المنشور

حكايات من تاريخنا (54)

مجتمعنا المدني بين الأمس واليوم سبق أن تناولنا في هذه الزاوية تحت عنوان “وثائق الاستقلال” موضوعات العدد الخاص الذي أصدرته مجلة الدراسات الاستراتيجية بعنوان “وثائق الأمم المتحدة حول استقلال دولة البحرين” (1969-1971)، ولعل من محاسن الصدف أن يصدر بعد أيام قليلة من صدور هذا العدد كتاب جديد للصديق الدكتور عبدالله المدني تحت عنوان “فيتوريو وينسبير جيوشياردي ودوره في تأكيد سيادة وهوية البحرين” وهذا الكتاب يلقي الضوء على أهم شخصية دولية كان له دور تأثيري حاسم في حق تقرير المصير للشعب البحريني في نيل البحرين استقلالها الوطني كدولة مستقلة ذات سيادة ألا هو وينسبير. ولئن كان العدد الخاص الذي أصدرته مجلة الدراسات الاستراتيجية قد تناول بعض الوثائق المتصلة بهذه الشخصية الدولية في سياق مهمة تقصي الحقائق التي كلف للتعرف على رأي الشعب البحريني في مدى رغبته في الاستقلال أو الانضمام إلى إيران أو أي خيار ثالث آخر، فإن الصديق المدني اهتم في كتابه المهم هذا، بإلقاء المزيد من الضوء على هذه الشخصية، وعلى الأخص في الفصل المتعلق بسيرته الذاتية على المستويين الشخصي والوظيفي. هو الذي رحل عن عالمنا في سبتمبر 1995 في هدوء عن 73 عاما في وقت بلغ الاحتقان السياسي الذي كانت تمر به جبهتنا الداخلية أوجه ولذلك لم يلتفت أحد حينئذ إلى خبر وفاته ولا إلى دلالات الخبر باعتباره يتصل بشخصية دولية دبلوماسية محنكة نزيهة لعبت دورا حاسما فائق الأهمية في مساعدتنا على حل قضية مصيرية بالغة الخطورة ألا وهي قضية تثبيت استقلالنا الوطني بعد انسحاب بريطانيا من البلاد وإلغاء معاهدات “الحماية” و”الصداقة” معها بتوافق الطرفين، وحيث كانت الأطماع الإيرانية تتربص بالوطن لتنفيذ مآربها التاريخية بإلحاقه بالقوة بإيران، تماما كما جرى لفلسطين غداة انسحاب القوات البريطانية عام 1948، وكما جرى للجزر الإماراتية الثلاث التي احتلتها إيران بالقوة العسكرية عام 1971، بعد الانسحاب البريطاني من الشارقة ورأس الخيمة. ولعل من الأمور المهمة اللافتة للنظر في نص تقرير جيوشياردي الذي نشر كاملا في الكتاب مترجما طبقا لما ورد في النص الإنجليزي ضمن مذكرة الأمين العام للأمم المتحدة المؤرخة في 30 ابريل 1970 انه في نهاية هذا التقرير يدرج هذا المبعوث الدولي ملحقا بقائمة المجالس والدوائر والجمعيات والمنظمات والجماعات الأخرى المعترف بها في البحرين، وهي المنظمات والجمعيات والجماعات التي استفتى رأيها شخصيا. وإذا ما صرفنا النظر عن المؤسسات الرسمية التي أدرجت في القائمة، كالمجالس البلدية والمجالس والدوائر المركزية، ومنظمات الرعاية، وهي كما هو مسلم به رأيها سيصب في صالح الاستقلال، فإن الدور الحاسم في التعرف على الرأي الشعبي إنما تمثل في مؤسسات المجتمع المدني الموجودة حينذاك والمتمثلة بغالبيتها الساحقة في الأندية الرياضية والتي كانت غالبيتها ذات وظيفة مزدوجة آنذاك ثقافية رياضية، ويبلغ مجموع هذه الأندية والمؤسسات 85 مؤسسة وناديا. إن هذه الأندية التي كانت موزعة بين المنامة والمحرق والقرى، بالإضافة إلى الرفاع، جميعها أو معظمها صوتت أو أبدت رأيها بالوقوف بكل حزم إلى جانب استقلال الوطن وعروبته، وهذا ما يعكس النضج الوطني العالي الذي كانت تتمتع به مؤسسات مجتمعنا المدني حينذئذ في التمسك بالاستقلال التام للبحرين وعروبتها، وما كان لهذا الوعي الوطني أن يسود في مرحلتنا الراهنة لو جرت مهمة وينسبير خلالها. وهو ما يوضح لنا بجلاء اختلاف مؤسسات مجتمعنا المدني هذا اليوم التي يطغى على معظمها التكتلات والاصطفافات الطائفية عن مؤسسات مجتمعنا المدني عشية الاستقلال الوطني حيث كانت غالبيتها الساحقة يطغى عليها الطابع الوطني والتركيبة العضوية المختلطة غير الطائفية وذلك إبان المد الوطني القومي. ولعل أهمية هذه الوثيقة (نص تقرير وينسبير جيوشياردي المؤرخ في 30 ابريل) تتمثل فيما يقرر فيها هذا المبعوث الدولي بشكل واضح لا لبس فيه، طبقا لما ورد في النقاط: 45، 46، 47 أنه “لم تكن هناك تباينات طائفية حول النقطة موضع البحث. فحتى رجال الدين من الطائفتين السنية والشيعية اتفقوا على رأي موحد”، ويضيف قائلا: “ولم يكن هناك تمايز مهم بين وجهات نظر السكان المنحدرين من المناطق الحضرية وأولئك المنحدرين من المناطق الريفية”.. ويضيف: “ركز ممثلو الجماعات الريفية بصورة تكاد تكون حصرية على هويتهم العربية وعروبة البحرين. ورغم أن هذه الأمور لم تكن موضوعا لأسئلتي، فإنها بدت لقرويين كثر تعبيرا كافيا عن رغبتهم في استقلال البحرين كجزء من الأمة العربية”. وفي الوقت الذي شكك كثيرون انتهازيون عشية التجربة البرلمانية الأولى 1973-1975 وطوال فترة حل البرلمان وسريان قانون أمن الدولة، وبخاصة خلال أحداث التسعينيات، في أهلية شعب البحرين لتمتعه بالحقوق الديمقراطية أقر ممثل بريطانيا في مجلس الأمن عام 1970 بأن أفراد هذا الشعب “قد أظهروا طول الوقت خلال مهمة وينسبير من الوقار وحسن المجاملة والثبات والثقة بالنفس بما لا يفيه حقه أي ثناء”. وهكذا فإن دراسة وتحليل وثائق الاستقلال في كلا المرجعين، عدد مجلة الدراسات الاستراتيجية وكتاب الصديق عبدالله المدني، لا تنطوي أهميتها على توثيق هذا الحدث الوطني المهم من الوجهة التاريخية فحسب بل تتيح للباحث تحليل هذه الوثائق وتمحيصها في مقارنة ما كانت عليه مؤسسات مجتمعنا المدني من نضج ووعي وطني متقدم في تلك المرحلة بما غدت عليه من وضع نقيض مؤسف في مرحلتنا الراهنة.
 
صحيفة اخبار الخليج
6 مارس 2008