المنشور

الائتلاف الممكن في‮ ‬الحكومة الكينية‮!‬

راهنت المعارضة الكينية على ثلاث أوراق الورقة الأولى انتخاب الرئاسة الذي خسرته والورقة الثانية ضغط الشارع أما الورقة الثالثة وهي ورقة البرلمان، حيث حصد اودينجا ٩٩ مقعدا في البرلمان مقابل ٣٤ مقعدا لكيباكي.
 ووفق اللوائح والقوانين فان الرئيس لا يمكنه تشكيل حكومة إن لم يكن لديه الثلثان ولن يكون أمام الرئيس إلا خيار حكومة ائتلافية ولن يتمكن بتخطي المعارضة نيابيا خاصة وان رئيس المجلس صار من نصيب المعارضة التي لا تزال تصر على عدم شرعيته بتهمة تزوير الانتخابات لهذا ستكون كينيا منقسمة في الشارع، ومنقسمة في البرلمان وأمامها معضلة دستورية وسياسية لا بد من حسمها وإلا سيظل النزاع العنيف يهيمن على الشارع فيما الساسة داخل قبة البرلمان يتناقشون على الحل والحصص.
لقد انتقلت كينيا فجأة لحظة ما بعد الانتهاء من فرز الأصوات وإعلان نتيجة فوز كيباكي على منافسه اودينجا لحالة التوتر الانتخابي المعتادة في كل حملة انتقالية إلى مناخ من الصدام العنيف الذي استشرى خلال ساعات في مناطق مختلفة، ثم سرعان ما توج بحمامات دم وبحالة من الفوضى المتناهية والعنف المتصاعد، وكأن البلاد تخلو من عقل للحكمة، وسياسيون قادرون على لجم أنصارهم ورجال امن فقدوا دورهم الأمني فتحولوا إلى قوة تمارس الإكراه المتعمد في دولة بدت الطفيلية البيروقراطية تنخر جسدها وأجهزتها منذ زمن الرئيس الراحل “دانيال آراب موي” الذي رشح كيباكي خليفة له، وبذلك نستطيع أن نفهم بكل وضوح السنوات الطويلة التي عرفها كيباكي وهو بين أروقة الدولة فترة كونه نائبا في البرلمان ثم كوزير في وزراتها المختلفة فنائبا للرئيس إلى أن صار رئيسا لكينيا؛ فتضخمت لديه شهوة السلطة فكان عليه أن يعيد ترشيح نفسه خلال الدورة الانتخابية الثانية ديسمبر2007.
وإذا ما عرفنا أن كيباكي دخل الانتخابات برغبة قوية للبقاء في السلطة فان اودينجا المعارض لا يقل عنه طموحا وتطلعا للوصول إلى السلطة كحلم قديم ودائم سعى للوصول إليه في جولات سياسية وانتخابية سابقة وهو لا يقل شهوة للسلطة من منافسه كيباكي.
ما نود الحديث عنه مسائل عدة ابعد من صناديق الاقتراع خاصة وان مظهر الصراع القبلي بهذا الحجم يعبر عن انفلات قائم على التحضير المسبق للكبريت وبرميل الزيت، وكل ما فعله الخارجون على القانون هو أنهم وجدوا الانفعال والغضب الاجتماعي تربة خصبة لإشعال تلك الموجات البشرية ودفعها في اتجاه الصدام الاجتماعي والعرقي والطائفي بحيث تجاوز صناديق الاقتراع، وكأنما المهزومون حملوا معهم لوائح وأسماء من صوتوا ضدهم ومن صوتوا معهم!! ونتيجة هذا الهلع المفاجئ لدى الناس العاديين القاطنين بين أحياء شعبية بائسة موحدة ومشتركة فهربوا في اتجاهات مظلمة من الأمكنة، ولكنهم سقطوا بين قبضات خصومهم؛ فكان مصير الأبرياء الهاربين من صراع هائج الموت المجاني.
