­

المنشور

الأزمة العقلية للثورة (2)

كلُ لحظة دينٍ تأسيسيةٍ بطولية هي لحظةُ يسار.
وكلُ هزيمةٍ لرموزِ الدين في لحظةٍ تالية هي لحظةُ يمين.
مثلما هي ثوراتُ الشرق التأسيسية الحديثة كانت ثوراتُ الأديان ترتعش بين السحر والعلم، بين الغموض غيرِ المسيسِ الواقعي وذي القفزات في الحلم الاجتماعي، وبين الإمكانيات الموضوعية المحدودة لزمانهم، كان الأنبياءُ قادةَ ثوراتٍ، وتحولاتٍ، في ظلِ ظروفٍ صعبة رهيبة، وكان عليهم أن يدفعوا الضرائب الثقيلة لتحدياتِهم سواءً كانت عذاباً في حياتهم أم كوارث لأهلهم فيما بعد.
هناك التداخل بين السحر والنبوة، حيث يستمدُ الداعي العديدَ من أفكارهِ عبر الغيب، وعبر مخاطبةِ قوىً مفارقةٍ تمتلكُ معرفةَ المستقبل، وتحديدَ المصير، وتحديدَ العالم ومسارَهِ كليا ونهائيا، ومع هذا تبقى اللحظات اليومية مجهولة، ومصير الحركة السياسية الدينية متعلقاً بالخطوات الذكية على الأرض وبمعرفة القوى الاجتماعية وكيفية جذب العامة وعزل قوى الطغيان.
لكن التحولات التكتيكية تبقى مفهومةً وعزل الملأ الارستقراطي مفيداً لتغييرات كبيرة، ويظهر هنا الحلمُ الغامض السرمدي، بظهورِ دولة الفقراء وانتصار المعذبين في الأرض كليا، وإن الذين استضعفوا في الأرضِ سوف يُمن عليهم ويكونون هم الوراثين.
هو تبشيرٌ سياسي بانتصار الكادحين في بعض الأديان التام والنهائي، لكن ما يجري على الأرض يمضي بخلافِ ذلك، فالأغنياءُ هم الذين يصعدون، بسبب أن صعود الفقراء ظل في حالةِ الحركة الثورية، التي تهزُ قوانينَ التطور الاجتماعي، وتلغي بعضَ أوجهِها في لحظةٍ استثنائيةٍ تاريخية، ما تلبث أن تزولَ لأنها لحظة غير تقليدية، عابرة، ثم ترجعُ قوانينُ التاريخ في الأنظمة الاستغلالية، ويعودُ الأغنياءُ للسيطرةِ على مقاليد الحكم، وتعودُ الثروةُ “لأصحابها”، حتى يأتي زمنٌ مختلف يلغي التفاوت، له قوانينٌ أخرى.
وتدفعُ قوى الحلم الثوري ضريبةً مضاعفة بين صعود الثورات وهبوطها، فالنبي موسى يُمنع من دخول الأرض الفلسطينية ويحدث انقلابٌ عليه، والنبي عيسى يجري ما جرى له من عذاب بتعدد الروايات الدينية، والعائلة النبوية المحمدية تجرى تصفيتها بشكلٍ دموي رهيب وكذا الكثير من الصحابة وأصحاب حلم المساواة، ويعدمُ أهلُ المقصلةِ الفرنسية نبلاء وثوريين كباراً، ويصفي ستالين أبرزَ قادة حزب الثورة والكثيرين من العامة.
في منطقة التحولات الثورية العاصفة يصعدُ الفقراءُ وتظهرُ رموزٌ منهم، وهي لحظةٌ تبينُ الاستثناء والبطولة وتحطيم معايير الذل والخضوع وكسر عالم الطبقات، لكنها مجردُ لحظةٍ ثم تأتي القاعدة.
تظلُ الشعوب تعيشُ في الحلم، في لحظةِ الاستثناء والبطولة تلك، وترى انها تاريخها الحقيقي، غير الزائف، لأنها وجدتْ فيها روحَها الحرة الضائعة في عوالمِ القهر.
لا يخلو أي قائد ثوري حديث في الشرق خاصة من الجمع بين العلم والسحر.
حين نقول إن قائد ثورة أكتوبر يجمع بين العلم والسحر لن نكون مغالين. بين برنامج الكهربة وتوزيع فوائض الإنتاج على العاملين، ثم بين برنامج إزالة الاستغلال ومحو الطبقات، ثمة هوة كبيرة، في الطرف الأول يحلُ البحثُ والعلم، وفي الطرف الثاني يحلُ السحرُ.
دائماً هنا في الثورة حس الأبدية، والمطلق، وحس السيطرة على التاريخ إلى نهايته، فتحدث فترةُ الاستثناءِ الثوريةِ البطولية بضع سنوات أو بضعة عقود ثم تعودُ القاعدة، بسبب مستوى سيادة أساليب إنتاج موجودة ومتنامية قبل الثورات وبعدها.
الإسلامُ التأسيسي لم يعرفْ ما هي طبيعة علاقات الإنتاج السائدة لدى البشرية القريبة منه، وفي عالمهِ البدوي الحر، تصورَ إمكانيتَهُ المطلقة على صنع التاريخ، وكون القوة والعدالة النسبيتين بين الناس كافيتين لزوالِ الشرِ والاستغلال إلى الأبد.
لكن العالم الأرضي الواقعي كان يعيش زمن الانتقال من أشكال الإنتاج العبودية والمشاعية والبطريركية إلى أشكالِ الإقطاع، التي انتشرتْ وسادتْ في آسيا وأوروبا، وهي تجعلُ من ملكيةِ الأرض وخراجها أساس الوجود السياسي للدول.
وكان زمنُ الانتقال في عصر روسيا الاشتراكية هو زمن الرأسمالية العالمية واكتساحها الأرض. لكن الوعي السياسي المغيب عن العلوم يتصور انه زمن الانتقال للاشتراكية. هو غيبٌ بشكلٍ آخر، ولهذا يتكون الماركسيون بشكلين علمي شعاري وديني غائر.
هنا لابد للحلم والسحر من أن يتدخلا ليعطيا للعاملين إمكانيةَ التحليقِ في أجواءِ الفضاءِ المليئةِ بالمن والسلوى، وهم يدفعون ضرائبَ العمل والتضحية، مثلما أن جمهورية إيران تجعل البسطاء يطيرون بأجنحة الأئمة في أجواء الملكوت الرحبة، وتتكاثر مقابرهم ثم تتكاثر سجونهم في مرحلة لاحقة، مثلما أن جمهورية الحلم القومية العراقية تتحول فيما بعد إلى جهنم.

