المنشور

عودة مشؤومة لتقليعة الميليشيات‮!‬

الميليشيا هي عبارة عن تنظيم شبه عسكري يتكون عادة من مواطنين متطوعين مدفوعين بأحد أسباب التمرد أو كلها معا مثل التهميش أو فيض العصبيات والولاءات. وهي تظهر عادة في أوقات اشتداد وتفجر الأزمات واندلاع الحروب الأهلية. ويمكن لها أن تتشكل في إطار الجيوش النظامية كما هو الحال في الصين وسويسرا، أو كرديف غير رسمي وغير معلن للقوات المسلحة الوطنية، كما هو الحال في السودان مثلاً. ويمكنها أن تتشكل كأذرع عسكرية تابعة لأحزاب أو حركات سياسية، أو كقوات للدفاع الذاتي يتم تشكيلها من جانب السلطات أو منطقة جغرافية أو سكانية معينة.
ولما كان ظهورها مرتبطاً باندلاع الأزمات والظروف والملابسات المحيطة بحالة ودرجة سخونة الاستقطاب السياسي (المصلحي أو الأيديولوجي سواء أكان على خلفيات دينية أو طبقية)، فقد كان من الطبيعي أن لا يرتبط صعودها في شكل ظاهرة، بحقبة تاريخية محددة، وإن كان ظهورها الطاغي في بعض المراحل التاريخية مثيراً ولافتاً بشكل موحي للغاية وذي دلالة خاصة.
بهذا المعنى فقد كانت ‘صناعة’ الميليشيات من ‘الصناعات’ القديمة في تاريخ النزاعات والصراعات البشرية منذ الأزل، حيث كانت المجموعات والزمر تتشكل في ظل غياب أو ضعف الجهة المعنية بضبط الأمن وفرض القانون، وتحول الحالة المعاشية السائدة في ذلكم الحيز الجغرافي المعني إلى ‘حارة كل من إيدو إلو’ على حد تعبير الفنان السوري دُريد لحام.
وبهذا المعنى فإن ظهور الميليشيات مقترن حكماً بالفوضى وببدء اندلاعها وانتشارها في الهشيم، وهذه الأخيرة بظهور أولى علائم اتساع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون وتراكم الفقر في جانب والغنى الفاحش في جانب آخر. واليوم عندما يتلفت المرء يمنة ويسرى صوب النواحي العربية، فسيجد أن كثيراً من توصيفاتنا عاليه للحالة المنتجة لظاهرة ‘التمليش’ (أي تشكيل والانتظام في الميليشيات) متمظهرة في عديد الساحات العربية إما سفوراً أو تخفياً.
في العراق وحده هناك العشرات من هذه التشكيلات العسكرية.. جيش المهدي، وقوات بدر، وجند السماء، والجيش الإسلامي، وثورة العشرين، وقوات القاعدة، والبشمركة، ليست سوى عينة من تلك الميليشيات التي باتت تزدحم بها منذ ان دبت الفوضى في بلاد الرافدين ‘بفضل’ الغزو الأمريكي البشع لها عام 2003.  وفي الصومال هناك ميليشيا المحاكم الشرعية التي سرعان ما تحولت إلى جيش شبه نظامي اندفع ليجتاح البلاد ويسيطر عليها قبل ان تنجح حكومة بيداوا برئاسة عبدالله يوسف وبمساعدة القوات الاثيوبية في استعادة السيطرة على العاصمة مقديشو والمدن الصومالية الاخرى. وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة ظهرت ميليشيا القوة التنفيذية التي أنشأتها حماس بعد فوزها في الانتخابات البرلمانية في يونيه 2006.  وفي مصر أرسل الإخوان المسلمون في العام الماضي رسائل إلى ‘من يهمهم الأمر’ عندما قاموا باستعراض قوة (ميليشياتي) غير مسلح في جامعة الأزهر. وفي لبنان هنالك أحاديث وروايات عن عودة الطوائف والأحزاب للتدريب على السلاح في معسكرات سرية داخل وخارج لبنان بما يؤذن بعودة الميليشيات إلى الساحة اللبنانية، والتي لعبت دوراً ‘رائداً’ في تدمير لبنان خلال الحرب الأهلية 1975 – 1990.
وكان لبنان قد صحا مؤخراً على صدمة مفاجأة بظهور ميليشيا فتح الإسلام في مخيم نهر البارد، والتي استغرقت عملية إنهائها أشهر وضحايا من الجيش اللبناني وكارثة إنسانية لسكان المخيم الذين هُجروا بفعل المعارك الطاحنة إلى مخيمات الجوار المكتظة أصلاً. وفي بلدان المغرب العربي هناك بطبيعة الحال ميليشيات القاعدة العابرة للجنسية والتي يمتد نشاطها إلى بلدان المغرب والجزائر وموريتانيا، مع محاولات لإنشاء مواطئ أقدام لها في تونس وليبيا وتشاد ومالي وبعض الدول الأفريقية ذات الإمكانيات الضعيفة.
