المنشور

الحياة في‮ ‬مكانٍ‮ ‬آخر

قرأت مرة أن وزير الثقافة في‮ ‬فرنسا لاحظ أن مكانة المطعم الفرنسي‮ ‬الأنيق والشاعري‮ ‬تتدهور لصالح محلات الهمبرغر والأكلات السريعة الأمريكية الأخرى،‮ ‬فطالب بتقديم الدعم المالي‮ ‬للمطاعم الفرنسية الشهيرة التي‮ ‬تواجه مصاعب مالية‮. وتعهد الوزير بتوفير المساعدة للطهاة الفرنسيين الشباب بشكل خاص لإقامة مطاعم جديدة عبر تقديم منح مالية مجزية لهم،‮ ‬وإتاحة الفرصة لتدريبهم على أيدي‮ ‬كبار وأمهر الطباخين المتخصصين في‮ ‬الأكلات الوطنية الفرنسية‮.‬ ويندرج هذا التوجه في‮ ‬سياق الصراع الثقافي‮ ‬الذي‮ ‬يزداد حدة حول‮”‬الاكتساح” ‬الثقافي‮ ‬الأمريكي‮ ‬لمظاهر الحياة الوطنية في‮ ‬البلدان المختلفة،‮ ‬والتي‮ ‬تشمل السينما والموسيقا التقليدية والملابس،‮ ‬وأخيراً‮ ‬الطعام‮. ولعلكم لاحظتم أن الوزير الذي‮ ‬فعل ذلك هو وزير الثقافة وليس وزير السياحة مثلاً،‮ ‬وأن وزارة الثقافة بالذات التي‮ ‬تمول المسرح والسينما والمكتبات العامة هي‮ ‬نفسها التي‮ ‬تعهدت بأن تقوم بدور الضامن أمام البنوك لنحو ‮٠٧‬٪‮ ‬من تكاليف المطاعم الجديدة،‮ ‬فالأمر‮ ‬يتصل بما دعاه الوزير‮: “‬التراث الثقافي‮ ‬والضمير الوطني‮ ‬لفرنسا”.‬ ومنذ سنوات صدر لاثنين من المؤلفين الأمريكيين كتاب عنوانه‮: “‬الاتجاهات الكبرى‮”،‮ ‬توخيا فيه رسم صورة مستقبلية للعالم مع بدء الألفية الثالثة،‮ ‬ورصد اتجاهات التحول الكبرى في‮ ‬العالم مع دخول البشرية قرناً‮ ‬جديداً‮.‬ لاحظ المؤلفان واسمهما ج‮. ‬نيبسات وب‮. ‬إيردين‮ “‬أن النزعة الاستهلاكية الحديثة هي‮ ‬المحرك الرئيس الذي‮ ‬يجعل الجميع‮” والمقصود هنا الجميع في‮ ‬العالم كله يحتسون القهوة ‮”‬الكابوتشينو”‬،‮ ‬ويرشفون المياه المعدنية‮ “‬بيريه”‬،‮ ‬بينما‮ ‬يؤثثون منازلهم من إنتاج مصانع‮ “‬إيكيا‮” ‬السويدية ويتذوقون طعم السوشي‮ ‬الياباني،‮ ‬ويرتدون جميع ملابس شركة الألوان المتحدة‮ “‬بنيتون”‬،‮ ‬ويتذوقون الاستماع إلى موسيقا‮ “‬الروك أند رول‮” ‬الأمريكية والإنجليزية،‮ ‬وهم‮ ‬يقودون سيارات‮ “هيونداي‮” ‬الكورية في‮ ‬طريقهم إلى مطاعم‮ “‬ماكدونالد‮”.‬ كان المؤلفان‮ ‬يوردان هذه الأمثلة في‮ ‬سياق حديث مطول آخر عن بزوغ‮ ‬ما وصفاه‮ “‬أسلوب حياة عالمي‮” ‬حين ترسخ التجارة العالمية والسفر والترحال وانتشار التلفزيون القاعدة لهذا الأسلوب الموحد،‮ ‬حيث تعدى تأثير التجارة العالمية مجرد عمليات بيع وشراء البضائع بين الدول،‮ ‬وأصبحت تمثل صورة جديدة لاقتصاد عالمي‮ ‬واحد‮. ويظل السؤال‮: ‬هل‮ ‬يحتمل هذا الاقتصاد العالمي‮ “الواحد” ‬ثقافات متعددة،‮ ‬تعكس عوالم وحضارات مختلفة تأبى أن تجد نفسها قد استوعبت في‮ ‬محيط العولمة الذي‮ ‬يأخذها نحو مصير واحد هو‮: ‬الغرق؟
 
صحيفة الايام
5 مارس 2008