المنشور

الدكتاتورية المخملية والديمقراطية المستأنسة في الوطن العربي

لعل ما ينطق به واقع الأمم المتحررة ان ديمقراطية أنظمتها المتطورة، ما هي إلا حصيلة للنهضة الإنسانية والعلمية والتكنولوجية الكبرى، تخللتها مراحل تاريخية بالغة القسوة والصعوبة من الصراعات السياسية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والطبقية، التي اتسمت بروائع تضحيات شعوبها، بحسب ما جاءت حافلة بعطاءات عباقرتها وأقلام فلاسفتها وعقول مفكريها، الذين حملوا مشاعل الحرية والأنوار، وتجشموا أعباء ومخاطر الكلمة “الجريئة”، ونشروا مبادئ الحرية بنسج ملاحم التضحيات البطولية، من أجل تحقيق الديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية والمدنية، وفي سبيل مبدأ التعددية وحرية الفكر والرأي والمعتقد، ضمن عملية المشاركة الحقيقية في صنع القرارات السياسية، على أساس مبدأ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع أمام القانون والدستور لدى دولة المؤسسات والقانون، والقائمة على مفاهيم فصل السلطات الثلاث ومبدأ تداول السلطة. وهكذا جاءت نضالات المعارضة السياسية المستنيرة في الوطن العربي، مماثلة لنضالات أولئك الفلاسفة الذين مهدوا لأكبر الثورات الإنسانية والاشتراكية الكبرى، بل شاركوا في صلب قضاياها وأتونها.. جاءت نضالات الأحزاب العربية وخاصة الأحزاب الشيوعية، ذات الانتماءات الأيديولوجية الاشتراكية والتقدمية، التي قادت جماهير الشعب العربي على طول الساحة العربية منذ عقود من الزمان.. عبر نضالات جاءت معبرة عن إرادة الشعب ورغبته.. منسجمة مع حقوق الإنسان وحرياته.. نضالات هذه الأحزاب الجماهيرية والتقدمية والمدعومة بحقائق التاريخ النضالية والمقرونة بالوثائق التاريخية، والموثقة بتداعيات الأحداث السياسية والاجتماعية والثورات الوطنية.. بقدر ما ارتبطت تلك التضحيات برحلة عذابات البطولات الوطنية والمبدئية، التي في ضوئها دفع هؤلاء المناضلون الثمن غاليا، وقدموا ضريبة الاستشهاد وضريبة السجون والمنافي والمعتقلات، سواء خلال مرحلة الاستعمار الأجنبي أم مرحلة التحرير والاستقلال الوطني، التي هي الأخرى تخللتها قوانين حالات الطوارئ والأحكام العرفية لدى مختلف أقطار الوطن العربي. ولكن على الرغم من ذلك كله فان العديد من أنظمة الدول العربية قد تفاعلت مع ما يستجد على الساحة العالمية من تحولات ديمقراطية، بقدر ما تجاوبت مع نضالات الشعوب العربية وتضحيات معارضتها السياسية، وخاصة منها الأحزاب التقدمية، وذلك بإدخال بعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية والدستورية.. ولكن ما يبعث على حيرة المعارضة السياسية وتساؤلاتها ان هذا التفاعل اتسم بالتجميل السياسي.. وان ذاك التجاوب جاء مغلفا بأساليب ديماغوجية (منقوصا ومبتورا أحادي الجانب) بقدر ما كان متناقضا وجسامة تضحيات المعارضة السياسية، وبحسب ما تؤكد تداعيات هذا التجاوب وحقائقه أنها تصبح لصالح النظام السياسي الرسمي بالمقام الأول، الذي يحاول بأي حال من الأحوال أن يرسخ دعائم حكمه وأركان تنظيماته وقوانينه وأنساقه بأكبر قدر من البقاء والاستمرارية على كراسي السلطة.. وذلك بمحاولات هذا النظام الرسمي أو غيره إقناع الرأي العام المحلي الشعبي، والرأيين العربي والعالمي، بديمقراطيته.. ولكنها تظل ديمقراطية في الصورة والمظهر من دون المحتوى والجوهر، مهما سعى هذا النظام العربي أو ذاك من وضع الرتوش والمكياج والديكور على ديمقراطيته.. ولكن هذا النظام الرسمي العربي يظل بالمقابل عاجزا عن إعطاء صورة حقيقية وإيجابية لجوهر هذه الديمقراطية.. لكون ديمقراطيته تعكس بماهيتها أنها ديمقراطية مستأنسة بطابع من الأوتوقراطية المخملية. وإصلاحات سياسية شكلية وترقيعية مفعمة بسياسة الالتفاف على مواد الدستور، ومحاولة ترجمتها حسب مقاسات النظام السياسي، بقدر توظيفها لسياسته الاستبدادية في ظل نظام حكم الفرد ونظام الحزب الحاكم، بحسب تطويعها لخطاب الدولة القطرية، القائم على التقاليد