بتجرد نستطيع أن نؤكد أن طرح صندوق العمل “ تمكين” لاستراتيجيته الجديدة يمكن أن يعتبر مؤشرا حقيقيا على جدية التوجهات الرسمية المعلنة مؤخرا باتجاه تمكين المؤسسات والقوى العاملة البحرينية، فالاستراتيجية التي طرحت نهاية شهر أكتوبر الماضي تؤشر بوضوح على حيوية غير مسبوقة لم نعهدها منذ فترة، هي عبارة عن سباق مع الزمن لبلوغ الأهداف الاستراتيجية الأولية بحلول المرحلة الأولى من رؤية البحرين 2030، وكما أعلن سيتم استهداف تطوير إنتاجية أكثر من 5500 مؤسسة ونحو 20 ألف بحريني مع نهاية نهاية 2014. استراتيجية “تمكين” الجديدة هذه تقوم على ما مجموعه 50 برنامجا خلال خمس سنوات من الآن مقسمة على ثلاث مراحل قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، تشكل في مجملها مجموعة أهداف استراتيجية، تسعى “تمكين” لتحقيقها ضمن الرؤية الاستراتيجية الشاملة، وجوهرها تحقيق طموح جعل الأيدي العاملة البحرينية الخيار الأمثل أمام صاحب العمل، لملء الشواغر الوظيفية في مؤسسات القطاع الخاص من الآن فصاعدا، وبالتالي العمل من خلال ذلك على تطوير مهارات العمالة البحرينية ودعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة لوجستيا، مع تقديم ضمانات مصرفية للشركات الصغيرة والمتوسطة بنسب لا تقل عن 50% من قيمة القروض لتلك الشركات، وأن تكون نوعية الوظائف المراد إشغالها ذات مردود مالي جيد للبحرينيين، حيث تطمح الاستراتيجية لدعم توظيف ما لا يقل عن 3600 بحريني سنويا، دون أن تحدد الاستراتيجية طبيعة مؤهلاتهم، فهل سيكونون من الخريجين الجامعيين أو المهنيين أم من سواهم؟! خاصة أن هناك برنامجا آخر تم الإعلان عنه قبل ذلك، يهدف لتوظيف الخريجين الجامعيين تتبناه وزارة العمل رصدت له ميزانية ضخمة وتسهم فيه “تمكين” أيضا! الاستراتيجية كما طرحت أمام وسائل الإعلام مؤخرا، تستلهم عوامل نجاحها من عدة معايير تجدر مناقشتها، هي في الأصل عبارة عن تحديات لابد من أن تخرج من حيزها النظري الصرف ليتم التعاطي معها على أرض الواقع، لعلنا نذكر من بينها هنا الإشارة إلى “ ضرورة رسم سياسة واضحة المعالم والأهداف باتجاه التنوع الاقتصادي وزيادة حجم الاستثمارات الأجنبية، علاوة على تشجيع الاستثمارات المحلية بطبيعة الحال، وتطوير إنتاجية الشركات وتنمية نسبة الصادرات بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق عامل الابتكار والإبداع، والتركيز على أولويات تتمثل في عدة قطاعات استهدفتها الإستراتيجية من بينها قطاعات المال والتأمين وخدمات الأعمال والسياحة وخدمات الاتصالات والترفيه والثقافة التي وجد أنها ملائمة لبيئة البحرين الاقتصادية” كما تذهب إلى ذلك الدراسة. من الواضح أن جملة التحديات تلك تحتاج إلى عمل محسوس ومبرمج ومتكامل وصبور من قبل إدارة “تمكين” فالمسألة كما يتضح من الأهداف المطروحة تتجاوز كثيرا صلاحيات وقدرات “تمكين” في الأساس، لتستدعي جهودا متكاملة وخطة شاملة على مستوى الدولة، فالتنويع الاقتصادي وتنمية نسبة إسهام الصادرات في الناتج المحلي الإجمالي وحتى استهداف قطاعات بعينها ليست من مسؤولية “تمكين” لوحدها، حتى يتسنى لها الاستفادة من آلاف الوظائف التي تملأها الأيدي العاملة الأجنبية في الوقت الراهن ليصبح باستطاعة البحرينيين إشغالها بشيء من التدريب ضمن جهد مشترك مع وزارة العمل المتحكمة في صنبور تدفق العمالة الأجنبية. وإذا تركنا التمنيات وحسن النوايا جانبا وركزنا على الأولويات والمتابعة الحثيثة والشفافة في تنفيذ تلك البرامج الطموحة، فهي رهن بتحقيق أقصى قدر من الشراكة بين مختلف الشركاء المفترضين بما فيها أطراف رسمية وأهلية من ذوي المصلحة الحقيقية، وذلك ما اعتبرته إدارة “تمكين” محقة بحجر زاوية المشروع برمته، حينذاك فقط نستطيع أن نتفاءل بنجاح الإستراتيجية الجديدة. الأمر إذا يعتمد بدرجة كبيرة على قدرة المؤسسات الرسمية المختلفة على تحقيق شراكة فاعلة فيما بينها وبين بقية مؤسسات القطاع الخاص، باتجاه تحقيق الأولويات المطروحة لإنجاح برامج وخطط “تمكين” المعلنة، كما أن القدرة على تسويق المشروع وجعله جاذبا لقطاعات واسعة من الخريجين والخريجات الشباب هي في حد ذاتها ضمانة مطلوبة لنجاحه، ومن شأنها أن تعجل بقطف ثماره بشكل مدروس من قبل بنات وأبناء البحرين ومؤسسات القطاع الخاص خلال فترات زمنية نرجو أن لا تطول. غاية القول إن استراتيجية “تمكين” هذه لا ينقصها الطموح وستظل حلما مشروعا يراود مخيلتنا جميعا، لكنها وبالقدر ذاته ستظل في مواجهة تحديات نرجو أن يتم تذليلها ودراستها بشكل موضوعي مسبقا.
