المنشور

تباين السياسات النقدية يعكس اللاتوازن الاقتصادي

نادرا ما‮ ‬يقوم بنك انجلترا‮ (‬المركزي‮) ‬خلال شهر ديسمبر على تحريك سعر الفائدة،‮ ‬إلا انه خالف هذا العرف في‮ ‬شهر ديسمبر الماضي‮ ‬المنقضي‮ ‬عندما قام البنك في‮ ‬السادس من الشهر تحت حاكمية‮ ‘‬ميرفن كينج‮’ ‬بخفض سعر الفائدة بربع نقطة من‮ ‬75‭,‬5٪‮ ‬إلى‮ ‬5‭,‬5٪‮ ‬في‮ ‬نفس الوقت الذي‮ ‬قرر البنك المركزي‮ ‬الأوروبي‮ ‬الإبقاء على سعر فائدته عند‮ ‬4٪‮ ‬دون تغيير‮.‬ وهو أمر‮ ‬يعكس اختلاف سياسة المصرفين المركزيين حيال قلق كل منهما بشأن كيفية تحقيق توازن المخاطر بين إبطاء نمو اجمالي‮ ‬الناتج المحلي‮ ‬والتضخم الصاعد‮.‬ المصرفان المركزيان البريطاني‮ ‬والأوروبي‮ ‬يواجهان مأزقاً‮ ‬حقيقياً،‮ ‬فهماً‮ ‬من جهة‮ ‬يواجهان مشكلة تباطؤ نمو الاقتصادين اللذين‮ ‬يمثلان الاقتصاد البريطاني‮ ‬الذي‮ ‬تنبأت منظمة التعاون الاقتصادي‮ ‬والتنمية‮ ‬‭(‬OECD‭)‬‮ ‬تراجع نموه المتوقع من‮ ‬1‭,‬3٪‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬2007‮ ‬إلى‮ ‬2٪‮ ‬في‮ ‬‭,‬2008‮ ‬والاقتصاد الأوروبي‮ ‬الذي‮ ‬سيتراجع نموه من‮ ‬6‭,‬2٪‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬2007‮ ‬إلى‮ ‬9‭,‬1٪‮ ‬تحت تأثير أزمة الائتمان التي‮ ‬تعرض لها النظام المالي‮ ‬الأمريكي‮ ‬والأوروبي،‮ ‬ومن جهة ثانية فانهما‮ ‬يواجهان ضغوط التضخم الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط وأسعار المنتجات الغذائية والذي‮ ‬قدر بنك انجلترا في‮ ‬ضوئه أن‮ ‬يبقى التضخم فوق المستوى المستهدف للبنك وهو‮ ‬2٪‮ ‬في‮ ‬المدى القريب‮.‬ اللافت ان لجنة السياسة النقدية في‮ ‬بنك انجلترا التي‮ ‬حذرت من صعود مخاطر التضخم،‮ ‬ولكنها فضلت الاستناد إلى تباطؤ الاقتصاد في‮ ‬شهر نوفمبر الماضي‮ ‬إلى أدنى مستوى له منذ عام‮ ‬‭,‬2003‮ ‬لاتخاذ قرار خفض سهر الفائدة‮ .. ‬مع ان قرارها جاء في‮ ‬نفس اليوم الذي‮ ‬أظهرت فيه بيانات جديدة تراجع أسعار سوق العقار في‮ ‬نفس الشهر بنسبة‮ ‬1‭,‬1٪،‮ ‬وهو الانخفاض الثالث على التوالي‮ ‬في‮ ‬غصون الشهور الثلاثة الأخيرة‮. ‬ولعل سعر فائدة الإقراض البنكي‮ ‬الداخلي‮ ‬الذي‮ ‬تقوم البنوك بموجبه بإقراض بعضها بعضاً‮ ‬‭(‬Interbank rate‭)‬‮ ‬والذي‮ ‬عادة ما‮ ‬يكون أعلى قليلا من سعر الفائدة الأساس،‮ ‬يعكس حالة اللايقين في‮ ‬أسواق المال العالمية الرئيسية‮. ‬فلقد ارتفع في‮ ‬ذروة أزمة سوق الائتمان في‮ ‬ديسمبر الماضي‮ ‬إلى‮ ‬9‭,‬6٪‮ (‬قرض الثلاثة شهور المعتاد‮) ‬قبل ان‮ ‬ينخفض قليلا ليعاود الارتفاع مؤخرا إلى‮ 6,6%، علما بأن هذا السعر(للفائدة‮) ‬لثلاثة أشهر‮ ‬يمثل مرجعا لعملية الإقراض،‮ ‬لاسيما للشركات التي‮ ‬لاشك ستتأثر خططها الاستثمارية بهذه السياسة النقدية المتشددة‮.