المنشور

ارتفاع الأسعار عالمياً وفرص التغلب عليه‮)‬2‮-‬2‮(‬

استعرضنا في‮ ‬المقال السابق موجة التضخم النقدي‮ ‬التي‮ ‬تجتاح العالم منذ حوالي‮ ‬أربع سنوات،‮ ‬متجسدة في‮ ‬ارتفاع كُلَف الإنتاج لمعظم السلع والخدمات الخاضعة للتداول في‮ ‬المجالين المحلي‮ ‬والعالمي،‮ ‬وكيف أن هذا التضخم قد ارتفع إلى مستويات مقلقة في‮ ‬دول مجلس التعاون متجسداً‮ ‬في‮ ‬ارتفاعات حادة لأسعار سلة واسعة من السلع والخدمات وانعكس بالتالي‮ ‬سلباً‮ ‬على القدرات الشرائية والمستويات المعيشية لشرائح واسعة من مواطني‮ ‬دول التعاون،‮ ‬وهو ما اضطر الحكومات الخليجية لاستخدام أدوات السياسة المالية للتخفيف من وطأة هذا المنغص التنموي‮ ‬وذلك برفع رواتب العاملين في‮ ‬الإدارة الحكومية‮.‬
وقد أوضحنا كيف تضافرت عوامل خارجية‮ (‬ارتفاع كلف إنتاج السلع والخدمات عالمياً‮ ‬نتيجة لارتفاع أسعار المدخلات الإنتاجية لاسيما النفط والمعادن والمواد الخام الأخرى وتميز الدورة الاقتصادية الحالية بصعود حجم الطلب الكلي‮ ‬فيها وطول فترتها الانتعاشية‮)‬،‮ ‬وانخفاض أسعار صرف عملات دول التعاون مقابل العملات العالمية نتيجة لانخفاض سعر صرف الدولار المرتبطة به،‮ ‬وعوامل داخلية‮ (‬حالة الرواج الاقتصادي‮ ‬التي‮ ‬تشهدها الاقتصادات الخليجية والطفرة العقارية والاستثمارية الخاصة والعامة‮).‬ ولأنه لا‮ ‬يبدو في‮ ‬الأفق ما‮ ‬يشير إلى انقشاع موجة التضخم في‮ ‬الأمد القريب ولا ما‮ ‬يشير إلى وضع خطط خليجية مضادة لموجة ارتفاع الأسعار،‮ ‬فلا‮ ‬يبقى أمام جمهور المستهلكين من خيار سوى اللجوء إلى ذات الأسلوب الذي‮ ‬تتبعه الدول عادة عندما‮ ‬ينال منها اللاتوازن الاقتصادي‮ ‬الناجم عن تعاظم جانب المصروفات في‮ ‬موازناتها مقابل عدم تحسن أو تراجع جانب الإيرادات،‮ ‬فتلجأ إلى خفض نفقاتها الجارية والرأسمالية‮ (‬الاستثمارية‮).‬ إذ في‮ ‬وسع الأفراد والأسر أن‮ ‬يبذلوا جهداً‮ ‬بسيطاً‮ ‬في‮ ‬إعادة هيكلة وجدولة أولوياتهم الإنفاقية،‮ ‬فيعمدون إلى ترشيد إنفاقهم وفقاً‮ ‬لمعيار الأولوية والأهمية‮.‬
فيستغنون في‮ ‬هذه الحالة عن عدد مختار،‮ ‬على أساس معيار الأولوية،‮ ‬من السلع والخدمات التي‮ ‬لا‮ ‬يؤثر الاستغناء عنها في‮ ‬نمط حياتهم ولا مستوى معيشتهم بوجه عام‮.‬ ويمكن الاستعانة في‮ ‬ذلك أيضاً‮ ‬بالبديل السلعي،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأنه متوفر في‮ ‬ظل اتساع المنافسة الدولية في‮ ‬مجال الإنتاج السلعي‮ ‬والتي‮ ‬انعكست في‮ ‬إنتاج شرائح عريضة من ذات الصنف السلعي‮ ‬بمواصفات متغيرة وبأسعار مختلفة وتنافسية‮.‬ ولو توقف المستهلك عن مسايرة استدراجات المنتجين والموزعين السلعيين،‮ ‬وأعمل عقله ورشَّد سلوكه الاستهلاكي‮ ‬لتحول ارتفاع أسعار السلع من مصدر ثراء إلى وبال على أولئك‮ ‘‬التجار‮’ (‬المنتجين والموزعين‮).‬