صحيفة الايام
6 ديسمبر 2009
استراتيجية «تمكين» الجديدة
بيرلسكوني رجل السياسة والمال والنساء
يتميز المناخ السياسي والإعلامي في أوربا والغرب عموما، بان الأسرار ماعاد بالإمكان حفظها في أرشيف ارضي للأبد. والمثير أن تجد أعلى واقوى رجل في الدولة والمجتمع معرضاً إلى أن يقف داخل قفص الاتهام، طالما شعار الدويلة الديمقراطية، هو لا يوجد شخص فوق القانون . هكذا قالت أيضا وزيرة العدل السويسرية في قضية المخرج الأمريكي من أصل بولندي بولانسكي “ إن القانون لا يعرف شخصا عاديا أو مشهورا، فالجميع أمام القانون سواء “ . فهل يستحق سيلفيو بيرلسكوني رئيس وزراء ايطاليا وقفة منا، وهو الذي أثار غبارا دون حياء ويتحدث دون خوف، انطلاقا من سطوة المال والسياسة ، في مجتمع تتداخل فيه عملية الفساد المالي بالفساد الإداري، وتتشعب فيه الجريمة مع التشعب السياسي العقائدي المتنوع، بثقافة رومانية عتيقة مشدودة للإباحية والفضائح والصراحة . ايطاليا القرن الواحد والعشرين تكشف عن عورتها السياسية وفسادها في صورة ذلك التنين، لذي صعد خلال عقود قليلة للسلطة، بعد أن استقوى ماليا وتغلغل اجتماعيا وإعلاميا . ويشكل نموذج بيرلسكوني نمطا من الأثرياء الجدد في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، فهناك ثلاثة نماذج من الأثرياء في العالم ، رجل ورث ثروته عن العائلة ورجل راكم ثروته حرفيا واستثمرها، ورجل جاء من وسط الفساد والجريمة فبات إخطبوطا في المجتمع ويحظى بالاحترام والتصفيق، وبرلسكوني يمزج ما بين الثاني والثالث وقد تطور ضمن الآليات التي تدار بها مؤسساته المالية والاستثمارية والإعلامية . هذا الرجل السياسي ، المقاول “المصرفي” وصاحب شركات التامين العملاقة، ومالك الميديا الضخمة والمتعددة والرياضة في ايطاليا ليس إلا سيلفيو الشاب في كلية القانون، و المحب للعزف ومؤلف كلمات الأغاني وزير النساء، بل والغريب ان موضوع ومادة تخرجه في القانون عام 1961 هو “ الجوانب القانونية في الدعاية والإعلان !! “ . ولكن ابن موظف البنك المنتمي للطبقة الوسطى، عرف كيف يقفز من حرفته إلى أول مشروع مقاولات في ميلانو، وهي التي ستشكل الطريق السهل إلى تراكم ثروة المستقبل ، والتي حسب مجلة فوربس عنه، بأنه يمتلك ما يقرب من عشرة مليار يورو وهو ثالث رجل ثري في ايطاليا ، غير ان ثروته الحقيقية ستأتي من مؤسسته (1978) “فيني انفست “ . وخلال خمس سنوات من تكوينها استطاع ان يربح 260 مليون يورو، وغير المعروفة مصادر تمويلها المالي نتيجة التركيبة القانونية المعقدة لهذه المجموعة المتداخلة من الشركات، ومازالت حتى اليوم النيابة العامة الايطالية تحقق فيها . مالك “ مونداتوري “ وهي أهم الشركات الايطالية للنشر ، و “ميديا لانوم” وفيني انفست “ تمتلك أضخم الشركات العاملة في مجال التأمين والمصارف ، كما تعمل “ ميدوسا “ كشركة إنتاج للأفلام الايطالية ، هذا الرجل المالك لنادي ميلان يستحوذ على “ ميدياست “ “وانديمول “ وهي من أضخم الشركات التسويقية والإعلانية والمالكة لأربع محطات تلفازية فضائية ، والتي يملك اغلب أسهمها مع الأمير الوليد بن طلال . هذا الرجل المدفون بين أرصدة البنوك والثروة ، سيرى طموحه في مطلع التسعينات نحو مقعد السلطة السياسية ومنصب رئيس الوزراء. ما بين 1994-2009 استطاع بيرلسكوني تأسيس حزب سياسي جديد ( فورزا ايطاليا “ وتعني إلى الإمام يا ايطاليا كنظيره حزب كاديما الإسرائيلي، مؤلف من تشكيلة اتجاهات عدة ، المسيحي ، والديمقراطي ، والليبرالي ، والليبرالي المحافظ ، بحيث فاز الحزب برئاسة الوزراء أربع مرات . وإذا ما كانت زوجته الخيرة فيرنيكا لاريو، والتي تطلب الطلاق ، اقترحت أن ينام زوجها في المستشفى وتلقي العلاج في “ عيادة جنسية “ ، فان المجتمع الايطالي وإعلامه لا يتوقف عن ملاحقة مغامراته.
صحيفة الايام
6 ديسمبر 2009
مـحـنــة المفـصـولـيــن…!
قصة قصيرة
مـحـنــة المفـصـولـيــن…!
ليل التباريح أرخى سدول آلامه وغارت نجوم إضاءاته وران صمت الأزمة على أوتار عصافير
الوطن وشبحت عيون كلاب صيد الدنيا تترصد أوكار الأحلام .
إجتمعت الأسرة حول إبريق شاي الهموم وأقداح الوجل والسكّر المرّ.
لقد عاد أحمد يوسف علي ، مطعونا بسكاكين سوق المال ، حاملا بيد قلبه الجريح ،كتاب فصله من
عمله، فاستقبلته زوجته وإبنه وإبنتاه ، بتصبّر المقهور ، فقبل إسبوعين فقط ، كان قد راجع أحد
الأطباء الإستشاريين في مستشفى الضمان الصحي ( تنزف ذاكرته ما سبق ):-
بادره الطبيب :
– تفضل أسترح..صحتك لا بأس بها، لكن الكشف الطبي وفحوصاتك المختبرية ، تظهر إرتفاع
ضغط الدم ونسبة كوليسترول متزايدة وبداية ارتفاع ضعيفة لمعدل سكر الدم ( يترك الملف
ويرمقه بنظرة عطف)، لا تبتئس .. لا خوف عليك..فقط وفقط دع القلق وأبدأ الحياة..أغلب
الأمراض سببها عدم الراحة النفسية(من أين تأتي الراحة ؟ّ! طبيب يداوي الناس وهو عليل !!).
– دع القلق !! كيف ؟ في بنكنا كبقية البنوك، وشركات القطاع الخاص، شغلنا الشاغل وخبزنا اليومي
وإنهيارطمأنينة عيشنا وإفلاس مستقبلنا بانهيار وإفلاس البنوك و تعثّر الشركات، صار واحدنا
يحدث نفسه (ترى من سيأتي دوره بالفصل؟ أنت ..هي ..هو..أنا؟) لغط وإشاعات ،
ثم تقول لي: دع القلق!!
– أنت الآن في عامك الثامن والأربعين، وعليك مواجهة مشاكل الحياة بمسئولية كأغلب الناس،
بحيث لا تدعها تسيطر عليك .
– كلام جميل ..ولكن الواقع(تخرج من فمه حسرة كمنفاخ الحدّاد)
– خذ دواءك..إمتنع عن كل شيء ضار كما أخبرتك سابقا.
– شكرا (ملوّحا بالوداع)
وصل بعد الصيدلية إلى البيت.
فتحت زوجته باب اللهفة وغمرته ببحر مشاعرها، أخذت منه كيس الأدوية، إبنه البكر أيمن، لم يعد من الجامعة، إبنته أحلام طالبة الثانوية وأختها إبتسام طالبة الإعدادية ، هرعن لاستقباله عندما صك سمعهما لحن صوته المحبب.
تصابره زوجته خلاف ما تضمر:
– يا أبا أيمن.. حبيبي.. حالتك طبيعية ووجهك يفيض بالصحة (ياريت.. يتلألأ دمعها المتورّد
فوق وجنتي عينيها الساهمتين فيشتعل الغم)
يفزّ من إغفاءة الذكريات، بضرب مطرقة المعضلة.
تنتابه رعشة الذعر من قادم الأيام.
تحاوره ام أيمن بلسان الحنايا:
– تفاءلوا بالخير تجدوه.. لو كنت أشتغل لوفّّر ذلك الكثير..( لو!!) أعلم أن العيش صعب
ولكنه ليس مستحيلا.. المهم دعنا نحسبها بدقة.. نضغط مصروفاتنا.. نستغني عن الكماليات .
– الكماليات!!.. هل…
– (تقاطعه برفق الحرقة) أقصد التنوّع والترفيه والسفر.
– طيّب..والضروريات؟!
– تأخذ الحيرة بلسان الفؤاد فينطق الصمت)
– ( يتدفق سيل الحساب مؤشرا بسبابته اليمنى على أصابع يده اليسرى مالئا راحته بالنكد) إحسبي معي :
رسوم ومصاريف أيمن الجامعية..ضروريات حياة الإبنتين ودراستهما وأجرة توصيلهما للمدرسة..