البطريركية.. الأمر الذي يدفع عادة بهذا النظام العربي أو الآخر الى تهميش الجمعيات والمؤسسات السياسية وأحزاب المعارضة الوطنية والتقدمية وإقصاء مؤسسات المجتمع المدني عن المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات السياسية. ويكفي استدلالا بهذا الصدد معاناة الكثير من الأحزاب والجمعيات السياسية التجاهل والإبعاد والتهميش.. بحيث غالبا ما يعلن قادتها ورموزها الوطنية الكثير من سلبيات السلطة التنفيذية، إزاء تغييب المعارضة السياسية التقدمية عن دورها الوطني المحوري.. وتهميش مختلف الأحزاب والجمعيات السياسية المستنيرة والديمقراطية، ومنها الشروط القاسية إزاء تشكيل الأحزاب السياسية، التي بموجبها تشترط الحكومة عدم السماح بتشكيل أي حزب سياسي جديد، ما لم يشفع الطلب بتوقيع خمسمائة مؤسس يرفع إلى السلطة التنفيذية.. ومعارضة الحكومة تشكيل أي من لجان التنسيق ما بين الأحزاب أو الجمعيات السياسية ما لم تعط موافقة من الحكومة.. واستفراد الحكومة في البت في أي تعديلات تجرى على مسودة قانون الأحزاب والجمعيات السياسية والأهلية، بقدر تجاهل السلطة التنفيذية تلك الملاحظات والفِكَر التي تبديها مؤسسات المجتمع المدني حول هذه التعديلات. وثمة شكوى أليمة لمختلف الأحزاب والجمعيات السياسية وبالأخص المحسوبة على التيارات والانتماءات التقدمية، من عجز في ميزانياتها، وذلك لضحالة ما يرصد من مخصصات التمويل المادي لها الذي لا يفي وسد أبسط متطلباتها ومصاريفها ونشاطاتها وفعالياتها وحقوقها السياسية والاجتماعية المشروعة.. ورفض العديد من الأنظمة العربية توقيع بعض الاتفاقيات الدولية، وخاصة المتعلقة بحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب.. كما ان التداخل في المهمات السياسية التنفيذية والتشريعية والقضائية ما بين السلطات الثلاث هو ظاهرة تبدو واضحة الجلاء لدى الكثير من سياسات الحكومات العربية مما يؤدي الى تهميش عملية المشاركة السياسية، ومبدأ الفصل ما بين السلطات الثلاث. من هذا المنطلق.. منطلق مفاهيم الدكتاتورية المخملية للحكومات العربية، واتسامها واقترانها بمفاهيم الديمقراطية المستأنسة والمهمشة.. فإن العديد من قادة الأحزاب التقدمية والماركسية، ذوي الصوت القوي للمعارضة السياسية، غالبا ما وصفوا الانتخابات البرلمانية بأنها “مسرح عرائس” حينما لا يملك البرلمان السلطة الحقيقية التشريعية والشعبية المنوطة به.. “في ظل غياب إصلاح دستوري وفي ضوء تهميش العقد الاجتماعي”، بحسب ما يصرح به قادة الأحزاب والجمعيات السياسية.. الأمر الذي يدفع بالعديد من متخذي القرار السياسي في الوطن العربي إلى أن ينطق لسان حالهم “بأن النقد الموجه من قبل الأحزاب المعارضة للسلطة الى تراجع الإقدام ونبع الحماسة للانتخابات البرلمانية، وتقليل الإقبال على هذه الانتخابات لنسب انخفضت كثيرا، مثلما حدث في المغرب عندما تراجع الإقبال على الانتخابات وانخفض عدد الناخبين من 67,4% عام 1984م الى 51,6% لانتخابات عام 2002م”. لعل القول في نهاية المطاف يبقى صحيحا إن الدكتاتورية المخملية والديمقراطية الشكلية المستأنسة في الوطن العربي تمثلان غطاء للسيطرة المحكمة بمصادرة الحريات العامة المنشودة وتهميش الديمقراطية والأحزاب والجمعيات السياسية، ليس هذا فحسب ولكن تمثلان أيضا تهميشا للدستور والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني.. ونستطيع القول بهذا الشأن ان هذه الأنظمة العربية ستخسر احترام شعوبها ومعارضتها السياسية بمزيد من اللامبالاة، بحسب ما تفتقد دعم وعقول مفكريها وعلمائها وعباقرتها، ما لم تسع حكومات هذه الأنظمة الى تعزيز المشاركة الشعبية مشاركة فعلية ضمن مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع في ظل ديمقراطية قائمة مفاهيمها على مبدأ الشفافية واستقلالية القرار والمشاركة في صنع القرارات الخاصة والعامة وتمتع كل فرد بحقوقه السياسية والاجتماعية والمدنية في ظل القانون والدستور.
 
صحيفة اخبار الخليج
14 مارس 2008