المنشور

لا للتابوهات‮ ..‬

في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يتجاوز العالم المتقدم مسألة الحديث عن التابو بمعوقاته المختلفة وتبعاته الكوارثية على الذات والإبداع‮ ‬،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يخضع فيه هذا العالم هذه التابوهات لمبضع النقد والتشريح رغبة في‮ ‬التجاوز والتحرر وإعلاء قيمة الذات الإنسانية والإبداعية،‮ ‬لم تزل الذات ولم‮ ‬يزل الإبداع في‮ ‬مجتمعاتنا العربية وخاصة الواقعة تحت الهيمنة العقائدية الإرهابية والمتطرفة،‮ ‬في‮ ‬حكم المصادر والمحظور والمحذور،‮ ‬وكما لو أن هذه الهيمنة تتقصد إقصاء الإبداع من الذات باعتباره أبو التابوهات وباعتباره بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في‮ ‬النار،‮ ‬بالرغم من أن الإبداع هو ما‮ ‬يأتي‮ ‬من كل شيء بديع أو كل بديع‮ ‬يتمخض عن الإبداع‮ ‬،‮ ‬والبديع إسم من أسماء الجلالة عز وجل‮ ‬،‮ ‬فمن‮ ‬يعترض على هذا الاسم الذي‮ ‬تتجلى فيه كل معاني‮ ‬ودلالات الجمال وفرادته ؟‮ ‬
لا‮ ‬يمكن في‮ ‬رأيي‮ ‬الحديث عن الإبداع بمعزل عن التحرر من كوابيس التابوات،‮ ‬وكل إبداع هو حالة من حالات التحرر من التابوهات،‮ ‬وإذا أخضع الإبداع لهذه التابوهات بسلطاتها المتعددة والمركبة فإننا بذلك حسمنا أمر وأد الإبداع‮ ‬،‮ ‬فأية رقابة تنطلق من هذه التابوهات وتحتمي‮ ‬بها،‮ ‬تعني‮ ‬بالدرجة الأساس سيطرة وسطوة على الإبداع ونموه،‮ ‬وما أصعب هاتين الكارثتين على ذات وروح المبدع وأنفاسه الإنسانية التي‮ ‬يتشكل من هوائها عبق إبداعه،‮ ‬إذ أن أية محاولة لخنق هذه الأنفاس هي‮ ‬مساهمة ضمنية مقيتة في‮ ‬قتل المبدع روحاً‮ ‬وجسداً‮ ‬حتى قبل أن‮ ‬يبلغ‮ ‬الحلم،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬مجتمعاتنا العربية وخاصة المكبلة بالروادع والنواهي‮ ‬التي‮ ‬تتلذذ بتصفية آخر بقايا خلية من خلايا الإبداع والمخيلة لدى المبدع،‮ ‬وهي‮ ‬روادع ونواهٍ‮ ‬لا‮ ‬يمكن بأي‮ ‬حال أن تقبل وتتقبل الحوار مع الآخر،‮ ‬وإذا حاورت فإنها تحاور ببغض ومقت‮ ‬،‮ ‬وهكذا حوار لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يؤسس لمحبة تدشن جسوراً‮ ‬للتفاهم بينهم وبين المبدعين،‮ ‬هؤلاء الذين صارت قراءتهم للمنتج الفكري‮ ‬والإبداعي‮ ‬أقرب من حاسة أنف الكلب للأثر المراد في‮ ‬حينه،‮ ‬فما أن تقودهم حاسة الشم إلى كلمة لها في‮ ‬نواهيهم‮ ‬غاية وإن كانت تخدم نواهيهم،‮ ‬إلا و تم إطلاق الحكم على كل ما في‮ ‬المنتج بالرذيلة وإهانة المقدس،‮ ‬وبذلك‮ ‬يستحق الإعدام جملة وتفصيلاً‮ ‬حتى‮ ‬يعلن المبدع توبته عن الإنتاج في‮ ‬مجال الفكر والإبداع،‮ ‬لذا لم‮ ‬يزل بعض أهل التابو‮ ‬يطالبون بإعدام حكايا ألف ليلة وليلة والتربص لشهرزاد للنيل منها حية أو متخيلة أو وهما أو خدعة خاصة وأن سيف الجلاد لا‮ ‬يزال‮ ‬يتشفى من الأفواه التي‮ ‬تهجت بعض الحكايا حتى وإن كانت تخفف عليه بعض وحدته وغلظته وجلافته‮ .‬
