المنشور

ظاهرة الخصومة و”الزعل‮”‬ في‮ ‬العلاقات العربية البينـيـة


هل سمعتم‮ ‬يوماً‮ ‬عن حدوث قطيعة وجفاء بين بلدان المنظومة الأوروبية،‮ ‬سواء المنضوية في‮ ‬إطار الاتحاد الأوروبي‮ ‬والبالغ‮ ‬عددها‮ ‬27‮ ‬دولة أو الواقعة خارجه؟ ‬هل سمعتم أن دولة أوروبية دخلت في‮ ‬خصام و‮’‬زعل‮’ ‬مع دولة أوروبية أخرى لمجرد أن رؤاهما ومواقفهما من قضية أو قضايا معينة اختلفت وتضادت أو حتى تغايرت وتضاربت مصالحهما؟ فيحدث بينهما الشقاق و‮’‬التطنيش‮’ ‬إلى أن تتحرك الوساطات لرأب الصدع بينهما؟
‬طبعاً‮ ‬لم‮ ‬يحدث مثل هذا في‮ ‬علاقات الأوروبيين بعضهم ببعض كي‮ ‬تتناهى أخباره إلى مسمع الناس‮.‬ ‬ولكن مثل هذه الوقائع والتحولات الدرامية في‮ ‬علاقات الدول بعضها ببعض،‮ ‬لها حصة وافرة في‮ ‬فضاء العلاقات الدولية العربية‮. ‬فلقد ذهبت عادة وسمة بارزة من السمات التي‮ ‬تميز علاقات الدول العربية بعضها ببعض على المستوى الثنائي‮. ‬وتاريخ العلاقات الدولية العربية البينية الحديث حافل بالخصومات و‮’‬القطيعات‮’ ‬وأنواع‮ ‘‬الزعل‮’ ‬المختلفة التي‮ ‬تتراوح ما بين المؤقت والقصير والمتوسط والطويل المدى،‮ ‬وذلك تبعاً‮ ‬لموضوع‮ ‘‬الزعل‮’ ‬وحدته‮.‬
‬ومع أن الدولة العربية الحديثة قد قطعت شوطاً‮ ‬معقولاً‮ ‬على صعيد تحولاتها المؤسسية والتنظيمية والإدارية والقانونية،‮ ‬إلا أن هذه الظاهرة لازالت محتفظة بزخمها و‮’‬حيويتها المتدفقة‮’‬،‮ ‬كأحد المكونات الملازمة لطبيعة الحراك الذي‮ ‬يميز العلاقات العربية البينية‮ (‬الثنائية تخصيصاً‮). مناسبة هذا القول ما رشح من أخبار مسربة‮ (‬معلنة بطريقة ما‮) ‬إلى أجهزة الميديا العربية،‮ ‬الموجهة قطعاً،‮ ‬عن أن القمة العربية الدورية‮ (‬لسنوية) ‬لن تُعقد كما هو مقرر لها في‮ ‬دمشق،‮ ‬وستعقد عوضاً‮ ‬عنها قمة مصغرة في‮ ‬القاهرة لمناقشة الملفين اللبناني‮ ‬والفلسطيني،‮ ‬قبل أن‮ ‬يعود أمين عام الجامعة العربية،‮ ‬بعد مضي‮ ‬بعض الوقت،‮ ‬إلى التأكيد على أن القمة سوف تعقد في‮ ‬موعدها المحدد وهو شهر مارس القادم وفي‮ ‬دمشق مكانها المقرر‮.‬
‬هي‮ ‘‬منغصات‮’ ‬كثيراً‮ ‬ما تحدث،‮ ‬كما قلنا،‮ ‬في‮ ‬العلاقات العربية البينية‮. ‬وهو مبعث أسى بطبيعة الحال‮. ‬فلم‮ ‬يعد متصوَّراً‮ ‬في‮ ‬العلاقات الدولية المعاصرة،‮ ‬أن‮ ‬يُصار إلى إلغاء ما جرى الاتفاق بشأنه سلفاً‮ ‬لمجرد أن خصاماً‮ ‬أو‮ ‘‬زعلاً‮’ ‬طرأ أو استجدّ‮ ‬في‮ ‬علاقات الدولتين‮ (‬أو أكثر‮).‬