وفي اليمن فاجأت ميليشيا حسين الحوثي الجميع بقوة وبحجم نفوذها وقوة تنظيمها وتسليحها، باعتبارها الإطار الأحدث للظاهرة ‘الميليشياتية’، بعد الظهور القوي للتشكيلات العسكرية السرية للقاعدة.  ومع أن البيئة الاجتماعية، والثقافية اليمنية التي تلقي بظلالها على العلاقات المجتمعية للسكان متجسدة في ولاء الفرد لقبيلته أكثر منه للدولة.. أيضا ومع أن السلاح منتشر بكثرة في اليمن، حيث يقدر وجود أكثر من 50 مليون قطعة سلاح لدى السكان، إلا ان ظهور التشكيلات العسكرية على النحو الذي ظهرت به ميليشيا الحوثيين، يعتبر ظاهرة وتطور جديدين في الحياة السياسية اليمنية.      إذن يمكن القول بأن ظاهرة صعود الميليشيات تسجل في الآونة الأخيرة انتعاشاً ورواجاً ملحوظين في غير بقعة من عالمنا العربي، من مشرقه إلى مغربه. وبما أن المزاج العربي الشعبي، هو عرضة – بحكم تقارب مكوناته الروحية – للتأثر بعضه ببعض، فمن غير المستبعد – والحال هذه – أن تلقى هذه الظاهرة البالغة الخطورة على الأمن القومي العربي، قبولاً وتماهياً ثم رواجاً في البقاع العربية التي لم تخترقها بعد. وهذه كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فظهور الميليشيات هو من علامات التردي المحتوم نحو الفوضى ومجهولها الذي أقله تدمير التعايش بين مكونات الشعب الواحد، وترتيباً، تهديد السلم الأهلي الذي لا يستقيم انتظام حياة ما بدونه.
السؤال الآن: ما الذي دفع فجأة بهذه الظاهرة للواجهة في عدد غير قليل من بلدان المنظومة العربية الاثنين والعشرين؟
هل هي فقط البيئة السالبة الطاردة للتجانس المفسح في المجال لتألق الجميع في رحابه.. المولَّدة للتنافر والتهميش والتنازع؟ أم أن المسألة غير مفصولة عن تدافع التحولات في البيئة السياسية والاقتصادية والثقافية العالمية المحتقنة؟
كل المؤشرات تدل على أن العالم يشهد اليوم صعوداً غير مسبوق للهويات الجهوية الضيقة على حساب الهويات الجامعة، وانتعاشا واسعاً للعصبيات الشعوبية على حساب الكيانات الأرحب، كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لصعود النزعة الجهوية (الإقليمية) لسكان إقليم السند وإقليم البنجاب، على حساب الدولة المركزية في باكستان. وصعود أسهم الطوائف على حساب سهم الهوية الوطنية والقومية والكيان اللبناني الواحد (الدولة اللبنانية) في لبنان.
ولا يقتصر هذا الأمر على الإقليم العربي وإنما هو يشمل العالم كله تقريبا. فالانقسام السياسي في كينيا قائم على أساس قبلي (بين الرئيس وزعيم المعارضة). والاسكوتلنديون انحازوا للهوية الوطنية على حساب الهوية البريطانية فوق الوطنية.
بهذا نحسب ان ‘مداهمات’ العولمة، بأدواتها وموادها، لمجتمعات العالم المختلفة، لاسيما تلك التي يتسم ارتباطها بالاقتصاد العالمي وبالعلاقات الدولية عموما بعدم العمق والسعة، والتي وجدت نفسها فجأة مكشوفة على كافة أصعدتها، سيما الثقافية – قد استدعت ردات فعل موازية استُفِزت خلالها كل ‘ذخائر’ الهويات الفرعية وذلك برغم تعاطي المجتمع الكوني العالمي الآخذ في التبلور مع مخرجات موجة العولمة، من تكنولوجيا اتصالات وشبكة أقمار اصطناعية تغطي الكرة الأرضية، بالتظافر مع ثورة الاتصال عبر شبكة الانترنت والهواتف الجوالة.
بمعنى أن الاختراقات الثقافية العابرة للجنسية قد تمكنت من التوغل و ‘التمسكن’ إلى داخل أنسجة البلدان والشعوب وأنساق، قيمهـا وعاداتهـا وتقاليدهـا. إلا أنه يبدو أن مقاربة الصدمة (Shock approach) التي تمت بها، وفظاظة ووحشية توغلاتها، هما اللتان استدعتا مثل ذلكم الاستنفار ورد الفعل القوي الموازي لهما.
منتهى القول أن التخندق ‘الجماعاتي’ التلقائي بأشكاله ومستوياته المختلفة، بما فيها مستواه ‘الأرقى’ (الائتلاف والانخراط في المليشيات)، له أسبابه الخارجية (العولمة وتداعياتها الاجتماعية والثقافية) مثلما أن له أسبابه الداخلية المتمثلة في اتساع نطاق الإفقار والتهميش. 

صحيفة الوطن
12 فبراير 2008