زمرتنا’ ومن المحيطين بنا (اتفاق مسبق)، ولكن خفت الهتاف والحماس تدريجيا، وانزوينا بين جموع التلاميذ، راجعين إلى الصفوف
- الخميس 11 مارس/ آذار تعالت الهتافات واندلعت المظاهرة في ساحة المدرسة مع عضد ومساندة من عمال بابكو الذين تجمعوا في الساحة الخارجية المقابلة للمدرسة (يقودهم عناصر جبهة التحرير العمالية)، مما أدى إلى هجوم الخيالة الشهير على الحرم المدرسي، تسبب فيه المهاجمون (من حيث لايريدون) في رد فعل عاطفي وقّاد من قبل التلاميذ،الأمر الذي سهل التحام طلابي – مستحب- قل نظيره، من مختلف الاتجاهات السياسية.
- جرى اعتقال خال سيد إبراهيم، في ذلك اليوم؛ نصر عبدالله معيوف (انتشرت حينئذ شائعة بمقتله)
- الجمعة 12 مارس/ آذار كان يوم التنسيق السري والإعداد العملي للمظاهرة الكبرى التي شهدتها البحرين قاطبة في اليوم التالي، ويبدو انه حدث بعض التجمعات والمظاهرات المتفرقة واعتصام خطابي في احد مساجد المحرق أبان صلاة الجمعة (لم تحدث مظاهرات كبرى)!
- السبت 13 مارس/ آذار يوم المظاهرات والمسيرات الكبرى المنظمَة على أثر المشادة المصطنعة بين سيد إبراهيم والمرحوم عبدالله يتيم أمام مبنى البلدية القديم، تحت شعار؛’ حرية..ديمقراطية..عاشت ذكرى البلدية’ بعد الظهر، بتخطيط من جبهة التحرير وبإشراف ميداني من الكادر القيادي عبدالله البنعلي، حيث جاوز عدد المشاركين في شوارع المنامة عشرين ألف شخص وفي المحرق ألوف مؤلفة أيضا.
- الأحد الدامي (في تاريخ البحرين الحديث) 14 مارس كانت ذروة المسيرات وبدء إطلاق الرصاص الحي وسقوط أربعة شهداء من جزيرة المنامة وهم : فيصل عباس القصاب/جاسم خليل عبدالله/عبدالنبي محمد سرحان/عبدالله مرهون سرحان .. وأعتقد انه من الإنصاف والمنطقي أن يحدد هذا ليوم بالذات (14 مارس/ آذار) كيوم مشترك للشهداء في مملكة البحرين!
- صدر في يوم الاثنين 15 مارس/ آذار بيان سياسي تاريخي حمل توقيعا مشتركا لستة قوى سياسية(يقال أنه طُبع بواسطة جبهة التحرير)، تضمن مطالب أساسية ومنتقدا بيان الحكومة الصادر في 13 مارس/ آذار.
- جرت الاعتقالات المتسلسلة بعد حريق ‘الكمباوند’ (مكان الديري كوين بجانب حديقة السلمانية) أما في يوم 15 أو 16 من مارس/ آذار، حيث اعتقل علي دويغر، علي ربيعة ثم أحمد الشملان وآخرين. 
– لم يجر اعتقال التلاميذ الذين كانوا تحت السن القانونية (حسب اجتهادي) بل فُصلوا لاحقا من المدرسة ولم يُسمح لهم بتقديم الامتحانات الرمزية بعد شهور قصيرة من الانتفاضة..كنت أحد المفصولين من بين عشرات من التلاميذ واعدنا السنة الدراسية نفسها بعد أن سُمح لنا في سبتمبر بالرجوع إلى مقاعد الدراسة.
- حتى نكون منصفين فيما يتعلق بمشاركة القوى السياسية الثلاث الجامعة حينئذ في أحداث مارس وهم جبهة التحرير والقوميين والبعثيين، لابد لي أن اعبر عن وجهة نظري الشخصية عن تلك الإسهامات راجيا أن لا يأخذني الميل والانحياز للطرف الأقرب إلى قناعتي السياسية وان حدث ذلك فأتمنى أن يكون حسن النية شفاعتي.. مفاد رأيي هو أن القاعدة الشعبية وان كانت قومية وناصرية الهوى وخصوصا في المحرق وجيوب المنامة(أهمها الحورة) إلا أنها كانت حركة فضفاضة واسعة تعوزها التنظيم والانضباط الحزبي مما سهل عمليتي الاختراق والاعترافات ومن ثم الاحباطات والتحولات والانشقاقات، على عكس التحرير التي اتسمت منذ البداية بالعمل السري المبني على آلية الخلايا العنقودية بالرغم من صغر حجمها التنظيمي، ساحة نفوذها الأقوى كانت في المنامة والقرى الشمالية والوسط العمالي. أما البعثيين في البحرين فقد اتسموا وما زالوا بالحضور النخبوي المبني أساسا على المثقفين والمتعلمين والكفاءات الإدارية، مما سهل عليهم مشاركة النظام ومعارضته في آن واحد.
- من المؤكد أن انتفاضة مارس/ آذار قد مهّدت وسرّعت في استقلال البحرين السياسي بالرغم من الضحايا وسوء التقدير من كل الأطراف ولكن هكذا هو سير التاريخ؛ البعض يزرع والآخر يحصد!
- وأخيرا- ليس آخرا- فان هذه الملاحظات، على عجالة وفي هذه المساحة المحدودة، لا تعدوا إلا أن تكون أولية، شخصية بحتة، ناقصة وغير محصّنة عن الأخطاء التاريخية والتقييمية!
هذه نقاط من بحر.. وهناك الكثير الذي يمكن قوله ولكن ليس كل ما يٌعرف يُقال! .. بالطبع لكل مشارك من الآلاف المؤلفة من المواطنين، الذين عاصروا تلك الفترة العصيبة، نقاطه وتحليله وذكرياته الخاصة. إلا أن الضرورة تقتضي الآن، التوثيق العلمي لتاريخنا الوطني مما يستوجب الجهد الجماعي النزيه والمحايد بلا مبالغات أو شطحات، ولذلك جميعنا في حاجة ماسة- أكثر من أي وقت مضى- إلى أن تُفتح الملفات الرسمية والأمنية لتلك الفترة أمام الباحثين، بغرض الوصول إلى توثيق تاريخنا المشترك، من مختلف الزوايا والرؤى بما فيها الرسمية وذلك لأهميتها التدوينية المتوفرة. وعندما نصل إلى تلك الدرجة من الشفافية المرجوة من قبل الجميع فان الحقائق تنجلي ناصعة واضحة، دون ادعاء أو بهرجة، لتجد طريقها للنشر في مناهجنا الدراسية، أسوة بالدول المتقدمة التي توفر تاريخها الوطني الحقيقي لطلاب الدراسة ولصفحات التاريخ!
 
صحيفة الوقت
16 مارس 2008