معاش وإحتياجات الخادمة التي لا يمكن الإستغناء عنها لإصابتك بهشاشة العظام ..إستنزاف السيارة
لمعاشنا.. قوائم الكهرباء والماء والبلدية والتلفون وإنترنت دراسة الأولاد والصحة والواجبات
الإجتماعية ، لو لم يكن البيت ملكا لنا لكانت الطامة أكبر.
– ( شفتاها تطبقان دونما حرف)
زوجته تطرق برأسها ويظل يرنو إليها بنظرة السؤال.
يتسلم رسائل هاتفية متشابهة بالمضمون ، من جمعيته السياسية والإتحاد العام لنقابات العمال ونقابته:
“ندعوكم للتضامن مع إخوتكم العمال المفصولين بالإشتراك في المسيرة الجماهيرية التي ستنطلق
من أمام البنك المركزي إلى مقر الإتحاد العام لنقابات العمال مساء غد س 5 “.
يتصل المفصولون والمتضامنون ببعضهم تحضيرا للمسيرة..ينطلقون إلى الزمكان.
بعد إعلان المطالب ، يرتفع صوت مبحوح إستغرقته الشعارات:
يـشقى بـنـوها والنعـيـم لـغيـرهم فـكـأنهـا والحـال عـيـن عــذاري
تقول مشاركة بدا عليها الغضب :
– إشتغلنا بتعب ، حصلنا على النزر اليسير من بعض أرباحهم ، واليوم يرمون بنا وبعوائلنا إلى الشارع .
يعلق أحدهم :
– الجوع في الوطن غربة.
يصرخ آخر:
– قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق.
قال صوت متبرّم بلهجة المراقب:
– تعالوا..جئنا..ما فائدة المسيرات والصراخ؟..قولوا ما شئتم ونفعل ما نريد..أنظروا إلى قلّة الناصر .
أجابه قلب مفعم بالأمل:
– لا تستوحشوا من طريق الحق لقلة سالكيه.. راكم الكمّ ليتبدل الحال.
– ( ينظر إليه شزرا) فلسفة !!
– نعم ..إنها فلسفة الحياة.
تثنّي مشاركة :
– يجب المثابرة دون كلل لإنتزاع الحقوق
ومـا نـيـل الـمـطـالـب بالـتـمـنّي ولــكـن تــؤخــذ الـدنــيـا غـلابـا
قالت سيدة أخرى:
– سنبذل قصارى جهودنا وننتظر حلول المطالبة و المغالبة.
ينفضّ الجمع بعد المسيرة .
عبد الصمد الليث
2009/10/ 20
خيبة التوهمات في إزاحة التكنولوجيا للأيديولوجيا
قيل في خضم الجدل العالمي الذي اندلع في أعقاب التحولات الكبرى التي عصفت بالعالم في العقد الأخير من الألفية الثانية ومنها على وجه خاص انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية في أوروبا الشرقية - قيل يومها ‘إن التكنولوجيا هزمت الأيديولوجيا’.
المقولة كان لها وقعها الموسيقي على الأذن المتلقية بسبب سجعيتها الجميلة (وهذا بالمناسبة لا يقتصر على اللغة العربية وإنما اللغة الإنجليزية والروسية وغيرها من اللغات العالمية الرئيسية، بسبب عالمية الكلمتين أيديولوجيا وتكنولوجيا).
إنما شتان ما بين الكلمتين، معنىً ومدلولات، وإن استخدامهما على ذلكم النحو البلاغي الصرف ينطوي على خلط أوراق متعسف مفضي لاستنتاجات خاطئة وأحكام مغلوطة ليس لها أساس من الواقع أو المنطق الذي أسس له الفيلسوف الإغريقي العظيم أرسطو.
التكنولوجيا منتج (بفتح التاء) مادي تحول مع التقدم التكنولوجي، شأنه شأن العلم (وهذا الأخير بفضل التقدم العلمي) إلى مكون أساسي من مكونات قوى الإنتاج التي تشمل قوة العمل ووسائل العمل (أدوات ومواد العمل).
أما الأيديولوجيا فهي مذهب أو عقيدة يعود تاريخ ظهورها إلى البدايات الأولى لظهور الملكية الخاصة والمصلحة الخاصة في المجتمعات البشرية الأولى التي شهدت أول تقسيم رئيسي للعمل ببروز قيمة الأرض وانفصال مهنة زراعتها (بعد الاستحواذ عليها من قبل القبائل الأشوس) عن مهنة رعي الماشية، حيث أطلق هذا التحول النوعي في نمط حياة الإنسان الأول، العنان لتطور الملكية الخاصة للماشية ولحصاد الأرض وللعاملين في استصلاحها وزراعتها الذين أضحوا عبيداً لدى ملاَّك الأراضي.
بهذا المعنى فإن من السذاجة القول أن عصر الأيديولوجيا قد ولّى في حضرة التكنولوجيا. فهذه التكنولوجيا وبراءات اختراعها وتراخيص إنتاجها في نهاية الأمر لها ملاّكها الحصريين الذين لا يساومون أبداً على حقوق ملكيتهم فيها.
ربما نكون قد أطنبنا نظرياً في الحديث عن الأيديولوجيا، إنما ارتأينا أن هذا كان ضرورياً قبل الولوج في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو الخطاب الأيديولوجي اليميني الفاقع الذي ألقاه رئيس حزب المحافظين البريطاني ديفيد كاميرون يوم الخميس 8 أكتوبر الجاري أمام مؤتمر الحزب الذي دشن عملياً انطلاقة حملته الانتخابية للانتخابات البرلمانية التي ستجرى في شهر يناير القادم.
فحزب المحافظين الذي بقي خارج السلطة لمدة سنوات أصبح اليوم في وضع انتخابي مريح وفرته أخطاء وعثرات حزب العمال الحاكم التي لا يمكن تفاديها في ظل هذه الفترة الطويلة من العمل الحكومي الحافل بكافة أشكال التحديات الداخلية والخارجية. بيد أن هذا الوضع بحد ذاته لا يكفي ولا يوفر لحزب المحافظين وسادة انتخابية مريحة ما لم يرفده الحزب ببرنامج إنقاذي مغاير لتوجهات حزب العمال لإخراج بريطانيا من أزمتها المالية والاقتصادية، حيث تواجه البلاد عجزاً في موازنتها غير مسبوق منذ 27 عاماً. ولأن المحافظين ظلوا يجمعون النقاط على حساب حزب العمال بالاستفادة من بعض النتائج السلبية لعمل حكومة العمال وليس من أي شيء آخر، وهو الأمر الذي وضع المحافظين مؤخراً في حرج شديد أمام الناخبين ودلل الفارق بينهم وبين العمال في استطلاعات الرأي إلى تسع نقاط فقط (40٪ للمحافظين و31٪ للعمال). فكان أن أعلن الحزب من خلال رئيسه ديفيد كاميرون في مؤتمر الحزب الأخير، برنامجه الذي سيخوض على أساسه المعركة الانتخابية.
وهو خطاب أعاد للأيديولوجيا - ويا للمفارقة على يد اليمين - اعتبارها بعد أن كان هذا اليمين نفسه قد تنكر لها ولمسوغ وجودها في عالم الثورات الإلكترونية. فقد حفل الخطاب بالخطوط العامة والعريضة لأيديولوجيا اليمين، بل واليمين المتشدد، في التعاطي مع البعد الاقتصادي والاجتماعي لبناء وإدارة المجتمعات. فقد أعلن كاميرون بأنه، في حال انتخابه رئيساً للحكومة البريطانية سوف يعمل على تمزيق الحكومة الكبيرة التي أنشأتها حكومة العمال وأنه سوف يستبدلها بمجتمع أقوى (أقوى من الحكومة) قادر على تحمل مسؤوليته والاطلاع بدوره، والعمل على تقوية العائلة والمجتمعات المحلية.
