المنشور

مـتــــلازمــــة كـوسـوفــــو

في مارس/ آذار 1999 عندما بدأت الولايات المتحدة تمطر العاصمة اليوغسلافية بوابل حممها أعطى رئيس الوزراء الروسي حينها يفجيني بريماكوف أوامره لطاقم طائرته التي كانت متجهة إلى واشنطن بالاستدارة 180 درجة والعودة إلى موسكو. تطلب الأمر سنوات طويلة قبل أن يتم علاج آثار تلك الأزمة في العلاقات الأميركية الروسية. فيما بعد عرفت هذه الحركة في عالم استعراضات الطيران بـ ‘استدارة بريماكوف’. يخشى المراقبون أن كوسوفو قد تعيق هذه المرة أيضا إقلاع الطائرة الخاصة التي ستنقل الرئيس الروسي بوتين إلى بوخارست لحضور قمة روسيا – الناتو.
كتب هذا المقال السبت، 16 فبراير/ شباط. ويوم أمس الأحد كان الموعد المضروب كي يعلن برلمان كوسوفو عن نوايا إعلان الاستقلال تمهيدا لإعلانه الفعلي في مارس/ آذار المقابل. التحضير لهذا الحدث يجري بوتيرة متسارعة. فرقة الأوركسترا السمفونية الكوسوفية تتدرب حثيثا على عزف مقطوعة ‘قصيدة الفرح’ لبتهوفن. فحتى الآن ليس للدولة المزمع إعلانها سلام وطني. أما اليوم، الاثنين، فسيعقد لقاء وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي وسيكون الهدف الأساسي، بالرغم من أنه غير المعلن، هو السير حذو الولايات المتحدة والاعتراف باستقلال كوسوفو. أي أن آلة لي الأذرع التي تستخدمها أميركا في كل مرة عندما تصل الأمور حد ‘القضايا المبدئية’ تشتغل الآن بكامل قوتها. وربما تحذو معظم بلدان العالم حذو واشنطن، بروكسل وبريشتينا. وإذا حدث كل ذلك فسيكون العالم قد دخل أزمة دولية جديدة ستقض مضاجعه بسبب كوسوفو.
في الانتخابات البرلمانية الأخيرة فاز بأغلبية كبيرة ممثلو جيش تحرير كوسوفو الذي سبق وصنفته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت كمنظمة إرهابية. وقد حدث ذلك قبيل العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حيث توجب على الوسطاء الدوليين (روسيا، أميركا والاتحاد الأوروبي) إعلام الأمين العام للأمم المتحدة عن نتائج المفاوضات، لكن الوضع القانوني لكوسوفو دخل مأزقا بسبب تعارض موقفي بلغراد وبريشتينا بشأن مصير كوسوفو، وعلى الطرف الآخر تعارضت مواقف روسيا (التي حاصرت في مجلس الأمن قرارا بهذا الشأن) ومواقف أميركا وعدد من الدول الأوروبية.
ترى ما الذي حدا بالولايات المتحدة لأن تحمل هم الألبان الكوسوفيين المسلمين، كما حملت هم مسلمي يوغسلافيا السابقة عموما في الوقت الذي تعلن الحرب على الإسلام على نطاق كوني إلى درجة ترتقي إلى مستوى السياسة الرسمية؟ في واقع الأمر ما يقلق الولايات المتحدة الأميركية هو ترسخ أوروبا الموحدة. ولذلك فإن استهداف تدمير يوغسلافيا كواحدة من أكبر بلدان القارة الأوروبية وتفتيتها إلى كيانات أصغر يسهل توجيهها، ثم اقتطاع أقليات أثنية ودينية من بعض هذه الكيانات سيسمح للولايات المتحدة بأن تزرع تحت أساس أوروبا الموحدة حزمة من الشحنات الناسفة الموجهة عن بعد.