‬ ولكن‮ ‬يا ترى هل نسي‮ ‬هؤلاء وأولئك ردة فعل المستهلك الذي‮ ‬لابد هو الآخر من ان‮ ‬يبطئ من إنفاقه ويتحفظ فيه؟ إن هذا ما هو حاصل في‮ ‬الواقع،‮ ‬فقد كانت ردة فعل المستهلك أكثر سطوعا في‮ ‬سوق العقار الذي‮ ‬تراجع فيه الطلب بشكل كبير في‮ ‬السوق البريطاني‮ ‬ما أدى إلى تراجع الأسعار بنسبة‮ ‬20٪‮ ‬في‮ ‬المتوسط‮.‬ وهذا ما حرك بنك انجلترا للانحياز لصالح منع تباطؤ النمو وإنعاش السوق من خلال خفض سعر الفائدة،‮ ‬وذلك على النقيض من إدارة البنك المركزي‮ ‬الأوروبي‮ ‬التي‮ ‬فضلت مكافحة التضخم الذي‮ ‬ارتفع إلى‮ ‬3٪‮ ‬أي‮ ‬إلى فوق السقف المستهدف وهو‮ ‬2٪،‮ ‬على تحفيز وإنعاش الاقتصاد‮. ‬إلى ذلك فلقد بدا واضحا من تصريحات ومواقف رؤساء المصارف المركزية الرئيسية‮ ‬يوم الخميس‮ ‬10‮/‬1‮/‬‭,‬2008‮ ‬ان هنالك تباينا واضحا في‮ ‬السياسات النقدية قصيرة الأجل ذات الدلالة والأثر الاقتصاديين المؤكدين،‮ ‬بين مراكز الرأسمالية الكبرى فيما‮ ‬يتعلق بكيفية التعامل مع أزمة الركود التضخمي‮ ‬‭(‬Stagflation‭)‬‮ ‬الطالة برأسها من جديد في‮ ‬سماء الحياة الاقتصادية الدولية‮. ‬ففي‮ ‬حين أعطى رئيس مجلس الاحتياطي‮ ‬الفدرالي‮ ‬الأمريكي‮ ‘‬بن برنانكي‮’ ‬الانطباع القوي‮ ‬بأن المجلس سوف‮ ‬يعمد إلى احداث خفض جديد في‮ ‬سعر الفائدة عندما تجتمع لجنة الخبراء المختصة باتخاذ القرار في‮ ‬المجلس‮ ‬يومي‮ ‬29‮ ‬و‮ ‬30‮ ‬يناير الماضي،‮ ‬مقداره نصف في‮ ‬المائة‮ (‬من‮ ‬25‭,‬4٪‮ ‬إلى‮ ‬75‭,‬3٪‮)‬،‮ ‬فان رئيس البنك المركزي‮ ‬الأوروبي‮ ‘‬جين كلود تريثت‮’ ‬أكد من جديد سياسة البنك الثابتة والمركزة على مكافحة التضخم أكثر منها على معالجة مشكلة تراجع توقعات النمو،‮ ‬بما‮ ‬يعني‮ ‬الإبقاء على سعر الفائدة الأوروبية قصيرة الأجل دون تغيير،‮ ‬وهو ما اضطر بنك انجلترا هذه المرة للحدو حدوه‮.‬ هذا التباين الجوهري‮ ‬في‮ ‬السياسات النقدية بين المركزين الاقتصاديين الرئيسيين في‮ ‬العالم بشأن جدولة اولوياتهما الاقتصادية على الصعيد الوطني‮ ‬في‮ ‬اتصالها‮ ‬‭-‬‮ ‬في‮ ‬نهاية المطاف‮ ‬‭-‬‮ ‬بالمقدرة التنافسية‮ (‬الإنتاجية والتسويقية‮)‬،‮ ‬لا‮ ‬يعكس اختلاف منظوراتمها الفلسفية الاقتصادية وحسب،‮ ‬وانما أيضا حالة اللاتوازن التي‮ ‬يجتازانها،‮ ‬والتي‮ ‬ربما شكلت علاقة سعر الصرف بين الدولار الأمريكي‮ ‬واليورو الأوروبي‮ ‬‭(‬Purchasing Power Parity-PPP‭)‬‮ ‬المتمثل في‮ ‬القوة الشرائية المعادلة لكل منهما‮.‬ وقد تتحول حالة اللاتوازن هذه إلى بؤرة للمنازعات التجارية بين ضفتي‮ ‬الأطلسي‮ ‬بما‮ ‬يؤذن بتبديد فرص التنسيق والتعاون بين‮ ‘‬الكبار‮’ ‬في‮ ‬السياسات الاقتصادية والنقدية العالمية،‮ ‬ويدخل الاقتصاد العالمي‮ ‬في‮ ‬مناخ الريبة والتوجس‮.‬
 
صحيفة الوطن
25 فبراير 2008