هل‮ ‬يعقل ونحن في‮ ‬زمن‮ ‬يحتفي‮ ‬بالحريات ويعلي‮ ‬شأن الإنسان من خلالها أن نطلق العنان لمثل هؤلاء التابوهيين للجم صوت الإنسان وعقله وفكره ؟ هل‮ ‬يعقل أن نتيح المجال لمثل هؤلاء أن‮ ‬ينزعوا الإبداع من ذوات مفكرينا ومخيلتهم وعقولهم ويودعونها سجونهم القهرية‮  ‬هل صار الإبداع إلى هذا الحد مخيفا ومرعبا حتى‮ ‬يسعى التابوهيون إلى محاصرته وإقصائه من الوجود تماماً‮ ‬؟ كيف‮ ‬يمكننا الحديث بل اللهج بالحرية والديمقراطية وهناك من‮ ‬يتدخل حتى في‮ ‬خصوصيتنا ويلجم أحلامنا ويمنعنا حتى من كلمة مجردة‮ ( ‬أنا حر‮ ) ‬أو‮ (‬أشعر بحريتي‮ )  ‬أو‮ ( ‬أعتز بذاتي‮ ) ‬؟ هل‮ ‬يعقل أن‮ ‬يترك شأن المبدعين والمفكرين لمن لا‮ ‬يقرأ الإبداع والفكر إلا بقصد النيل منهما جهلاً‮ ‬و‮ (‬غشامة)؟‮ ‬
ولعل أشد ما‮ ‬يواجهه المبدع والمفكرالتنويريان هو التواطؤ الرسمي‮ ‬مع هؤلاء من أجل تغييب الصوت التنويري‮ ‬الحر،‮ ‬وحث المبدع والمفكر بشكل أو بآخر ـ في‮ ‬حالة التعاطف معه ـ اللجوء إلى الرمز الأسطوري‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يشي‮ ‬بأي‮ ‬حال من الأحوال بأن له أية علاقة بالمحظور أو المقدس،‮ ‬وهو حث لعمري‮ ‬ييسر سبل إرهاب الفكر والإبداع لدى هؤلاء ويجير لغة المبدع نحو نفق واحد لا‮ ‬ينبغي‮ ‬تجاوزه،‮ ‬وهذا ما لا‮ ‬يمكن للمبدع قبوله وما‮ ‬يهيئه للاصطدام معه حتى‮ ‬يضمن بعض حريته،‮ ‬وإن كان هناك خيار آخر فلا مناص من هجرته إلى بلد‮ ‬يحترم ويحتفي‮ ‬بحريته وذاته وإبداعه،‮ ‬وما أكثر المبدعين الذين نجو بجلدهم من سطوة التابوهيين في‮ ‬مجتمعاتنا العربية بهجرتهم من بلدانهم،‮ ‬ولعل تلك واحدة من رغبات و‮( ‬تطلعات‮ ) ‬كثيرة‮ ‬ينشدها التابويون في‮ ‬نفي‮ ‬المبدعين وأصحاب العقول من بلدانهم،‮ ‬ومحاولة من بعض المبدعين والمفكرين لحماية رؤاهم وإبداعهم،‮ ‬سعوا حثيثاً‮ ‬ونادوا بضرورة إحياء ثقافة التمرد المسول أو تعزيز وجودها وفاعليتها إن وجدت‮ ‬،‮ ‬ذلك أنه لا‮ ‬يمكن بأية حال الصمت عن موت أو فتك‮ ‬يداهم ذات المبدع كلما عنّ‮ ‬له ذلك وكما لو أنه كل السلطات والمجتمع والدين والوصاية وما أكل السبع‮ ..‬
لذا‮ ‬ينبغي‮ ‬رفض التابوهات ومن‮ ‬يتمثلها،‮ ‬ذلك أنها تعلن في‮ ‬حقيقة الأمر تخلف المجتمع،‮ ‬فكلما زادت التابوهات وزاد الاقتناع والإيمان بها،‮ ‬كلما أكدت من جهة أخرى تخلف المجتمع على شتى الصعد،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعيش هذا المبدع والمثقف والمفكر وسط أجواء مزدوجة،‮ ‬ظاهرها الديمقراطية والحريات وباطنها وجوفها التابوهات وما خلفت من أنياب ومخالب سامة،‮ ‬لذا لا مناص من ثقافة التمرد كزاد أساسي‮ ‬وضروري‮ ‬لمواجهة تلك الطامة‮ !!
 
صحيفة الوطن
17 فبراير 2008