ولأنه لا يستطيع تحقيق اختراق لافت على صعيد استعادة بريطانيا ومجتمعها لتوازنهما الاقتصادي والاجتماعي سوى بالمزايدة الطنانة، إنما الفارغة، على حزب العمال الحاكم، فقد ‘بشّر’ البريطانيين بأن عليهم أن يكونوا مستعدين لتقديم تضحيات من أجل خفض عجز الموازنة.
وقد استدعت هذه الوعود التي قدمها ديفيد كاميرون، والتي تعيد إلى الأذهان الروشتة التاتشرية، ردود فعل مضادة من جانب حزب العمال والحزب الليبرالي الديمقراطي اللذين حذرا من نوايا تحلل الدولة من مسؤوليتها الحمائية لعموم البريطانيين وتركهم نهباً لرأس المال ولتتدبر المؤسسات الخيرية أمر مساعدتهم.
أولم تقل تاتشر بأنه ‘ليس هناك شيء اسمه المجتمع’؟!
إنها، كما ترون، ذات الوصفة التاتشرية التي صعدت بها مارغريت تاتشر إلى سدة الحكم في 10 دواننغ ستريت في عام 1979 والتي لم يستطع البريطانيون التخلص من وطأة آثارها السلبية على الخريطة الطبقية للمجتمع البريطاني المتجسد تخصيصاً في توسيع الفجوة بين الفقراء والأثرياء، إلا بعد أن غيروا وجهة أصواتهم الاقتراعية لصالح برنامج التوازن الاقتصادي والاجتماعي لحزب العمال في عام 1997 ليضعوا حداً لحكم حزب المحافظين ولسياساتهم في تهميش دور الدولة وانسحابها غير المنظم من الاقتصاد واستقالتها من وظيفتها المجتمعية.
واليوم يعود المحافظون بأيديولوجيتهم ‘السوقية’ (نسبة إلى السوق) المتطرفة وذلك في عملية إعادة إنتاج واضحة للمقاربة التاتشرية كما قلنا.
والمفارقة اللافتة أن هذه ‘الإعادة’ تأتي في وقت تتعرض فيه نظرية ‘إباحية السوق’ على النمط الـ ‘نيو ليبراليزم’ المغرقة في تطرفها ‘الإباحي السوقي’ لمساءلات وانتقادات واسعة النطاق في الغرب كما في الشرق على خلفية الدمار الهائل الذي خلفته تطبيقاتها على الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي ككل نتيجة للأزمة المالية/الاقتصادية التي تفجرت على شكل فقاعات كبيرة هزت أسواق العقار والمال والنظام المصرفي!
ماذا يعني هذا؟
هذا يعني إنه حتى في أصعب وأسوأ الظروف التي يمكن أن توضع فيها الأيديولوجيا كالظرف بالغ السوء الذي وجدت الأيديولوجيا الرأسمالية بشقيها الليبرالي والـ نيوليبرالي، نفسها فيه إبان الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي لازالت تلقي بظلالها وتداعياتها على الوضع الاقتصادي العالمي العام، فإنها لا تنفك تغالب وتعاند وتجادل بصحة مذهب معتنقيها، مفندة بذلك كل توهمات الغارقين في عليائهم التنظيري الزاعمة بنهاية الأيديولوجيا عبر ‘نهاية التاريخ’ وتحديداً تاريخ الأيديولوجيات ‘الأخرى’ المغايرة للأيديولوجيا الرأسمالية.
صحيفة الوطن
5 ديسمبر 2009
حوار مع العفيف الأخضر (3 – 3)
ثم نأتي لمسائل جوهرية أخرى تفضل الأستاذ العفيف الأخضر بطرحِها في مقالته السالفة الذكر “لماذا إصلاح الإسلام؟”، وأهمها أن يقوم الإسلام بحلِ خلافاتهِ وإنهائها عن طريق اجتماع العقلاء من الطوائف لإزالة هذا الصراع الخطر بين السنة والشيعة الذي يكاد أن يتفجر في الخليج والجزيرة العربية.
هي دعوةٌ مطلوبة ومشكورة، وحبذا لو حدثت مثل هذه اللقاءات، وتكرستْ بلقاءاتِ المثقفين والساسة. ولكن تظل هذه دعوة تجريدية كذلك، فكلُ بلدٍ يواجهُ مهماتِ تحولٍ وصراعاتٍ ملموسة ساخنة مميزة ومختلفة، ومن أهم واجبات اليسار الديمقراطي في هذه البلدان فحص هذه الصراعات وتحليلها وتجميع القوى السياسية حول حلولها بغرض إحداث تحولات باتجاه الديمقراطية والسلام والتطور.
فتأجيجُ الصراعاتِ الطائفية السياسية مؤخراً تم بسبب تصاعد دور العسكر الإيراني وتشديد قبضته على السلطة، مما جعلهُ يؤجج المنطقة ويدخلها في حروب، وهو أمرٌ ليس مضرا بطائفة من الطوائف فقط بل هو عملية إضرار بشعوب المنطقة ككل والبشرية كذلك، وهو أمرٌ لا علاقة بالشيعة والسنة، فهو صراع سياسي على السلطة، ولكن هذا الصراع السياسي يتموه بالصراع الطائفي منعاً لكشفه واستمراراً لوجوده.
وفي هذه اللحظة المفصلية ونحن نزحفُ نحو بركان مفتوح بفعلِ مغامراتِ جماعةٍ غير مسئولة، تغدو عملية مساندة القوى الشعبية الإيرانية المطالبة بالديمقراطية والتنمية والسلام في بلدها، من أكثر المهمات أهمية.
إن مقاربات الشيعة والسنة وبقية المذاهب الإسلامية والأفكار الديمقراطية التحديثية، لا تحدثُ في المجرد، ولا عبر اجتماع حكماء معزولين عن قضايا الصراعِ الملتهبة، بل تحدثُ في مثلِ هذه القضايا، تحدثُ من خلال نضالِهم المشترك من أجل الحياة والسلام، من أجل وقف مغامرات العسكريين، ووقف التدخلات الأجنبية في شئون الدول الإسلامية، ورفع أيدي الدول الشمولية في المنطقة عن الموارد والاقتصاد، وبضرورة توزيع الخيرات المادية على المواطنين ككل، مثل توزيعها على أهل صنعاء وصعدة والجنوب بشكل متساو، وبعدم تحكم فصيل في قضايا الحرب والسلم والثروة، وفي ضرورة النضال من أجل إنتاج الدولة الديمقراطية العلمانية ذات الجذور الإسلامية والمسيحية وغير هذا من المهمات المحورية في حياة المسلمين، التي هي قضايا الوجود السياسي الكبير، قضايا الحياة الفاعلة أو التفكك والفوضى.
أما قضايا الحياة الاجتماعية المعبرة عن تخلف حياة المسلمين قرونا طويلة كقضايا العقوبات غير العادلة وتعدد الزوجات وقضية الجهاد وتطبيق الحدود وغيرها من القضايا، فإنها ارتبطت ببنى اجتماعية مختلفة، كانت ثمار ظروفها الخاصة، ونحن نجد انه حتى الحكومات التقليدية تراجع مثل هذه الحدود والقوانين بشكل متدرج، في حين أن الحكومات العسكرية الدكتاتورية تواصل التشدد في قضايا الحدود بغرض السيطرة على الناس وليس الحفاظ على الشريعة.
ويعتبر الجهاد مسألة مهمة في مقاومة الغزاة ولا يمكن شطبه، وهو مختلف عن الغزو وعن الإرهاب، وقد أسس الجهادُ أمم المسلمين المتعددة، ولكنه ليس الغزو ونهب الشعوب.
