المنشور

الأمل آخر ما‮ ‬يموت

ذات‮ ‬يوم من عام ‮٤٨٩١ ‬كان في‮ ‬هافانا،‮ ‬عاصمة كوبا البعيدة‮. ‬هناك رأى بغتة تمثالاً‮ ‬مذهلاً‮ ‬لدون كيشوت على ظهر جواده وبيده رمحه‮.‬ إنها الصورة المألوفة لدون كيشوت،‮ ‬ولكن هذا التمثال كان محبوكاً‮ ‬من الخيزران،‮ ‬وقد أعطاه هذا الخيزران قوة لا‮ ‬يمكن توقعها‮. ‬ إن قضبان الخيزران استطاعت إظهار عضلات الحصان بشكل لم‮ ‬يسبق له أن رآه في‮ ‬أي‮ ‬تمثال سابق،‮ ‬ثم انتبه إلى الرجل الذي‮ ‬يمتطي‮ ‬الحصان،‮ ‬أي‮ ‬دون كيشوت نفسه،‮ ‬الخيزران ذاته الملفوف ليشكل كتفيه وزنديه وصدره وفخذيه أظهره شخصاً‮ ‬خيزرانياً،‮ ‬للمرة الأولى‮ ‬يبدو دون كيشوت أمامه نحيلاً‮ ‬وقوياً‮ وليس هزيلاً،‮ ‬وكان نحوله نحول شخص كله أعصاب متوترة،‮ ‬وهي‮ ‬أعصاب توحي‮ ‬بالقوة والعزم والإرادة‮.‬ وبالإضافة إلى ذلك كان فيه عضل‮. إنه العضل الذي‮ ‬نعرفه عند لاعبي‮ ‬الكاراتيه وفنون القتال،‮ ‬عضلات الأجسام المفتولة التي‮ ‬ليس فيها‮ ‬غرام واحد زائد‮. ‬كل ما تراه من الجسم لازم له،‮ ‬كل ما فيه عزم وقوة وفحولة‮.‬ حين شرح ما رآه كتب‮: “‬لو أنني‮ ‬استطعت تصوير ذلك التمثال لفزت بأجمل صورة‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحصل عليها مصور للرجل المثالي‮”. ‬وسيتخذ من ذكرى هذا التمثال في‮ ‬هافانا البعيدة توطئة لشرح موقفه من فكرة الرجل الذي‮ ‬يواجه قدره،‮ ‬مواجهة مستحيلة مع أخطاء العالم،‮ ‬وهذا ما فعله في‮ ‬حياته كلها،‮ ‬وما فعله بخاصة منذ أن أخذ‮ ‬يصارع الموت،‮ ‬هو الذي‮ ‬جبل على حب الحياة‮. ‬ صاحب هذه الحكاية هو الراحل ممدوح عدوان الذي‮ ‬ظل حتى رمقه الأخير على خط الدفاع الأمامي،‮ ‬على جبهة الثقافة،‮ ‬منافحاً‮ ‬عن فكرة المقاومة‮. ‬بل كان مقاوماً‮ ‬للهزيمة،‮ ‬هو الذي‮ ‬يدرك شأنه شأن أي‮ ‬مبدع كبير،‮ ‬بما‮ ‬يملك من رهافة حس وبصيرة‮ ‬يقظة،‮ ‬أن هزيمة النفس،‮ ‬هزيمة الذات هي‮ ‬الهزيمة الحقيقية التي‮ ‬تجعل من الهزيمة الشاملة قدراً‮ ‬لا راد له‮.‬ لذا فإنه كان‮ ‬يعمل من موقعه‮: ‬مسرحياً‮ ‬وشاعراً‮ ‬وكاتباً‮ ‬للدراما ومترجماً‮ ‬للآداب العالمية‮. من أجل الانتصار للحياة،‮ ‬من أجل أن‮ ‬يظل الأمل باقياً،‮ ‬ليس فقط لأن الأمل آخر ما‮ ‬يموت،‮ ‬كما تقول حكمة روسية،‮ ‬وإنما من أجل بلوغ‮ ‬تلك الحال التي‮ ‬لا‮ ‬يعود بوسع الأمل فيها أن‮ ‬يموت‮.‬
 
صحيفة الايام
13 مارس 2008