‬وعوضاً‮ ‬عن تحويل تحدي‮ ‬‭(‬Challenge‭)‬‮ ‬الخصام والجفاء‮ (‬الطارئ في‮ ‬عموم الحالات‮) ‬إلى فرصة‮ ‬‭(‬Opportunity‭)‬‮ ‬للتنادي‮ ‬واللقاء والتصارح،‮ ‬فإن الذي‮ ‬هو حاصل،‮ ‬عادة،‮ ‬هو تحويل هذه الفرصة إلى مناسبة لتجديد وتأكيد وتعميق الخصومة‮.‬ ‬لذا‮ ‬يصبح ليس مفهوماً،‮ ‬ذلكم التعاطي‮ ‬السلبي‮ ‬مع الانعطافات،‮ ‬المتوقعة على أية حال،‮ ‬في‮ ‬علاقات الدول العربية بعضها ببعض نتيجة لعدم تناغم وتطابق مصالحها،‮ ‬وذلك في‮ ‬ظل سيادة وسريان المواثيق والبروتوكولات والأعراف الدبلوماسية والسياسية العالمية‮.‬ ‬المؤسف أكثر أنه ما أن تحدث الخصومة حتى تنزلق الدولة بكافة أجهزتها التنفيذية والتشريعية والمؤسساتية،‮ ‬ومنها،‮ ‬خصوصاً‮ ‬بطبيعة الحال،‮ ‬أجهزة الاتصال البصرية والسمعية والمقروءة،‮ ‬إلى ذلكم الجو المثير للشفقة،‮ ‬فيدب الارتباك في‮ ‬المصالح والعلاقات التي‮ ‬كانت نسجت قبلاً‮ ‬على أكثر من صعيد‮.‬ ‬ولما كان الشيء بالشيء‮ ‬يذكر فإننا نشير فحسب إلى حادثة قريبة لازالت أصداؤها تُسمع،‮ ‬على الأقل في‮ ‬بعض النواحي‮ ‬البلجيكية،‮ ‬باعتبارها حادثة تُظهر الفارق بيننا وبينهم في‮ ‬طريقة التعاطي‮ ‬مع إشكالات العلاقات الثنائية الدولية‮. ‬
‬الأمر‮ ‬يتعلق بالعمل الإرهابي‮ ‬الذي‮ ‬نفذته مجموعة إرهابية ضد سياح بلجيكيين في‮ ‬محافظة حضرموت اليمنية في‮ ‬شهر‮ ‬يناير الماضي‮ ‬وأدى إلى مقتل بلجيكيتين وإصابة بلجيكي‮ ‬ثالث‮. ‬‬وبدلاً‮ ‬من أن‮ ‬يؤدي‮ ‬هذا الحادث إلى تعكير صفو العلاقات بين اليمن وبلجيكا،‮ ‬فقد حدث العكس،‮ ‬إذ حصل اليمن على دعم سياسي‮ ‬واقتصادي‮ ‬من بلجيكا على الرغم من خسارتها لاثنين من مواطنيها وشبه خسارتها لإصابة الثالث‮. ‬فلقد أكد كل من رئيس البرلمان البلجيكي‮ ‬هيرمان ديكرو والنائب الأول لرئيس مجلس الشيوخ البلجيكي‮ ‬ايجو برج‮ ‬‭-‬‮ ‬أكدا للرئيس علي‮ ‬عبدالله صالح خلال زيارته لبلجيكا،‮ ‬أن الحادث الإرهابي‮ ‬الذي‮ ‬تعرض له السياح البلجيكيون في‮ ‬اليمن لن‮ ‬يؤثر على العلاقات الجيدة بين اليمن وبلجيكا،‮ ‬وأن بلجيكا سوف تستمر في‮ ‬تعزيز وتطوير علاقاتها وتعاونها مع اليمن بما‮ ‬يسهم في‮ ‬خلق شراكة مثمرة في‮ ‬المجالين التنموي‮ ‬والأمني‮. ‬
‬هل‮ ‬يجدر بنا،‮ ‬وقبل هذا وذاك،‮ ‬هل‮ ‬يُسوغ‮ ‬لنا أن نضع أبنيتنا المؤسسية الدولانية الحديثة قبالة نظيرتها في‮ ‬بلدان ما بعد الصناعة،‮ ‬بما‮ ‬يعطينا الحق في‮ ‬توقع أداء ناضج ومسؤول من جانب وحدات المنظومة العربية الرسمية تجاه بعضها بعضاً؟ ‬كلا بطبيعة الحال،‮ ‬فهذه مناظرة لا تصح من وجهة نظر قواعد القياس لأعضاء المنظومة العالمية المعاصرة‮. ‬ولكن بقاء هذا المشكل واستمرار تمتعه بعناصر الاستدامة والملازمة‮ (‬بفتح الزا‮) ‬يجعل من إعادة جدولة أولوية معالجته،‮ ‬مسألة حيوية بالنسبة لغاية تأمين البيئة المناسبة للتعاون والتنسيق العربي‮ ‬البيني‮.‬ ‬وإذا كانت المنظومة العربية الرسمية قد حسمت بصورة جدية وموفقة مسألة تقطع لقاءات القمم العربية بجعلها سنوية تعقد في‮ ‬كافة الدول الأعضاء في‮ ‬الجامعة العربية حسب الترتيب الأبجدي،‮ ‬فحري‮ ‬بهذه المؤسسة أن تحسم هذا المشكل أيضاً‮ ‬بقرار قمة قاطع لا لبس فيه‮ ‬يفصل تداعيات الخصومات العربية عن التزامات الدول الأعضاء قبالة بعضها بعضاً‮.‬
 
صحيفة الوطن
16 فبراير 2008