المنشور

موعد مع العبث..!

هناك أحداث وقضايا لا‮ ‬يستطيع المرء أن‮ ‬يمر عليها مرور الكرام لأنها مملوءة بالدلالات الكبيرة،‮ ‬وتثير كمًّا من التساؤلات وعلامات الاستفهام واحدة تلو الأخرى،‮ ‬وكلها تصب فيما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون موضوعاً‮ ‬عنوانه‮ “‬عافية المجتمع‮” ‬ولعل نموذجاً‮ ‬لذلك،‮ ‬اللغط الجاري‮ ‬الآن حول فساد مالي‮ ‬واداري‮ ‬ومخالفات ادارية صارخة منسوبة إلى بعض العاملين في‮ ‬وزارة شؤون البلديات،‮ ‬من الأسماء الرنانة ممن‮ ‬يتبوأون مواقع قيادية رفيعة‮.‬
بعض ما نشر حول هذا الموضوع مهم وخطير،‮ ‬لا لأنه‮ ‬يوجه أصابع الاتهام إلى مسؤولين كبار بعينهم في‮ ‬الوزارة متهمين بالتربح من وظائفهم ويمارسون تجاوزات وانحرافات ادارية صارخة تدخل في‮ ‬اطار استغلال المنصب وتعارض المصالح بدءاً‮ ‬بتأسيس شركات بأسماء زوجاتهم،‮ ‬وفرضوا على الوزارة التعامل مع هذه الشركات منذ عام ‮٤٩٩١ ‬حتى اليوم،‮ ‬ولا لأن شقيق زوجة مسؤول كبير بالوزارة معروف بأنه مرتشٍ‮ ‬وطالب عمولات،‮ ‬ولا عن أسباب تغييب المحاسبة والرقابة،‮ ‬ولا أي‮ ‬شيء من هذا القبيل مما نشر وقيل عن هذا الذي‮ ‬جرى ويجري‮ ‬في‮ ‬وزارة البلديات،‮ ‬فتغلغُل قيم الفساد وممارساته وسلوكياته ليس حصراً‮ ‬على هذه الوزارة،‮ ‬وواقعنا لم‮ ‬يخل لحظة من الفساد والمفسدين والمرتشين في‮ ‬مؤسسات رسمية عديدة،‮ ‬وكلنا‮ ‬يعلم ويستشعر اتساع دائرة الفساد وتشابك حلقاته وترابط آلياته بدرجة لم‮ ‬يسبق لها مثيل للأسف‮.‬
ولكن الأخطر من ذلك حينما‮ ‬يحتمي‮ ‬الفساد ويتحصن الفاسدون بمن‮ ‬يفترض أنهم أكثر الناس ابتعاداً‮ ‬عن أي‮ ‬شبهة،‮ ‬والأكثر التزاماً‮ ‬بالقانون،‮ ‬والأكثر دفاعاً‮ ‬عن حرمة المال العام،‮ ‬والأكثر ارتباطاً‮ ‬بالرقابة عليه وحمايته،‮ ‬والأكثر حرصاً‮ ‬على المصلحة العامة ورعاية مصالح الناس،‮ ‬من نواب أو كتل نيابية،‮ ‬أو جمعيات،‮ ‬أو أشخاص في‮ ‬مواقع رفيعة من المسؤولية والسلطة،‮ ‬قدموا السند واسبغوا الحماية على الفاسدين،‮ ‬معتبرين إياهم مواطنين صالحين‮..!! ‬هذا إن لم‮ ‬يقيموا لهم حفلات تكريم أو ما شابه،‮ ‬دونما أدنى اهتمام بواجب أو بتصدٍ‮ ‬لفساد وانحراف‮.‬
والأخطر من ذلك أيضاً‮ ‬حينما‮ ‬يصوب بعض النواب،‮ ‬أو كتلهم النيابية السهام إلى مسؤولين دون آخرين أو‮ ‬يسلطون الضوء على انحرافات بذاتها،‮ ‬وغض الطرف عن انحرافات أخرى مماثلة أو أشد جسامة،‮ – ‬والصورة على كاريكاتوريتها‮ – ‬مؤلمة جداً‮ ‬يزيدها إيلاماً‮ ‬ليس فقط إعلاء منطق الزمرة والشللية وتسييد التفضيلات والمزاجات والانتقاءات المعيبة والرديئة التي‮ ‬غيبت،‮ ‬بل اغتالت معايير الكفاءة والنزاهة في‮ ‬كثير من مواقع العمل والمسؤولية،‮ ‬وأبقت بعضاً‮ ‬من القيادات المسؤولة رغم فشلها في‮ ‬مواقعها بثبات مدهش وبات معروفاً‮ ‬عنها أنها محصنة ضد المساءلة،‮ ‬ناهيك عن التغيير،‮ ‬وإنما هذا الذي‮ ‬يزيد الصورة إيلاماً‮ – ‬هو أن كثيراً‮ ‬من النواب دأبوا علـى‮ “‬طأفنة‮” ‬كل طرح،‮ ‬وكل موقف،‮ ‬وكل مشكلة،‮ ‬ومشوا في‮ ‬طريق‮ “‬تلغيم‮” ‬أي‮ ‬عمل لا تصب جدواه في‮ “‬طبخاتهم‮” ‬ما دام مطروحاً‮ ‬من الآخر،‮ ‬وحتى الاستجوابات النيابية اصطبغت بنفس طائفي‮ ‬مقيت،‮ ‬وهذه حقيقة مؤسفة من المصلحة أن نعترف بها،‮ ‬وأن لا نقع في‮ ‬فخ التهوين منها‮.‬