ترى لماذا لم يفهم الخاسرون في صناديق الاقتراع ان من قتلوهم لا يملكون مفاتيح التغيير ولا يملكون دور التزوير ولا حتى هم بانتظار علب الذهب من سيادة الرئيس الفائز! فلماذا اندفع هؤلاء إلى أجساد الناس ضربا وقتلا؟ ولماذا وجد الأمن نفسه يضرب باتجاهات عشوائية تارة، وباتجاهات قبلية وعرقية تارة أخرى وفق احتجاجات ورأي وكالات الأنباء ورأي المعارضة؟ فهل كان للأمن وأجهزته “المعتقة” دورهم في تكريس حالة الانقسام وتأبيد وجودهم في السلطة التي منحتهم امتيازات كثيرة؟ ولماذا عجز الرئيس عن تحييد الفوضى والسيطرة على مكامن المشكلة؟. لقد كان مأزق كيباكي هو الفساد المستشري في أجهزته على الرغم من نجاح برامجه الاقتصادية وخططه التنموية بما فيها برنامجه في مجانية وإلزامية التعليم محاولا اودينجا اختراق نقطة ضعف كيباكي وهو الفساد المالي والإداري والأخلاقي في أجهزته إذ سيطرت قبيلة كيباكي/كيكيو “٤٢٪ من نسبة السكان” على مرافق حيوية كالجيش والأمن والمواقع العليا في أجهزة الدولة، إلى جانب حصدها من الامتيازات والاستثمارات وعلاقتها بالشركات العالمية، بينما يرى اودينجا ان قبيلته ليو “٣١٪ من نسبة السكان” تحاصرهم الإجراءات البيروقراطية والفساد الإداري والحزبي للحكومة المسيطرة.
فإذا ما تصارعت القبيلتان اللتان تشكلان ٧٣٪ من السكان فما هو دور ٣٦٪ من هذا الشعب في لعبة التوازن والصراع؟ خاصة وان الجانب الديني هنا لا يلعب دورا رئيسيا في النزاع وان كان المسيحيون ينتمون إلى كنائس وملل مختلفة فإنهم يبقون في النهاية يشكلون ٠٧٪ من إجمالي السكان بينما ٠٣٪ موزعة على ديانات أخرى كالمسلمين والهندوس والبوذيين والبهائيين والسيخ وديانات تقليدية. فأين صبت بقية القبائل والأعراق أصواتها أثناء الانتخابات؟ وما هو الجامع بين المتنافسين داخل كتلة تشكل الثلثين من قبائل المجتمع وقواه التقليدية ومواقعه الاجتماعية وتأثيراتها الاقتصادية في عملية التنمية؟
ربما اللوحة الاجتماعية معقدة في فهم توزيع الأصوات على ثمانية محافظات أساسية وأحياء توزعت فيها القبائل بشكل متداخل لهذا أراقت “قامات” القتل ومناجل الموت دماء جيران الأمس لمجرد كونهم صوتوا لشخص آخر.
في تجربة امتحان “ديمقراطية” كينيا الهشة سقط جانبان الجانب الإداري للحملة والرقابة الانتخابية من جراء التزوير، وسقط عنصر آخر هو انتقال العملية السلمية إلى العنف وتفشي خطاب العنف على أساس الهوية. فهل كانت هناك رائحة النفط والغاز المحرك الخفي للصراع بين قوتين ترى أنها تحلم بتملكه في مناطق عرضة للتقسيم الجغرافي والإداري كما هو في دول عدة؟ خاصة وان المعلومات الأخيرة تشير عن وجود النفط والغاز في كينيا وهي بانتظار الاستثمارات الكبرى في حقل يشكل حلم الفاسدين والمتطلعين بشهوة للمال والسلطة.
ولكن إذا وجدت رغبة صادقة للمتنازعين بحفظ دماء الشعب الكيني؛ فان تقاسم السلطة عن طريق الائتلاف حل عادل إذ ليس بإمكان وساطة كوفي أنان إخراج الأرنب السحري من قبعته؛ ففي جيب اودينجا وكيباكي مفتاح الحل شريطة التنازل المتكافئ من الطرفين. وإلا سيعود الشارع يسفك دما غزيرا من اجل الاستفراد بالسلطة مهما دفع الناس الأبرياء الضريبة من حياتهم في لعبة سياسية قابلة للمصالحة والتوافق.
 
صحيفة الايام
12 فبراير 2008