إن إصلاح الحياة الاجتماعية للمسلمين مسألة متدرجة طويلة تعتمد على نمو فقه ديمقراطي، متنوع، مجتهد يتابع الظروف والحالات الملموسة للبشر ولا يصدر أحكاماً عامة تجريدية متعسفة، مثل وعي القضاة الدارسين لكل حالة، في ضوء المصلحة العامة، والمعيار هو دور الأحكام في تقدم المسلمين.
إن كل قضايانا السياسية والاجتماعية تعتمد على حل قضايانا النظامية التشكيلية، أي انتقالنا من أنظمة شبه إقطاعية – شبه رأسمالية، تهيمنُ عليها كلها أنظمةٌ رأسماليةٌ حكومية بيروقراطية فاسدة، لا تريد الانتقال للرأسمالية الحرة، بطريقة الغرب الحداثية، وأغلبية المعارضات تعيشُ في الأفق الاجتماعي نفسه، ومن دون وجود قوى يسار ديمقراطية ترفض مثل هذا الخيار، وتجمع قوى واسعة للانتقال الحقيقي للديمقراطية، ستظل التغييرات جزئية ترقيعية.
إن التراكمات النضالية السياسية العامة، والنضالات داخل البنى الاجتماعية، تتواصل في الواقع، وسوف تزداد عبر السنوات القادمة، وسوف تحدث تحولات على صعيد الحكم وعلى صعيد مفارقة الأحكام الفقهية المحافظة كذلك، أمم الغرب احتاجت إلى عشرة قرون لتحولها الواسع، ونحن لا نريد أن نصبر بضعة عقود.
إن الحوار مع باحث مثل العفيف الأخضر هو حوار خصب يفجر شرارات المعرفة ويجعل المحاور يتعلم من مناضل كرس عمره من أجل تطور أمته والعالم.
صحيفة اخبار الخليج
5 ديسمبر 2009
على صلة بيوم المرأة البحرينية -3
وفرت الخدمات الاجتماعية التي قدمتها الدولة في مجالات التعليم والصحة وسواها قاعدة جدية لزيادة وعي المرأة وانخراطها في الأنشطة المختلفة وفي سوق العمل أيضاً. لم يكن الحديث عن المرأة والسياسة ممكناً بهذه الحيوية لولا أن المرأة تعلمت وخرجت لسوق العمل، ومن ثم وجدت المناخ الملائم أو الباعث على انشغالها بالسياسة أو اهتمامها بها. لو نظرنا للموضوع من منظور التسلسل التاريخي، سنجد أن موقف الدولة تجاه المشاركة السياسية للمرأة لم يكن دائماً بذات الايجابية التي كان عليها تجاه تعليم المرأة وانخراطها في العمل. لقد ظهر ذلك جلياً في مرسوم انتخابات المجلس التأسيسي الذي ناقش مسودة الدستور، الذي ارتأى حصر المشاركة في اختيار الأعضاء المنتخبين لهذا المجلس من الرجال وحدهم، رغم أن مطالبة نسائية نشأت في حينه تطالب بإعطاء المرأة هذا الحق. كان رأي الدولة يومها أن المرأة ليست جاهزة بعد أو مهيأة لنيل هذا الحق أو ممارسته. وقد تكرر الأمر نفسه في مرسوم انتخابات المجلس الوطني في السبعينات حين جرى المشرع البحريني على ما كان نظيره الكويتي قد سبقه إليه من حصر حق الترشيح والانتخاب في الرجال وحدهم. الانعطافة الكبرى في هذا المجال تحققت بالنص الواضح في ميثاق العمل الوطني على ضمان حقوق الترشيح والانتخاب في المجلس الوطني للنساء جنباً إلى جنب مع الرجال، كانت هذه الخطوة واحدة من أهم الانجازات التي جاب بها مشروع جلالة الملك الإصلاحي. وفي خطوة جعلت القاعدة الانتخابية في البحرين أكبر قاعدة انتخابية بين دول المنطقة، بما في ذلك الدول التي سبقتنا في مجال المشاركة السياسية مثل دولة الكويت الشقيقة التي لم تحسم المشاركة السياسية للمرأة إلا في وقتٍ لاحق لإقراره وممارسته في البحرين بسنوات. ولا يقل أهمية في هذا السياق التطور الإيجابي في موقف التيارات الإسلامية على تلاوينها المختلفة من مسألة مشاركة المرأة السياسية، ليس فقط على صعيد الموقف وإنما على صعيد الممارسة والتي تجلت في عملية التصويت على ميثاق العمل الوطني. والحق ان موقف التيار الإسلامي من مسألة المشاركة السياسية للمرأة، خضع هو الآخر للتدرج، من الرفض القاطع الذي تجلى في السبعينات، إبان مناقشة مسودة الدستور في المجلس التأسيسي حين أصر ممثلو هذا التيار على حصر تعريف كلمة مواطن بالرجل وحده، والضغط على الدولة كي لا تسمح بأي تأويل يمكن المرأة في مثل هذه المشاركة، وانتهاء بالموقف الايجابي الذي بلغته التيارات الإسلامية شتى في البلاد من هذا الموضوع. ولنا أن ندرك أهمية ذلك ونقدره حين نتابع المناقشات التي دارت في مجلس الأمة الكويتي حول المشاركة السياسية للمرأة، والمعارضة الشديدة التي تبديها غالبية تلاوين التيار الإسلامي هناك. ولن أتوقف طويلاً أمام موقف التيار الوطني الديمقراطي من المشاركة السياسية للمرأة، لأنه في الأصل كان إلى جانب هذا الحق، بل أنه وضعه ضمن أولويات برنامجه السياسي. وكان الموقف من هذه المسألة يشكل، ولا يزال بالطبع، مفصلاً من مفاصل رؤية التحديث التي يتبناها هذا التيار، وأشرنا في بداية الحديث إلى مظاهر المشاركة المختلفة للمرأة في أنشطة الهيئات والجمعيات المهنية والنقابية والجماهيرية التي نشط فيها هذا التيار. للحديث تتمة.
