المنشور

من يصنع العقل الشعبي؟

من بين الكتابات الصحفية التي قرأتها مؤخرا والتي تعالج بعمق اشكاليات الارتداد الحضاري العربي الراهن، بما في ذلك أزمة الحركة السياسية، مقال للباحث المصري المعروف السيد ياسين تحت عنوان “التنمية وتحديات الصراع الثقافي”، وفيه يناقش الكاتب التعقيدات العويصة التي تواجه المجتمع المصري في محاولات الانعتاق من الشمولية الفكرية والعبور إلى التعددية السياسية، وارتباط ذلك بالصراعات الثقافية التي تموج في المجتمع. ويميز السيد ياسين في هذا الصراع الثقافي بين 3 محاور من الثقافات المتصارعة: 1- ثقافة النخبة والثقافة الشعبية. 2- صراع بين الرؤى إلى العالم. 3- ثقافة الغنى وثقافة الفقر. ويؤكد ياسين ضمنيا أن تحديد هذه المستويات من الصراع الثقافي – الاجتماعي هي التي تدلنا على من يصنع العقل المصري. وبالطبع فان الغلبة في الظروف الراهنة هي لصالح الثقافة الشعبية على حساب ثقافة النخبة المعروفة في الغالب بتطورها الفكري والحضاري، فنتيجة للانتشار الواسع للأمية في المجتمع المصري تغدو الثقافة الشفهية هي الأكثر رواجا وانتشارا، وهي ثقافة حاسمة في صياغة العقل والوجدان الشعبي، وليس الكلمة المكتوبة. وأبناء هذه الثقافة يشكلون غالبية الشعب ولا يمتلكون الوسائل الضرورية للاطلاع على مصادر ثقافة النخبة. والواقع ان ما عالجه ياسين من اشكاليات أزمة التطور الحضاري الراهن – إذا جاز القول – لينطبق تماما على كل المجتمعات العربية، لا المجتمع المصري فقط، ومنها مجتمعنا البحريني، ذلك بأن النخبة السياسية البحرينية على اختلاف تجمعاتها من احزاب ومؤسسات مجتمع مدني ومثقفين وكتاب مستقلين يكاد يكون صدى أصواتها محصورا بين مجتمع هذه النخبة ذاتها، وبخاصة في فترات انحسار دور مؤسسات النخبة عن المجتمع كما هو الحال في المرحلة التاريخية التي يمر بها مجتمعنا البحريني حيث مازالت هذه المؤسسات الحزبية -الجمعيات السياسية- والمدنية تترنح وتتخبط في أزماتها المزمنة. وفي مثل هذا المناخ يغدو من المنطقي والطبيعي ان يكون أبناء العقل الشعبي البحريني بمختلف شرائحهم وفئاتهم الدينية مهيئين للتأثر بالخطاب الشفهي السهل الملائم لمستويات ثقافتهم الشعبية التي جبلوا عليها، وهي في الغالب الأعم سطحية أو متوسطة العمق في أحسن الأحوال. وإذا كان ياسين قد حدد اصحاب هذا الخطاب الشفوي المؤثر في عقول العوام بإمام المسجد أو الواعظ في الكنيسة فاننا نستطيع أن نضيف إليه هنا أيضا خطيب المنبر الحسيني، ماخلا استثناءات منهم، هذا بالإضافة إلى دور الكاسيتات الدينية التي تغرق الاسواق وهي زاخرة بكل ضروب الفكر الخرافي، والذي يصبح المرجعية الاساسية في القيم وفي السلوك الفعلي، على حد تعبير السيد ياسين. وهذه الفجوة الضخمة بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية إذ تمثل أكبر عائق أمام التقدم في المجتمع المصري كما يرى الكاتب، فانها تمثل أيضا، كما نرى، أكبر عائق للتقدم في مجتمعنا البحريني أيضا. هذا لا يعني – كما قال ياسين عن حق – انه في مطلق الاحوال ان ثقافة النخبة صحيحة، ولا ان كل الثقافة الشعبية تتسم بالبدائية والتخلف. وإذا كان ذلك هو محور الصراع بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية، فان المحور الثاني الذي وصفه ياسين بأخطر هذه الصراعات، يتمثل في الصراع بين رؤيتين إلى العالم متضادتين الرؤية الأولى “علمانية ليبرالية” وينبه الكاتب هنا إلى انها لا تعني اطلاقا فصل الدين عن المجتمع، بل ان تتبنى الدولة احترام كل الاديان ومعاملتها على قدر المساواة. أما الرؤية الثانية فهي رؤية دينية مغلقة متشددة على حد وصف الكاتب، حيث تصر على اقامة الدولة الدينية وتتبنى القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للآيات القرآنية والسنة ولتفرض معتقداتها على كل المجتمع بكل تركيبته وتعدديته السياسية والدينية والثقافية. أما المحور الثالث فهو الصراع الطبقي والذي أسماه ياسين “الصراع بين ثقافة الغنى وثقافة الفقر”، فثقافة الغنى تدفع إلى ابتداع وسائل لا نهائية لها للاستهلاك التفاخري والتركيز على المتع والملذات في حين ان ثقافة الفقر تدفع الى العنف والعدوان والجريمة. والحال فعلى البرغم مما تمتاز به معالجة ياسين من شمولية وعمق لقضية تخلف المجتمع المصري التي تنسحب على المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا البحريني، فإنه في سياق تناوله الصراع بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية يغفل الكاتب ما لهذه الثقافة الاخيرة من نخبة خاصة بها تتماهى معها وليست قاصرة على العوام. إذ هنالك مثقفون وتكنوقراط وحملة شهادات علمية عليا لا تروق لهم بالفطرة سوى هذه الثقافة الشعبية بل يعملون على التنظير لها والتشبه بالحداثة، ومن ثم فليس كل مريدي ومستقبلي الخطاب الشعبي المبسط هم فقط من العوام الاميين أو أنصاف الاميين. كما ان ياسين إذ يحدد ائمة المساجد وواعظي الكنائس باعتبارهم من مريدي هذا الخطاب الشعبي يغفل أيضا دور الفضائيات في نشره على نطاق أوسع، وكذلك الانترنت. وأخيرا فان ياسين لا يلتفت إلى ان خطاب النخبة من الممكن ان يؤثر في ثقافة العوام أو ابناء الثقافة الشعبية اذا ما اتسم خطاب النخبة بالبساطة والقدرة على الايصال، وهذا ما حدث مثلا في عصر صعود الحركات والتيارات القومية واليسارية، ولاسيما إذا ما استطاعت هذه الحركات أن تكون لصيقة من نبض أبناء الثقافة الشعبية ومعبرة عن همومها وراسمة لها بنجاح طريق خلاصها وتقدمها، وهذا لا يتأتى بالطبع إلا من خلال نجاحها في فرض الاصلاح السياسي الديمقراطي الجذري الحقيقي الشامل الذي مازال “حلما” يراود شعوب المنطقة.
 
صحيفة اخبار الخليج
5 مارس 2008