صحيفة اخبار الخليج
9 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

لكل راوٍ ما هوى

كثيراً ما تصادفنا عندما نقرأ كتباً في التاريخ عبارة: «وفي رواية أخرى»، خاصة حين يتعلق الأمر بسير الأعلام والشخصيات الكبرى، وأحياناً الأحداث الكبرى ذاتها، كأن يقال بأن فلاناً من الناس ولد في سنة معينة، في تاريخ معين، ثم يضيف الكاتب: «وفي رواية أخرى» يقال إنه ولد في سنة أخرى ويحدد هذه السنة. يحدث أيضاً أن يقال إن واقعة تاريخية معينة وقعت في المكان الفلاني في التاريخ الفلاني، «وفي رواية أخرى» يقال إنها وقعت في مكان آخر وتاريخ آخر. ويمكن للقائمة أن تطول، فيقال بأن فلاناً من الناس قد مات ودفن في بغداد مثلاً، لكن في رواية أخرى يأتي من يقول إنه مات ودفن في الشام أو في حلب ويحدد، للمزيد من الدقة، مكان قبره الذي مازال قائماً حتى اليوم، وقد يأتي مؤرخ آخر فينفي الروايتين معاً ويحدد مكان الموت والدفن في مصر أو في تونس وهكذا. في رواية أخرى! هنا تكمن إشكالية التاريخ. الإشكالية الناشئة عن أنه لا توجد رواية واحدة وإنما روايتان، لا بل عدة روايات، وفي كل رواية من عناصر الترجيح ما يجعلها قابلة لأن تصدق ولأن يُعتد بها مرجعاً. وليس سهلاً على المؤرخ الفاحص الذي يقارن بين الروايات بغية ترجيح هذه الرواية أو تلك أن يصل إلى قرارٍ قاطع ونهائي في هذا الصدد، كأن يقول إن هذه الرواية بالذات دون سواها هي الرواية الصحيحة وما عداها فهو باطل، لأن إثبات واقعة من الوقائع خاصة إذا كانت تفصلنا عنها قرون هو من الصعوبة بمكان، فضلاً عن أنه لا توجد ضمانات بأن المؤرخ الفاحص للروايات المختلفة هو شخص متجرد من الأهواء والميول، لا بل والقناعات المسبقة التي تجعله يلوي عنق الوقائع التاريخية لتتلاءم مع هذه الأهواء، أي ان يجري التعسف على التاريخ بإعادة تشكيل وقائعه وفق هذه الأهواء. وهو أمر يقودنا للتأمل ملياً في حقيقة ما إذا كان التاريخ الذي ندرسه هو نفسه التاريخ كما جرى، كما حدث حقيقة أو أنه ما روي ونقل إلينا، وإن الرواية لا تتسق بالضرورة أو تتطابق مع حقيقة ما جرى.. وقد تتطابق معها في عناصر وتفترق عنها في عناصر أخرى. يقال إن المنتصر هو من يكتب التاريخ.. ويبدو هذا القول صحيحاً إلى أبعد الحدود، فالمنتصر غالباً ما يقدم الرواية التي تتسق ورؤاه ومصالحه، أي انه يصيغ وقائع التاريخ بما يتلاءم مع هذه الرؤى والمصالح. وبهذا المعنى يمكن القول إن التاريخ المكتوب هو تاريخ المنتصر، دون أن ننسى حقيقة أن المنتصر عبر التاريخ ليس واحداً، وأن لكل حقبة تاريخية منتصرين خاصين بها، ولهم رؤيتهم الخاصة بهم التي قد تدفعهم إلى إعادة كتابة التاريخ وفق هذه الرؤية التي تتناقض مع الرؤية التي كانت سائدة في مرحلة أو مراحل سابقة، وبهذا الفهم يمكن القول إن التاريخ جرت كتابته عدة مرات كتابات ناسخة، بمعنى أن الكتابة اللاحقة نسخت أو ألغت ما سبقها لصالح الرؤية الجديدة المنتصرة. التاريخ ليس رواية واحدة، ولا رواية أخرى. التاريخ عدة روايات وعديد من الرواة، ولكل راوٍ ما هوى!
 
