المنشور

شيء من الذاكرة (2)

عندما قال أحمد سالم كلمته ومشى بتمتمته، خطا بضعة خطوات إلى الأمام بمحاذاة ‘دولاب الباليوز’ باتجاه ‘فريج الفاضل’ .. توقف فجأة، ثم نظر إلى ساعته وأخذ يتلفت بنظرات بعيدة، يراقبنا أحياناً ويرصد البحر والساحل والمارة في آن، أحياناً أخرى، كأنه ‘مخبر سري’، أو ‘حرامي’ يحوم في مكان ليسرق ما يتيسر له من غنيمة، أو ربما خرج مبكراً لموعد ينتظره مع عشيقة، لكـنه عاد إلى الوراء، فَقَطَعَ ‘الأسكلة’ [1] الى آخر نقطة فيها وجلس على حجر كبير من أحجارها المترامية يقرأ كتابه. كنا، الصبية الخمسة، واثقين أن أحمد ولد ‘سالم خطر’ [2] ليس مخبراً سرياً، لأننا لم نكن من المنشغلين بالسياسة آنذاك، أو المغرمين بالتحدث فيها، ولم نظنه البتة، ‘لصاً’ يتعقب ‘أكياس’ نقودنا، فقد كان الكل يعرف أننا من الفقراء ومصروف اليوم الدراسي لكل واحد منا ‘آنتين’ (أي 12 فلساً فقط) وكنا نضرب أسداساً في أخماس قبل شراء ‘روتية وسمبوساية’ وهي القيمة الفعلية لهذا المبلغ الزهيد لشراء تلك الوجبة الرئيسة: ‘السندويتشه’ في المدارس، ونواجه في كل يوم دراسي هذه المسألة الملحة التي تداعب تفكيرنا: نقضي على ‘الآنتين’ في أية فسحة؟!، إذا تناولنا ‘الوجبة’ في الفسحة الأولى من اليوم الدراسي،، نجوع في الثانية، وإذا أكلنا في الفسحة الثانية حتى نهاية الدوام لآخر جرس يقرع، ‘الفسحة الأخيرة’ لا نشتهي تناول الغذاء في البيت فيما بعد، فيما نحن ننظر إلى أبناء الذوات والميسورين وهم محلقون على ‘أكياس مملوءة بالسنبوسة، وساندويتشات الجبنة والجام، وأيضاً الكبدة، وفي يد كل واحد منهم قنينة ‘بيبسي كولا، أو كوكا كولا أو فانتا’ يهضمون بها وجباتهم الدسمة، في حين نحن الخمسة وغيرنا كثيرون، لا خيار لنا غير ‘دَفْع الروتية السنبوسة’ بماء حنفية المدرسة الذي لا زالت ملوحته تذكرنا بتحايلنا على هضم الوجبة اليتيمة من الفم إلى البلعوم .. إلى المعدة بشكل سلس ننافس بها أولاد الذوات. هكذا .. وأكثر، وكان يتطلب من أبناء الفقراء إذا أرادوا تقليد أولاد الميسورين لشراء ‘غرشة بيبسي’ يتقاسمونها فيما بينهم، على المشتري أن يصوم ثلاثة أيام لتوفير مبلغها (أربع آنات- 25 فلساً آنذاك) ومبلغ ‘سندويتشته أم السنبوسة والروتية’. ورغم صعوبة الصيام أو التوقف عن الصرف ثلاثة أيام دراسة وأكثر (كي نتبرجز) نحتال على ذلك بسرقة ‘الماو والصفر’ من ‘كيبل’ محطة الكهرباء، أو الذهاب إلى البحر والعمل على بانوش بيت عمران أو بيت حجي مكي، أو العمل في إجازات الصيف بأعمال تحرمها القوانين الدولية على مستخدمي الأطفال، الذين من المفترض أن يكون مكانهم الطبيعي مقاعد المدرسة، والإجازات للاستمتاع وإعطاء الطفولة معناها الحقيقي الذي عرفناه فيما بعد من بطون الكتب، أو من سفراتنا لدول الغير، وتعلمناه من السياسيين والحقوقيين القدماء الذين لو لا هم، ولو لا وعيهم وتضحياتهم وشجاعتهم لما أكمل أحدنا تعليمه الجامعي في الخارج عن طريق تنظيماتهم السرية التي كنا نسميها ‘وزارة التربية الموازية للحكومة آنذاك’. كثير منا تساءل أثناء صباه، ربما أمام ‘إمام الجامع، أو والده، أو والدته، أو أصدقائه: لماذا خلق الله الناس فقراء وأغنياء؟، وكان الجواب يأتي في قوالب جاهزة لا تتعب التفكير، وكأن الكل قرأ على يد شيخ واحد: هذه هي الدنيا، وسبحانه تعالى له حكمة في تقسيم الأرزاق، فيقسمها على عباده الصالحين كما يشاء، فمن له نصيب يقدمه له ويحصل عليه .. ولا اعتراض على هذه القسمة. ذات مرة، سألت والدي (رحمه الله) بنية الفهم والاقتناع ليس إلا: إذاً، لماذا لم نكن نحن من الأغنياء، وهم (الميسورين) القلة في منطقتنا يصبحون فقراء؛ ألسنا من عباده الصالحين؟!. انزعج الوالد كثيراً، وصار يوبخني، وكأنني قلت قولاً قبيحاً، أحسده على راتبه الذي لا يتجاوز العشرة دنانير (مائة روبية) حتى أوائل السبعينات؛ فصاح في وجهي بصوت عالٍ: ‘هل تعترض على قسمة ربك .. واما بنعمة ربك فحدث’. لا، أريد أن أفهم فقط …. لماذا نحن فقراء وهم أغنياء؟ لماذا ‘خرجيتنا’ آنتين بالكاد تكفي لـ’روتية وسمبوساية’ واحدة (للأمانة كانت من الحجم الكبير)، وهم، أبناء الذوات، يأكلون ساندويتشات بأصناف مختلفة من الطعام الشهي، ويدفعون ما يهضمونه بالبيبسي كولا، ونحن نهضمه بماء حنفية المدرسة غير الصالح للشرب، والموجع في زاوية قرب الحمامات لغسل الأيدي، وأحيانا، الأرجل من الأتربة؟!. آنذاك، كانت تشغلنا هذه الأسئلة ـ أسئلة الجوع والحرمان ـ أكثر من انتفاضة مارس ,1965 وما يجري على الساحة من أحداث دامية، وإنْ كانت تتوارد أنباء على أسماعنا عن كل من تمَّ اعتقاله، أو إصابته برصاص من أبناء حيّنا الفقير، ونتوجع لآلام أهاليهم المنكوبين، كما نتابع تجمعات الشباب، ونسمع منهم آخر الأخبار في المناطق الأخرى المشتعلة: كم شخص قتل، وكم شخص أصيب أو اعتقل، وكانت الأجواء مشحونة، ومنطقة رأس الرمان ليست استثناءً، حتى صار الصبية في أعمار (10و11و12 عاماً) يفكرون بأشياء أكبر من سنهم، وصاروا يشاركون من حيث لا يدرون في فعل المنتفضين. (وللحديث بقية)

[1] ‘الأسكلة’: مرفأ سفن مبني من أحجار البحر بطول نحو مئة متر أو أكثر إلى الخور الأول لبحر رأس الرمان.
[2] أول سائق رأس رماني لسيارة بابكو المعروفة بسالم خطر، حتى أخذ هذا اللقب والد أحمد سالم.
 
صحيفة الوقت
13 مارس 2008