المنشور

فقر وغنى

حتى الأرقام تفقد أحياناً‮ ‬جاذبيتها،‮ ‬أو قدرتها على شد الانتباه أو لفت النظر أو إثارة الغرابة‮. ‬ ما أكثر ما‮ ‬يعتاد الناس على الأرقام‮ – ‬الصواعق،‮ ‬فلا تعود تثير لديهم دهشة أو استغراب،‮ ‬ودليل ذلك أننا كثيراً‮ ‬ما نطالع أرقاماً‮ ‬عن عدد الأميين في‮ ‬البلدان العربية والنسبة المئوية لمن لا‮ ‬يستطيعون حتى فك الحرف،‮ ‬أو نقرأ عن حجم الودائع المالية العربية في‮ ‬البنوك الغربية،‮ ‬وعن المبالغ‮ ‬التي‮ ‬نهدرها أحياناً‮ ‬في‮ ‬شراء التوافه من الأشياء‮.‬ ومع ذلك فإن الأرقام لا تجعلنا نفغر أفواهنا من هول الصدمة،‮ ‬لأن جلودنا باتت سميكة وعصية على الاختراق السهل،‮ ‬ولأن الرقم حين‮ ‬يطلق مجرداً‮ ‬يبدو أشبه بالطلسم أو بالأمر فاقد الدلالة أو ضعيفها،‮ ‬ولكي‮ ‬نقدر فداحة ما‮ ‬يومئ إليه أو‮ ‬يدل عليه علينا تفكيك هذا الرقم إلى وقائع وتفاصيل وحيثيات‮.‬ شهد القرن العشرون حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات الملايين،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن عدد لا‮ ‬يحصى من الحروب الأهلية والإقليمية في‮ ‬مختلف مناطق الكوكب أودت هي‮ ‬الأخرى بعدد مهول من أرواح البشر،‮‬هذا‮ ‬غير ضحايا الأوبئة والأمراض وزلازل الأرض والكوارث الطبيعية الأخرى،‮ ‬لكن رغم ذلك فإن نفس القرن شهد زيادة عدد سكان الأرض مما‮ ‬يزيد قليلاً‮ ‬على مليار ونصف المليار نسمة في‮ ‬مطالعه إلى ستة مليارات قرب نهايته‮. ‬ إن المقارنة هي‮ ‬ما‮ ‬يتيح تبين الفروق بين الأرقام وبين الأشخاص وبين الظواهر‮. ‬ومقارنة عدد سكان الأرض في‮ ‬بداية القرن العشرين ونهايته تتيح حجم الفارق،‮ ‬وهو كما نلاحظ فارق مهول‮.‬ القضية تكمن في‮ ‬أن عدد سكان الأرض تضاعف عدة مرات فيما ثرواتها في‮ ‬تناقص بفعل الاستغلال العشوائي‮ ‬لهذه الثروات،‮ ‬حيث‮ ‬يرهن كل جيل على أنه أكثر أنانية من الجيل الذي‮ ‬سبقه في‮ ‬استنزاف ثروات الأرض دونما حسبان لحق الأجيال القادمة من هذه الثروات التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن إعادة إنتاجها،‮ ‬بل إن بعض هذه الثروات لا‮ ‬يمكن تعويضه بثروة مقابلة أو بديلة في‮ ‬حال نفادها المحتم‮.‬ يبلغ‮ ‬حجم الإنفاق العسكري‮ ‬العالمي‮ ‬ما‮ ‬يتراوح بين سبعمائة إلى ثمانمائة مليار دولار أمريكي‮ ‬سنويا،‮ ‬فيما قدرت هيئة الأمم المتحدة نفقات توفير التعليم الأساسي‮ ‬على المستوى الدولي،‮ ‬ونفقات التغذية المناسبة ومياه الشرب،‮ ‬والبنى الصحية الضرورية إضافة إلى الرعاية الصحية بحوالي‮ ‬أربعين مليار دولار فقط في‮ ‬كل سنة،‮ ‬وعلينا ملاحظة المفارقة المؤلمة،‮ ‬فالعالم الذي‮ ‬يرفض توفير هذه المليارات الأربعين لتأمين المستوى الضروري‮ ‬من العيش الكريم لأبنائه،‮ ‬ينفق بصورة عبثية ما‮ ‬يصل إلى ثمانمائة مليار دولار على التسلح‮.‬ والعالم اليوم،‮ ‬وأكثر من أي‮ ‬وقت سابق،‮ ‬يمضي‮ ‬نحو المزيد من الاستقطاب العميق بين فقر مدقع وغنى فاحش‮. ‬وحسب كتاب أمريكي‮ ‬أصدرت ترجمته للعربية الجمعية المصرية للنشر والثقافة العالمية وعنوانه‮ “‬ما وراء الأرقام‮: ‬قراءات في‮ ‬السكان والاستهلاك والبيئة‮” ‬فإن في‮ ‬العالم نحو ‮٢.٢ ‬مليون ملياردير وأكثر من ثلاثة ملايين مليونير،‮ ‬ولكن به أيضاً‮ ٠٠١ ‬مليون بلا مأوى‮ ‬يسكنون الأرصفة ومقالب القمامة وتحت الجسور‮. ‬ والمفارقة التي‮ ‬يسوقها محررو الكتاب هي‮ ‬أن مبيعات السلع الفاخرة على النطاق العالمي،‮ ‬من أرقى الأزياء وأفخر السيارات وغيرها من علامات الثراء الأخرى تساوي‮ ‬إجمالي‮ ‬النواتج الوطنية لثلثي‮ ‬بلاد العالم!
 
صحيفة الايام
11 مارس 2008