وبفضل ذلك تستطيع أميركا في أي وقت إحداث مزيد من الضغوط على ‘حلفائها’ الأوروبيين، وإذا اقتضى الأمر تفجير الوضع في القارة العجوز. فبلجيكا التي تعتبر عاصمة الاتحاد الأوروبي مهددة بانقسام متوقع، كما تتعاظم أخطار مثل هذه الانقسامات في بريطانيا وأسبانيا. وكل تلك أمور تعمل لصالح الولايات المتحدة. لقد استطاعت تركيع هذه الدول وجرها للقبول باستراتيجيتها لتقسيم البلقان. وبتنظيمها للحرب في البلقان نجحت واشنطن في إجبار ‘أصدقائها’ السبعة الكبار على تمويل نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.  كما أن البلقان استخدم كحقل تجارب لاختبار التكنولوجيات العسكرية والسياسية الأميركية الجديدة وتكنولوجيات ‘الأزمات القابلة للسيطرة’.
لكن السيطرة الفعلية التي تنشدها الولايات المتحدة هي في التحكم بموارد العالم وثرواته المادية للتحكم بكل مقاليد أموره الأخرى. وكانت الحرب على يوغسلافيا المقدمة الجدية والتمرين الكبير لفرض عالم القطب الواحد بشكل نهائي وتام. وفي هذا الجانب كان الصراع على كوسوفو يجري بهدف وضع اليد على منطقة ‘تريبتش’ الغنية بشكل استثنائي بالثروات الباطنية، حيث يستخرج الرصاص والزنك والفضة والكاديوم وغيرها من الخامات الإستراتيجية التي تصدر إلى فرنسا واليونان والسويد والتشيك وروسيا وبلجيكا والولايات المتحدة. عدا ذلك تمتلك كوسوفو احتياطات تقدر بأكثر من 17 مليار طن في مناجم الفحم. إنها الخطوة الأولى قبل السيطرة النهائية على نفط الخليج التي كانت سببا وراء الحرب المدمرة على العراق كمقدمة للأعمال العدوانية ضد باقي بلدان المنطقة.
وللذين يشكون ولو للحظة أن أميركا لن تجبر حكومة وشعب كوسوفو على سداد هذا ‘الدين’ أضعافا أن يتذكروا أن صدام حسين كان حليفا مقربا من الولايات المتحدة أيام حربه على إيران. لكنه جاء يوم واستوفت أميركا كل ما تريد من الحكومة ومن الشعب العراقي.
رغم كل البريق الذي قد يشكله إعلان كوسوفو لبعض الدول الإسلامية، إلا أنه في نهاية المطاف يهدد بزعزعة الاستقرار في مختلف أنحاء العالم. إنه لن يؤدي فقط إلى انتشار العنف في البلقان مجددا، ولكن عندما يبدو إعلان هذا الاستقلال برعاية الأمم المتحدة فسوف يغري كل انفصاليي العالم. في أوروبا وحدها سيسعى الباسكيون والفلامنديون والإيرلنديون والبوسنيون الصرب لتحقيق ذات الأهداف. وسيصب هذا الحدث الزيت على نيران دارفور وكولومبيا وسريلانكا في آسيا. وسيضرب بآثاره قبل كل شيء منطقة الاتحاد السوفييتي السابق في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وناغورنو كاراباخ وعلى ضفاف نهر الدنيبر. وفي الشرق الأوسط حيث التعددية الأثنية والدينية والمذهبية في مختلف بلدانه.
لكن الولايات المتحدة ذاتها بدأت تجني على الأراضي الأميركية ثمار سياساتها الكونية. فمتلازمة كوسوفو ضربت بعدواها الهنود الأميركيين. في 19 ديسمبر/ كانون الأول أعلن ممثلو قيادات قبائل ‘الداكوتا’ و’اللاكوتا’ و’الناكوتا’ فض الاتفاق الموقع بينها وسلطات الولايات المتحدة قبل أكثر من 150 عاما. وتسعى قبيلة الداكوتا لفتح ممثلياتها الدبلوماسية في عدد من البلدان المجاورة. ‘لم نعد الآن من مواطني الولايات المتحدة الأميركية (…)، وكل أولئك الذين يقطنون منطقة الولايات الخمس التي تشملها بلادنا يمكن أن ينضموا إلينا’، قالها راسل مينس، الداعية لحقوق الهنود الحمر الذين بدءوا حركتهم الانفصالية منذ العام 1974. وتحت تأثير حدث كوسوفو يعد الرافضون للجنسية الأميركية بتسليم جوازات سفرهم ورخص السوق التي يحملونها دافعين بعملية الانفصال نحو مستوى جديد.
 
صحيفة الوقت
18 فبراير 2008