صحيفة الايام
5 ديسمبر 2009
الثقافة الوطنية ومخايلة الماضي
إذا كان جمال البناء المفكر الذي أثار بأفكاره جدلاً واسعاً اصطدم بالسائد والموروث اجاب على سؤال” هل ترى في تقديرك ان اسباب تخلف العالم الاسلامي اليوم راجعة إلى دعوات العودة إلى الماضي والخلافة ؟ بان اي دعوة إلى لماضي مرفوضة، مرفوضة بكل المعاني، ضروري ان ينظر الانسان إلى المستقبل، اما ان يعود إلى الماضي فهذا كلام خطأ والا ان يعود إلى بطن امه فإن جابر عصفور الكاتب والمفكر والناقد افرد في كتابه “النقد الادبي والهوية الثقافية” مساحة واسعة تحدث فيها عن الثقافة الوطنية ومخايلة الماضي كان يقول فيها : ان استعادة الماضي في مرحلة التحرر الوطني عملية حتمية تعويضاً عن مرارة الحقبة الاستعمارية وتأكيداً للهوية ودعماً لاحلام الاستقلال في تلك المرحلة، ولكن عملية الاستعادة نفسها وما صاحبها من آليات، وما انطوت عليه من عصابية التعويض فرضت نظرة احادية إلى التاريخ ونسجت من عظمة الماضي ما اصبح صورة للمستقبل الذي اشبه بحركة “الفلك الدوار” او حركة “الدولاب” وهي وهي حركة يتأرجح فيها التاريخ بين نقيضين صعوداً وهبوطاً. وعلى هذا الاساس كان يعتقد ان هذا التصور “الدهر – التاريخ” ينطوي على حتمية ثلاثية الابعاد في دلالته القدرية فهو ينفي دور الارادة الانسانية في تحريك التاريخ ويحيل حركة التاريخ نفسها إلى ما يجاوزها في فضاء مطلق وينتهي مجرى الحركة إلى نوع من التكرار الذي ينفي معنى التقدم. ويمضي عصفور في نقده لهذه الرؤية او هذه الفلسفة قائلاً “عندما تحول ماضي الأنا القومية إلى واحة للعزاء وانتخب منه ما صاغت به المخيلة صورة المستقبل العائد إلى اصله تم تسليط الموجب من الماضي ليمحو السالب منه وغدا التاريخ القومي كله موجب الايجاب المطلق بالقدر الذي غدت فيه القومية منبع الفضائل التي لا يعرفها الاخر والثقافة الوطنية قرينة ايجاب الكمال الذي لا يشوبه النقص ولا يقبل النقد!! وهكذا ظلت الثقافة الوطنية حلماً تحريراً منطوياً على ماضٍ اجمل من الحاضر إلى ان حدثت نكسة وكارثة العام السابع والستين عندها فتحت الاعين على ضرورة مراجعة مكونات هذه الثقافة وعلى رأسها تراث الماضي الذي يتسرب تقليده في الحاضر والذي لابد نقده في ذاته بعيداً عن صورة التخيلية وعن العصاب المتهوس بالاخر في الوقت نفسه وبالتالي لم يكن من قبيل المصادفة ان شهدت حقبة ما بعد ذلك العام الجهد المكثف والخلاق متعدد الابعاد والاتجاهات من عمليات قراءة التراث ونقده تلك العمليات التي اسهم فيها امثال زكي نجيب محمود، طيب تزيني، وادونيس، وحسين مرورة وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري وغيرهم عشرات. وبعبارة اخرى ظلت المخيلة التعويضية لازمة من لوازم المشروع القومي إلى الانكسار الذي ابتدأ بعام نكسة حزيران التي حدثت في العام السابع والستين من القرن الماضي وذلك ضمن سياق اشمل من الاستقطاب الدولي الذي كان بين غرب رأسمالي وشرق ماركس. في هذا الاصدار بحث عصفور تشكل مفهوم الثقافة الوطنية وعناصر تكونها وفي هذا الاطار كان يعتقد ان هذا المفهوم احادي البعد مدى الاتجاه في حالات كثيرة من حالات الممارسة الفعلية ولاسيما عند الذين قاموا بادلجته. وفيما يتصل بالمخيلة التعويضية كان يقول انها كانت في دور من ادوارها تبرز البعد القومي في تراث الثقافة الوطنية بوصفه البعد الذي منح العرب خصوصيته في عصر الاستقطاب بين الكتلتين المتصارعتين طول فترة الحرب الباردة وبالتالي كانت هذه المخيلة تحقق هذا الدور بابراز عناصر الاتفاق في ماضي الثقافة الوطنية على حساب عناصر الاختلاف وتعلي من اوجه الشبه مع الماضي على حساب الحاضر ومن القيم الجمعية على القيم الفردية. خلاصة القول .. ان الموقف من الماضي لا يعني رفض الماضي كثقافات وتراث وحضارات ولكن ان يكون هذا الماضي بديلاً عن الحاضر والمستقبل كما تفعل الحركات الاصولية الاسلامية التي تدعو إلى القطيعة مع العصر لاقامة سلطتها الدينية على حساب الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون واحترام حقوق الانسان والمساواة فهذه هي اكبر التحديات التي تواجه مشاريع النهضة والحداثة والتقدم.
صجيفة الايام
5 ديسمبر 2009
حوار مع العفيف الأخضر (2 – 3)
تعتمد أفكار الأستاذ العفيف الأخضر في مقالته الآنفة الذكر (لماذا إصلاح الإسلام؟)، على التجريد العام وعلى أفكار تنويرية مهمة كذلك، لكنها تنمو داخل ذلك التجريد.
لقد وصلنا إلى تحديد بعض القوى السياسية الفاعلة الأساسية في بُنيةٍ عربيةٍ مركزيةٍ هي البنيةُ المصرية النموذجية لعمليةِ استنتاجٍ تظلُ محصورةً بها، ولا يمكن كذلك تعميمها، من أجل رؤية السببيات الكبرى هنا. وقد رأينا أصحابَ القرار الذين دعاهم العفيف الأخضر لكي يقوموا بتجديد الإسلام وتحديثه.
ورأينا كيف أن الرأسمالية الحكومية المصرية والرأسمالية الدينية المحافظة الممثلة بالاخوان المسلمين، غير قادرتين على تجديد الإسلام، لأن الأولى تتشبثُ بالمقاعدِ السلطويةِ وبإدارةِ المال العام للمواطنين، بلا أمانة، والثانية الرأسمالية المحافظة الدينية التي جاءتْ من أموالٍ أخرى نفطية وبنكية، تظلُ تريد محدوديةً في الوعي الديني لدى المودعين الصغار والعامة التابعة الغارقة في إسلام العبادات، من دون تبصر لما هو أبعد من ذلك، أي لمهمات التغيير في البُنى الاجتماعية المختلفة.
في حين أن القوةَ الثالثةَ وهي الرأسمالية الخاصة فهي أقسامٌ مشتتة، متصارعة، لديها أفكارٌ ليبراليةٌ وتجديدية، ولكنها محدودة الشعبية بسبب عدم اشتغالها فيما يشكلُ الأرزاقَ الواسعةَ لدى الجمهور، أي في الرأسمالِ الصناعي، وبالتالي هي تعجزُ عن إنتاجِ الرأسمال الفكري التجديدي.
أما اليسار فهو أقل قدرة سياسية من إحداث التجديد في الإسلام من الناحية السياسية العامة، لاعتمادهِ على عامةٍ محدودة الوعي ولا تشتغلُ بالتجديد الفكري، على الرغم من مقاربة مثقفي اليسار لتجديد الحياة أكثر من غيرهم وأعمق من بقية القوى. ودور اليسار مهم في تجميع القوى السياسية لمعركة العلمانية وتجديد حال المسلمين ومن أجل الحداثة والديمقراطية، بشرط أن يكون هذا اليسار نظيفاً غير مرتبط بقوى استغلال وفساد!
لكي يحدثَ تجديدٌ للإسلام، أي من أجل إبعاد هذه العادات ومستويات الأفكار التي كرستها القوى المحافظةُ خلال القرون السابقة والزمن الحاضر، لابد من التفاعل الديمقراطي بين القوى السياسية السابقة الذكر، وأن يتم إبعاد هذا المستوى المحافظ وهو الذي شكلتهُ في الواقع قوى استغلال المسلمين، عن الحكم، أي ألا تتكرس تلك القوى كقوى دينية، مهيمنة على النصوص، وأن تتجسد كقوى سياسية مجردة من تلك الملكية المقدسة للنصوص.
القوى الرئيسية لا تريد الابتعاد عن مطلق السلطة ومطلق التحدث باسم الدين. ولا بد كمعركة سياسية أساسية أولى من إحداث هذه النقلة التاريخية! الكراسي الدافقة للمال بين الطبقة الرأسمالية البيروقراطية – الدينية، سواء أكانت كراسي عالية أم كراسي برلمانية أم نقابية فاسدة، هي العقبة أمام تجديد الإسلام وتجديد الأوطان من هذا الجمود!