صحيفة الايام
9 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

لكن الجوع صناعة رأسمالية (1-2)

لم يبلغ إمام دين وقائد دولة في وصف الفقر كما أبلغ الإمام علي بن أبي طالب “ع” حيث قال: “لو كان الفقر رجلا لقتلته”. فمنذ عصور غابرة، وتحديدا منذ نشأة الطبقات في المجتمعات البشرية وانقسامها إلى أغنياء وفقراء، أو طبقات مستغَلة (بفتح الغين) ومستغِلة (بكسر الغين)، ومع ان الفقر موجود والفقراء موجودون في كل المجتمعات من دون استثناء إلا ان مصادر ومراجع التاريخ لا تنقل إلينا كوارث بشرية عن حالات الفقر والجوع والاعداد الهائلة للجياع والفقراء في العالم كالتي نشاهدها بأم الأعين الآن في مختلف بلدان وبقاع العالم، كما لم تخبرنا مراجع التاريخ بوجود أعداد هائلة من الجياع كالتي نسمع عنها حاليا حيث بلغ مجموعهم مليارا ومائتي مليون جائع حتى مع الأخذ في الحسبان مجاميع سكان العالم في تلك العصور مقارنة بمجموعهم الآن.
أكثر من ذلك فقد صدق من قال: “الجوع كافر”، فهو وراء ظهور آفات اجتماعية وجرائم وموبقات لا حصر لها سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
لكن لماذا لم تكن نسبة حجم ظاهرة الجوع ونسبة أعداد الجياع في العالم ضخمتين على مدى تاريخ العالم كله على النحو الذي بلغتاه في عصرنا الحاضر؟
الجواب ببساطة لأن الطبقات المستغِلة (بكسر الغين) لم تصل إلى حد من التوحش الشرس في تلك الأزمنة الغابرة وصولا إلى فجر تاريخنا العالمي الحديث الذي بلغته الطبقات المستغلة في عصرنا الحاضر، وعلى رأسها الرأسمالية، لا بل ان الطبقات الاستغلالية القديمة على تعاقب الحقب والمراحل التاريخية لم تكن تملك أصلا وسائل السيطرة الرهيبة لاخضاع الطبقات المستغَلة (بفتح الغين) وتركيعها وسحقها كالتي تملكها الرأسمالية الآن وعلى الأخص الشريحة منها التي باتت تعرف بـ “الرأسمالية المتوحشة”، والوسائل التي تملكها هذه على الطبقات الفقيرة المسحوقة لا تقتصر فقط على الاسلحة البالغة التطور، بل تشمل وسائل متطورة أخرى عديدة، كالإعلام المتخصص في غسل المخ، وكالبنوك المرابية وأنظمة القوانين والاقراض والائتمان، دع عنك استغلال العمال والمستخدمين في المصانع والشركات عبر تشغيلهم بأجور بخسة ولساعات عمل طويلة العديد منها غير مدفوع الأجر كما هو الحال بوجه خاص في الكثير من دول العالم الثالث وفي أقطار مجلس التعاون الخليجي وعلى الأخص العمالة الأجنبية. ومن ظواهر ونتائج ما تسببه الرأسمالية العالمية من افقار وجوع لشعوبها ولشعوب العالم الثالث بسبب طبيعتها الاستغلالية المتوحشة وما تملكه من قوة كدولة لفرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.. نقول من هذه الظواهر البطالة المرتفعة وارتفاع الأسعار وتدني الأجور وكلها مجتمعة تعد بمثابة العوامل الرئيسية لازدياد حدة الفقر والجوع وللازدياد المطرد لأعداد الفقراء والجياع في العالم.
