المنشور

وجهٌ‮ ‬جميل آخر فقدناه


حتى منتصف الستينات الماضية لم تكن إلا قلة في‮ ‬العالم العربي‮ ‬قد سمعت بأدب المقاومة الفلسطينية في‮ ‬الأراضي‮ ‬العربية المحتلة في‮ ‬العام ‮٨٤٩١.‬ كان محمود درويش وسميح القاسم وبقية رفاقهما شباباً‮ ‬بعد،‮ ‬وكان إبداعهم الشعري‮ ‬معروفاً‮ ‬ومسموعاً‮ ‬في‮ ‬فلسطين،‮ ‬وهم الطالعون من قلب الحركة الديمقراطية والتقدمية هناك،‮ ‬أداةَ‮ ‬تأكيدٍ‮ ‬للهوية الفلسطينية العربية بوجه مساعي‮ ‬المحتلين لسحق هذه الهوية،‮ ‬لكن لم تكن أصواتهم قد بلغت العالم العربي‮ ‬بعد. كان “رجاء النقّاش” أول من اصدر كتاباً‮ ‬عن محمود درويش مُعرفاً‮ ‬القارئ العربي‮ ‬به وبشعره وبتجربة أدب المقاومة في‮ ‬فلسطين،‮ ‬وتزامن مع ذلك أو تلاه ملف قيّم أعده الناقد اللبناني‮ ‬المعروف محمد دكروب في‮ ‬مجلة‮ “‬الطريق” ‬التقدمية عن تلك الظاهرة الأدبية المشعة،‮ ‬بعد أن التقى بمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسواهم من المبدعين الفلسطينيين في‮ ‬مهرجان الشبيبة والطلبة في‮ ‬صوفيا ‮٨٦٩١.  ‬فعل رجاء النقاش الأمر نفسه إزاء الروائي‮ ‬السوداني‮ “‬الطيب الصالح”،‮ ‬حيث قدمه للقراء من خلال كتابه النقدي‮ ‬عن أدبه،‮ ‬وخاصة عن روايته التي‮ ‬طبقت شهرتها،‮ ‬في‮ ‬ما بعد،‮ ‬الآفاق‮: “‬موسم الهجرة إلى الشمال”. ‬انه نموذج للناقد الذي‮ ‬يجعل من عمله ورشة لإضاءة العمل المنقود،‮ ‬وتحليل أبعاده،‮ ‬وإزالة الدثار عن ظلاله في‮ ‬تدرجاتها المختلفة‮. ‬و”رجاء النقاش” الناقد كان،‮ ‬إلى ذلك،‮ ‬شغّيل ثقافة محترفاً،‮ ‬فتاريخ الصحافة الثقافية العربية سيظل‮ ‬يَذكرهُ،‮ ‬من خلال دوره في‮ ‬إدارة تحرير عدد من الدوريات الثقافية العربية المرموقة،‮ ‬فأعطى هذه الدوريات الكثير من سعة الأفق ومن المحتوى الفكري‮  ‬التنويري‮ ‬اللذين طبعا شخصيته‮.‬ ‬أتى رجاء إلى الدوحة عاصمة قطر ليعمل مديراً‮ ‬لتحرير صحيفة‮ “‬الراية”‬،‮ ‬ولكنه سرعان ما أصدر من هناك مجلة‮ “‬الدوحة” ‬التي‮ ‬ترأس تحريرها منذ صدورها في‮ ‬عام‮١٨٩١ ‬حتى أغلقت بعد نحو خمسة أعوام،‮ ‬ليشكل‮ ‬غيابها خسارة للصحافة الثقافية،‮ ‬لأنها عُدّت،‮ ‬في‮ ‬زمنها،‮ ‬من أبرز الدوريات الثقافية العربية وأكثرها تميزاً،‮ ‬واستطاعت أن تستقطب نخبة من خيرة حملة الأقلام المبدعة في‮ ‬العالم العربي،‮ ‬بمن في‮ ‬ذلك من بلدان الخليج‮.  ‬لم تكن‮ “‬الدوحة” ‬المجلة الوحيدة التي‮ ‬أضفى وجود “رجاء النقاش” على رأسها تميزاً‮ ‬لها،‮ ‬فقد عمل قبل ذلك رئيس تحرير واحدة من أعرق المجلات العربية،‮ ‬هي‮ ‬مجلة‮ “‬الهلال”. ‬وفي‮ ‬عام ‮١٧٩١ ‬عُين رئيساً‮ ‬لتحرير‮ “‬مجلة الإذاعة والتلفزيون‮”‬،‮ ‬فاستطاع أن‮ ‬يحولها من مجلة منوعات ذات نزوع إعلامي‮ ‬صرف،‮ ‬إلى مجلة ثقافية حاضنة للإبداعات المصرية،‮ ‬ومستقطبة لأقلامٍ‮ ‬مرموقة،‮ ‬بينها الأديب الكبير نجيب محفوظ الذي‮ ‬نشر فيها روايته‮ “‬المرايا‮” ‬مسلسلة قبل أن تنشر في‮ ‬كتاب‮.‬‬برحيل “رجاء النقاش”‮ ‬يُغيّب الموت وجهاً‮ ‬آخر جميلا،‮ ‬ظل مثابراً‮ ‬على عمله ورسالته حتى آخر فترات حياته،‮ ‬هو الذي‮ ‬ساهم برؤيته المنفتحة على الحداثة والتجديد والأفق الإنساني‮ ‬الرحب في‮ ‬صنع مجد الثقافة العربية التقدمية والديمقراطية التي‮ ‬من تحت عباءتها خرجت وجوه ما زالت تشكل القلب النابض في‮ ‬حياتنا التي‮ ‬تزحف إليها من كل جانبٍ‮ ‬نذر الانغلاق والتزمت،‮ ‬بكل ما تنطوي‮ ‬عليه من بؤس وخراب‮.‬
 
صحيفة الايام
13 فبراير 2008