إن العديد من رجال الدين والتجار ومن المثقفين لو حصلوا على فرص للعيش وافتتاح مصانع أو ورش أو جرائد وغيرها من وسائل العمل، لجددوا رؤاهم واجتهدوا لتطوير الأحكام والأفكار ولكن كيف وهيمنة الدول على الأسواق والمال العام عقبة كبرى دون ذلك؟
من هنا تغدو نضالية اليسار الديمقراطي غير المرتبط بالفساد الحكومي والأهلى على السواء، هي القوة الفاعلة لتحليل أي بناء عربي اجتماعي، فلكل بلد عربي خصائصه ودرجة تطوره وتباين أهدافه السياسية القريبة، ومقاربة مختلف القوى بدرجات اقترابها مع مشروع الحداثة السابق الذكر، ومن دون هذا اليسار الفاعل، النشط، المحلل، فإن كل القوى تدخل في عمليات تجريب وفوضى وتراجع، لا تستطيع أن تستكشف الآفاق السياسية المراد السير فيها.
هذا هو الخيار أما أن يجلس أصحاب القرار لكي يتداوالوا أمر تغيير المجتمع، وإصلاح الدين، فأين يمكن أن يجتمعوا وفي أي فضاء مجرد يحدث هذا الاجتماع؟!
إن بلداً عربياً أو إسلامياً له درجة مقاربة مع الحداثة أكبر من بلد آخر، فتونس أقرب للحداثة من السعودية، ومن غير الممكن توحد المهمات في البلدين، لكن هذا لا يمنع أن كل دولة فيهما تبقى هي القوة المسيطرة كثيراً وكبيراً وأن مشروع الحداثة الديمقراطي النوعي غير موجود في البلدين. وبطبيعة الحال كانت قيادة تونس قد اختارت دولة الرأسمالية الخاصة وأنتج هذا الاختيار تحولات اجتماعية ديمقراطية أكبر بكثير من السعودية، والسعودية اختارت الرأسمالية الحكومية المسنودة بعلاقات بدوية وأبوية محافظة، لكن الرأسمالية الخاصة والقوى الليبرالية موجودةٌ وتنمو وتطالبُ بحريات. مثلما أن تونس لاتزال الدولة مهيمنة ورأسماليتها الحكومية هي المسيطرة.
هذا العرضُ العامُ ينفي الجزئيات المقطوعة عن السياقات، أو أنه يضعُها في أمكنتِها المناسبة، فنحن نثمن حريات تونس الفكرية لكن لا نجعلها مطلقة، وأن البلدين القيمين في تجربتيهما تونس والمغرب، لا يعني إنهما مكتملان في مسألة الحريات الجوهرية، فلاتزال أجهزةُ الدول العميقة تملكُ الكثير وتوجهُ الحياةَ كما تريد.
صحيفة اخبار الخليج
4 ديسمبر 2009
حوار مع العفيف الأخضر ( 1ــ 3)
الباحث العفيف الأخضر من العقول النقدية المهمة التي نشطتْ الوعي العربي في عمليات كشف الواقع المتعدد البُنى والأنظمة والتراكيب.
وهو له دائماً قراءاتهُ التحليليةُ العميقة وتبدو الآن متباعدةً ونادرةً ولكنها ثمينة، وكان في دراساتٍ سابقةٍ يغوصُ في تعقيداتِ الهياكل الاجتماعية في عموم الشرق كما فعل في دراسة له في مجلة (قضايا فكرية) قبل سنوات، وقد كنتُ قد تابعتُ أولَ ظهورٍ فكري له في كتابِ (العسف)، عن التعذيب في الجزائر، الذي ظهرَ بعد انقلاب بومدين، فرفقتي معه طويلة!
في آخر مقالة له نشرت في موقع (الحوار المتمدن) وهي بعنوان(لماذا إصلاح الإسلام؟)، نقرأ له طرحاً يدعو لإصلاحِ الإسلام ككل عبر رؤيةٍ عامةٍ مجردة لكنها فيها تفاصيل غنية، ونقتطفُ فقرةً من مقالته رغم طولها لكنها مهمة لعرضِ وجهةِ نظرهِ:
(أمام الإسلام اليوم، أعني صناع القرار المسلمين، خياران: المراوحة في المكان أو الإصلاح. المراوحة في المكان أعطت على مرّ السنين حرباً دائمة مع الذات وحرباً مع العالم وحرباً مع العلم وحرباً مع الحداثة. إصلاح الإسلام يطمح إلى مصالحة الإسلام مع نفسه، ومع العالم الذي يعيش فيه، ومع العلم الذي يحقق اكتشافاً مهماً كل دقيقة بعضها يطرح على الوعي الإسلامي التقليدي أسئلة مُحرجة. ومع الحداثة بما هي مؤسسات سياسية وعلوم وقيم إنسانية كونية أي يسلم بسدادها ذوو العقول السليمة أينما كانوا.
مصالحة الإسلام مع نفسه بوضع حدّ للتكفير سواء تكفير المثقفين أو الفرق الإسلامية الأخرى كالمتصوفة والدروز والعلويين والأحمديين والبهائيين والشيعة…. وبوضع حد للحرب السنية – الشيعية الدائمة التي توشك أن تتحول اليوم إلى سباق تسلح نووي بين إيران وجوارها السني حامل لأخطار الحرب النووية وذلك بقبول الفصل بين الديني والسياسي، مصالحة الإسلام مع العالم تتطلب منه إعادة تعريف عميقة لعلاقته به تُنهي تقسيمه إلى دار إسلام موعودة بالتوسع ودار حرب موعودة بـ”الجهاد إلى قيام الساعة” كما يقول حديث للبخاري يَتَلَقنه المراهقون في دروس التربية الإسلامية في عدة بلدان، مصالحة الإسلام مع العلم تقتضي نسيان الإعجاز العلمي في القرآن وقبول الفصل النهائي بين القرآن والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني).
هذه أفكارٌ مهمةٌ لكنها مطروحة في عرض عام مجرد، رغم تخصصيها الخطاب بالتوجه نحو (صناع القرار)، فصناعُ القرارِ عموماً هم جزءٌ كبيرٌ من المشكلة. وتعبيراتٌ مثل تصالح الإسلام مع نفسه تنقلنا إلى مثاليةٍ غيرِ ماديةٍ تماماً.
التجريدُ والتعميمُ في كلامِ العفيف الأخضر يتركزان في رؤيتهِ تاريخ المسلمين المعاصرين كتاريخٍ عام، ليس فيه بُنى اجتماعيةٍ ذاتِ قوانين، وان تغييرَ حالِ المسلمين يتطلبُ رؤية هذه البُنى، ورؤية كيف تتناقض وتنمو أو تتحطم، وبهذا لابد أن نعرف لماذا كان خطابُ الإمام محمد عبده بهذا الشكل دون ذاك؟ لماذا استطاع محمد عبده أن يكون مجتهداً ولم يستطع الأزهرُ ذلك؟ (لقد خصص العفيفُ عبارةً من مقالته عن محمد عبده).
هذا يتطلبُ رؤيةَ تاريخهِ وتاريخَ البنية الاجتماعية التي جاهد فيها، وكيف كان مثقفاً دينياً مستقلاً بسبب خطاب الأفغاني الذي تبناه وكان خطاباً إسلامياً عاماً مستقلاً، وحيث كان الزعيمان منسلخين من وجهة نظر الأنظمة الشرقية الشديدة المحافظة في ذلك الوقت، ومقاربين للحداثةِ الغربيةِ في بعضِ توجهاتها الديمقراطية التنويرية، لكن هذه الوجهات النظر الإصلاحية ظلت فرديةً وفي سياقٍ ديني تقليدي كذلك.