ولعلنا نتذكر هنا حملة مقاطعة منتجات الألبان ومشتقاتها التي‮ ‬دعا إليها الآلاف من المواطنين السعوديين منتصف شهر‮ ‬يناير الماضي‮ ‬نتيجة لقيام شركات الألبان برفع أسعار الألبان بداية العام الجديد،‮ ‬حيث تجاوب المواطنون السعوديون مع تلك الدعوات التي‮ ‬وصلتهم من خلال أكثر من وسيلة اتصال بدءاً‮ ‬من رسائل الجوال ومروراً‮ ‬بمواقع الإنترنت وانتهاءً‮ ‬بمنابر المساجد‮. ‬وقد‮ ‬غطى شعار الحملة الشعبية لمقاطعة منتجات الألبان‮ ‘‬خلوها تخيس‮’ ‬معظم واجهات المنتديات والمدونات السعودية،‮ ‬ناهيك عن تداوله عبر الهواتف النقالة وذلك على مدى سبعة أيام هي‮ ‬فترة صلاحية العبوة الواحدة من اللبن أو الحليب‮. ‬كما انطوت الحملة على مواقف من خلال تصميم شعارات تعبر عن الاحتجاج على موجة الغلاء بشكل عام‮. ‬وقد تدخلت وزارة التجارة السعودية بعد النجاح الذي‮ ‬حققته الحملة وفاوضت بعض الشركات وأقنعتها بالتراجع عن رفع أسعارها‮.‬ وهكذا فإن على المستهلكين أن‮ ‬يعوا بأن نصف الحل‮ ‬يقع بأيديهم،‮ ‬وأن ارتفاع الأسعار لن‮ ‬يتوقف مادامت الأسباب المفضية له قائمة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬مع توقع لجوء المؤسسات والشركات إلى توجيه ميزانياتها خلال الفترة الحرجة لشراء وتوفير مستلزماتها واحتياجاتها من المواد الخام،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن عدم واقعية ومحدودية فاعلية حُقن رفع الرواتب والأجور في‮ ‬معالجة الأزمة‮.‬
وتفيدنا في‮ ‬هذا المقام النظرية الاقتصادية التي‮ ‬تقول بأن سعر السلعة‮ ‬يتأثر بمتغيرات عديدة منها ما‮ ‬يمكن قياسه بوحدات كمية أو نقدية وتسمى بالمتغيرات الكمية مثل الكمية المطلوبة من السلعة،‮ ‬وسعرها،‮ ‬ومستوى دخل المستهلك،‮ ‬وأسعار السلع الأخرى،‮ ‬وعدد السكان‮. ‬أما المتغيرات الأخرى فتسمى بالمتغيرات النوعية أو الكيفية،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬يصعب قياسها بوحدات كمية،‮ ‬مثل ذوق أو تفضيلات المستهلك،‮ ‬العوامل الموسمية، ‬طريقة توزيع الدخل القومي‮ ‬بين أفراد المجتمع،‮ ‬وأخيراً‮ ‬وليس آخراً‮ ‬وعي‮ ‬المستهلك وحصافته واللذين سيشكلان في‮ ‬المستقبل‮ ‬‭-‬‮ ‬من وجهة نظرنا المتواضعة‮ ‬‭-‬‮ ‬حجر الزاوية في‮ ‬الأبحاث والدراسات الرأسمالية ومدارس وطرائق التسويق والتوزيع والتسعير السلعي‮.‬ فمع‮ ‬غزارة التدفق المعلوماتي‮ ‬عبر العالم وسهولة وصول المعلومة إلى مستهلكيها فإن الرهان على ارتفاع درجة وعي‮ ‬وحصافة المستهلك سيكون رهاناً‮ ‬مسوغاً‮.‬
 
صحيفة الوطن
17 فبراير 2008