والمرجو الآن ألا‮ ‬يفسر هذا الكلام بأننا في‮ ‬موقف الدفاع عن أي‮ ‬من الأطراف ذات العلاقة بفساد‮ “البلديات‮” ‬أو أننا في‮ ‬وارد تأييد أو رفض الكلام الذي‮ ‬نشر رغم خطورته،‮ ‬طالما أنه قد تم تشكيل لجان تحقيق فالمرجو الا تكون هذه اللجان ككثير من لجان التحقيق التي‮ ‬شكلت في‮ ‬العديد من الوزارات والمؤسسات والهيئات لتقصي‮ ‬حقائق أو انحرافات معينة،‮ ‬ولكن دونما نتيجة،‮ ‬أو قرار وكأننا على موعد دائم مع العبث‮. ‬
واذا كنا نستغرب ما نشر قبل أيام منسوباً‮ ‬الى‮ “‬مصادر مطلعة‮” ‬من هذه اللجان بأنها ستحقق مع الموظفين بدءاً‮ ‬بالدرجات الوظيفية الأدنى كالسائقين،‮ ‬فذلك إن صح بداية‮ ‬غير مقنعة،‮ ‬بقي‮ ‬أن نقول إن النموذج الذي‮ ‬تقدمه هذه الحالة أنها تفتح أكثر من ملف،‮ ‬يتصل إجمالاً‮ ‬بالأداء النيابي،‮ ‬وكل ملف هو أهم من الآخر،‮ ‬ولا أظن أن من الحكمة أن نستمر في‮ ‬مقابلة هذه الملفات بالصمت،‮ ‬أو التجاهل،‮ ‬أو التهوين،‮ ‬منها ومن الألغاز المحجوبة مفاتيحها عنا‮.‬ من ضمن هذه الملفات جنوح بعض النواب وكتلهم النيابية نحو ترسيخ‮ “‬طأفنة‮” ‬العمل النيابي‮ ‬من خلال الخلل الواضح في‮ ‬تصرفات ومواقف وأقوال وتصريحات وأفعال هؤلاء النواب،‮ ‬ودونما الدخول في‮ ‬التفاصيل‮ – ‬الآن على الأقل‮ – ‬فإننا نرى أن هذا أمر لا‮ ‬يخفى على من‮ ‬يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات،‮ ‬بخاصة الإشارات الحمراء ويحسنون رصد اتجاهات الريح‮.‬ هذا هو الملف الأول‮.‬
أما الملف الثاني‮ ‬فهو إصرار بعض النواب على إقحام أنفسهم ودس أنوفهم في‮ ‬كل شاردة وواردة ويفتون في‮ ‬كل شأن في‮ ‬حياتنا،‮ ‬وهو أمر‮ ‬يحيرنا حقاً،‮ ‬خاصة عندما‮ ‬يصر هؤلاء النواب على أن‮ ‬يبرزوا وكأنهم نواب مناطق،‮ ‬أو طائفة لا نواب شعب،‮ ‬يفتعلون معارك،‮ ‬ويتبنون مواقف وأفكار‮ ‬غير رصينة تتسم بالتأويل والتأويل المضاد ومعان‮  ‬مستترة،‮ ‬وخلط واضح للأوراق والملفات وكأنهم‮ ‬يريدون أن‮ ‬يُشكل الواقع السياسي‮ ‬على أساس ذلك‮..!‬
أما الملف الثالث فهو مليء بحكايات كثيرة ولغط لا حصر له حول نفر من النواب،‮ ‬وكتل نيابية فرضت،‮ ‬وتستمر في‮ ‬محاولات فرضها بعض الوجوه المحسوبة عليها أو المنتمية إليها أو المؤيدة لها أو المسنودة منها في‮ ‬مواقع قيادية مسؤولة،‮ ‬على أسس تغيب وتغتال فيها المعايير،‮ ‬وتبرز فيها الاعتبارات المذهبية والطائفية والمحسوبية التي‮ ‬أصبحت الأكثر وضوحاً‮ ‬للفرز والانتقاء والاختيار،‮ ‬مؤكدين أنه ليس هناك نواب بعينهم،‮ ‬أو كتل بعينها هي‮ ‬وحدها فقط المعنية أو المتهمة بهذا الفرض،‮ ‬وإنما ما‮ ‬يجري‮ ‬وما نلمسه بأن السمة هي‮ ‬الأكثر تجلياً‮ ‬في‮ ‬سلوك كثير من النواب من خلفيات وبواعث من الواجب والمصلحة أن‮ ‬ينأى كل النواب دون استثناء عن طرحها وإثارتها بشكل‮ ‬يثير السخط والاستياء والإحباط،
‮ ‬لأن هؤلاء النواب بذلك‮ ‬ينتجون الفرقة،‮ ‬ويكرسون الانقسام عن علم أو‮ ‬غير علم،‮ ‬عن قصد أو‮ ‬غير قصد،‮ ‬ولن نتصور نجاحاً‮ ‬ولا إنجازاً‮ ‬لنوابنا على صعيد تطوير الأداء النيابي،‮ ‬أو على صعيد محاربة الفساد،‮ ‬وحتى فيما‮ ‬يخص التعاطي‮ ‬بكل جرأة مع تقارير ديوان الرقابة المالية،‮ ‬وغير ذلك من المواضيع والقضايا،‮ ‬طالما بقيت تلك الملفات التي‮ ‬تتكامل وتتشابك فيما بينها ومع‮ ‬غيرها من الملفات،‮ ‬عالقة،‮ ‬واذا استمر حال نوابنا على ما هو عليه،‮ ‬استمرت شؤوننا وأوضاعنا تدار بالطريقة والعقلية الراهنة‮.

صحيفة الأيام
22 فبراير 2008