أما الأزهر فكان تابعاً للقوى التقليدية خاصة المَلكية المصرية المحافظة وقتذاك، وقد ابتعدت القوى الدينيةُ المصريةُ عن أفكارِ المُجاهَدين الشيخين، في حين إن هذه الأفكارَ انتقلتْ وتم تبنيها لدى الوفد، وفي سياقٍ فكري مختلف كذلك، فكرست القوى التقليدية المتعددةُ من القصر الملكي والاخوان المسلمين والسيطرة البريطانية، رغم التباين بينها كذلك، نفسَها ضد الوفد وتطوره، أي ضد انتصار خيار الرأسمالية الخاصة المستقلة الديمقراطية.
هذه عينةٌ صغيرةٌ من التاريخ أقتطفُها لقراءةِ السببيات العامة وتعقيد وتركيب أي مرحلة، حيث واجهتْ القوى التقليدية نموَ الرأسمالية الخاصة المجسدة بالوفد، ثم ظهرتْ الرأسماليةُ الحكوميةُ العسكرية المجسدة بثورةِ يوليو لكي تقومَ بإصلاحٍ اقتصادي كبير، لكن الرأسمالية الحكومية ذات الشكل الدكتاتوري تنتهي بكوارث عادة. وتغدو المشكلاتُ الأكثر تعقيداً في مسائل الديمقراطية وقراءة التراث وتغيير الريف وقضايا الفساد ضرائبَ كبيرةً يجب أن تدفعها القوى الاجتماعية في مرحلةٍ تالية.
من هم صناعُ القرارِ في مصر حالياً ؟! وهل يمكن أن يتفقوا على حلولٍ مشتركة؟
إن صناعَ القرار بشكل كبير هم المسيطرون على الرأسمالية الحكومية كما جاءتهم من الفتراتِ السابقة وكما هيمنوا عليها وأضافوا تغييرات و(خصخصة) زادت الاقتصادَ فساداً وضياعاً، وهم يرفضون الانزياحَ عنها وعن فيوضِها المالية خاصةً!
وهناك الاخوان المسلمون كقوى رأسمالية – محافظة ذات جذور زراعية، ومنذ البداية رفضوا الإرث التنويري الديمقراطي من المجاهَدين الكبيرين السالفي الذكر، ومن الوفد كقوةٍ وطنية، ولكنهم في صراعاتهم الراهنة، وغياب الدكتاتورية العسكرية التي شوهت تاريخهم، أخذوا يبحثون عن أشياء جديدة ويجتهدون، لكن دون المقاربة مع الحداثة الغربية الديمقراطية التي يذوبونها بآليةٍ في الاستعمار دون تفريق عميق ودون قراءات مركبة بين الحداثة والاستعمار.
إن تغييبَ الإنجازات الديمقراطية لدى الوفد والرواد يتحدُ مع تغييبِ الإنجازات الديمقراطية لدى الغرب ولدى الثورة الإسلامية التأسيسية كذلك!
إن الترابط مع الاستبداديات الأبوية خاصة داخل الأسرة، وفي الثقافة، وغيابهم عن رأس المال الصناعي، وهيمنتهم على عامةٍ أمية غيرِ قادرةٍ على التطور السياسي، تجعل قدراتهم كمشاركين في المسئوليةِ النهضوية الراهنة تتجهُ لعدمِ تطوير الأحكام الشرعية والأفكار السياسية باتجاه العقلانية والمساواة والأنسنة.
صحيفة اخبار الخليج
3 ديسمبر 2009
على صلةٍ بيوم المرأة البحرينية – 2
من توطئة الأمس رمينا القول أنه على الرغم ما يبدو في الظاهر من تراجع في مكانة المرأة أو دورها، فإن الأمر في الواقع خلاف ذلك، أي أن مكانة المرأة ودورها في الحياة الاجتماعية والسياسية إلى ازدياد، لا إلى تناقص، دون أن يعني أن ذلك أن كل الأسئلة المتصلة بهذه القضية قد حُلت أو أنها في سبيلها إلى الحل. قلنا أنه لا يوجد تاريخان منفصلان أحدهما للرجال والآخر للنساء. وحين نتحدث عن التاريخ المعاصر للحركة السياسية في البحرين بوسعنا أن نقول القول نفسه. فلا يمكن الحديث عن هذه الحركة دون التوقف أمام مساهمة المرأة. وطبيعي أن حجم التحولات الاجتماعية – الاقتصادية التي شهدتها البحرين واتساع الخدمات الاجتماعية التي قدمتها الدولة في مجالات التعليم والصحة والتوعية قد أسهما في إحداث حراك اجتماعي نشط في البلد كان من نتيجته تضييق دائرة الأمية بين الرجال والنساء على حد سواء. وبالنتيجة أصبح عدد النساء المتعلمات إلى ازدياد مما ساعد على سرعة واتساع انخراطهن في الحياة الاجتماعية والثقافية، وأصبح عدد النساء في سوق العمل لافتاً ليس فقط بسبب ضغط الضرورات المعيشية وإنما أيضاً بسبب الوعي بأهمية العمل وضرورته كقيمة اجتماعية، وتعد تلك إحدى مظاهر نمو الوعي لدى البحرينيين إجمالاً. وشأنها شأن الرجل أبدت المرأة البحرينية وعياً بضرورات العمل السياسي والمطلبي، إن في دائرته الكفاحية من أجل المطالب العامة للشعب، أي مطالب الديمقراطية وتعزيز الاستقلال الوطني والتنمية المتوازنة المستقلة، وإن في الدائرة المهنية والنقابية وفي العمل التطوعي على أنواعه. وأسهم سفر الأجيال الشابة من البحرينيين، شباناً وشابات، في عقود ماضية للدراسة في الجامعات العربية والأجنبية في زيادة خبرات وتجارب هؤلاء، وبدا ذلك واضحاً على الفتيات بشكل خاص اللواتي كان لهن إسهام بارز في أنشطة روابط الطلبة البحرينيين في الخارج، ومن ثم فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، وكثير من الناشطات اليوم في العمل النسائي وفي فعاليات الجمعيات النسائية تلقين خبراتهن الأولى في العمل النقابي والتطوعي فترة دراستهن في الخارج. ثم جاء قيام جامعة البحرين، ليوسع من نطاق ديمقراطية التعليم، ونعني بذلك إتاحة فرص أوسع لقطاعات من أبناء الفئات متوسطة ومحدودة الدخل لدخول الجامعة وللتماس مع المناخ الجامعي الذي من شأنه أن يوسع من أفق الطالب ومن اهتماماته. ورغم أن قيام الجمعيات النسائية سابق لانبثاق الحركة الطلابية البحرينية إلا أن الجيل الجديد من الفتيات بين سبعينات وثمانيات القرن العشرين خاصة قد ضخ دماء جديدة إلى هذه الجمعيات، وعمق من محتوى الدور والرسالة التي تنهض بها، ووسعه من الإطار الخيري والترفيهي المحدود ليجعل منه دوراً أكثر التصاقاً بالهم الاجتماعي والوطني، كما أن لهذا الجيل يعود الفضل في تأسيس جمعيات نسائية جديدة شكلت إضافة إلى العمل النسوي في البلاد. وعند الحديث عن علاقة المرأة بالعمل السياسي، يتعين علينا فرز موقف القوى المختلفة من هذه القضية، ونعني بهذه القوى الدولة أولاً، ومن ثم القوى السياسية –المجتمعية في صورتيها الحداثية من جهة، والتقليدية أو المحافظة من جهة ثانية، لنقف على طبيعة النظرة التي حكمت سلوك هذه الأطراف من هذه القضية. للحديث تتمة في حلقة قادمة.
صحيفة الايام
3 ديسمبر 2009