ان الرأسمالية الأمريكية اليوم تقف في مقدمة الدول الرأسمالية المسئولة عن تفاقم كارثة الجوع حدة ولازدياد أعداد الجياع والفقراء ليس في العالم فحسب بل داخل بلادها الولايات المتحدة نفسها، ولاسيما منذ انفجار أزمتها المالية في خريف العام الماضي 2008م وهو الانفجار الذي سرعان ما عمت شظاياه اقتصادات العالم بأسره وسرت في مفاصلها سريان النار في الهشيم.
ومنذ تفاقم محنة وكارثة فقراء العالم وجياعه بانفجار تلك الأزمة المالية انعقد الكثير من المؤتمرات الاقتصادية العالمية تحت عناوين مختلفة جميعها جاء عقدها من باب “رفع العتب” ومسايرة الأخلاق والقيم الانسانية في ظل تفاقم أزمة الفقر والجوع عالميا من دون ان تحلحل قيد أنملة ليس من الكارثة فحسب بل من دون ان تضع أدنى حد لتفاقمها المطرد اليومي. والسبب في ذلك بكل بساطة يعود إلى أن الدول الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، غير جادة في حل مشكلة الفقر والجوع لا في العالم ولا في بلدها نفسه مادام القاضي هو الزاني، فمنذ متى كانت الآفة تملك علاجا لاشفاء ضحاياها والمبتلين بها؟
آخر مؤتمر من سلسلة هذه المؤتمرات والقمم المتعاقبة التي خصصت لمعالجة الجوع وليختم أعماله كأسلافه المؤتمرات السابقة ببيان انشائي هزيل “لا يسمن ولا يغني من جوع” بالمعنى الحسي الفعلي لهذه المقولة المأثورة لا بالمعنى المجازي كما اعتدنا في وصف المؤتمرات الأخرى الفاشلة غير المختصة بالجوع، هو مؤتمر قمة الأمم المتحدة لمكافحة الجوع الذي عقد مؤخرا في روما. ولربما حسنته اليتيمة الوحيدة الموافقة الالتوائية على زيادة المساعدات الزراعية الى الدول الفقيرة علما بأن منظمة الاغذية الدولية “الفاو” كانت قد طلبت إلى المؤتمر 44 مليار دولار سنويا وشدد جاك ضيوف مدير المنظمة على أهمية الرقم كحد أدنى لا مناص منه، وهو محق في ذلك إذا كان المؤتمرون جادين حقا لرفع المساعدات الى 44 مليارا لإنقاذ جياع العالم ولخفض عدد جياع العالم الى النصف بعد ست سنوات (عام 1015م)، علما بأن المهلة التي حددت مسبقا للقضاء على الجوع بعد 25 عاما تقريبا من الآن (عام 2025م)، والتي شكك أكثر المراقبين في الايفاء بها ألغيت من المشروع الاصلي وأقر المؤتمرون باستحالتها.
لكن ماذا لو اكتشفنا انه بحلول عام 2015م، أي بعد ست أعوام من الآن قد بقي عدد جياع العالم على حاله إن لم يتضاعف؟
وماذا لو اكتشفنا انه بحلول عام 2025م وهو الموعد الذي حدد سابقا لانهاء الجوع من العالم لم يتم القضاء حتى على نصفه؟
على الأرجح هذا ما سيحدث فعلا ولن يفاجأ بذلك إلا من لم يفهم أو لا يريد أن يفهم الطابع الاستغلالي للرأسمالية بعد، أو من يتوهم بقرب زوالها المحتوم.

صحيفة اخبار الخليج
8 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

الأزمة العقلية للثورة (1- 4)

يُلاحظ في تاريخ المسلمين المعاصر ترافق الايديولوجية الدينية مع القومية عدة عقود، ثم نرى خفوت القومية، وكذلك ترافقها مع الايديولوجية اليسارية، ثم خفتتْ هذه كذلك.
ما هي الأسباب التي جعلت من الايديولوجية الدينية بهذا الاستمرارية؟ وهل فعلاً تمتلك الخواص المطلقة وأنها هي الخالدة؟
إن الايديولوجيات الدينية ذات تاريخ طويل جداً، وهي ذات مكونات مرنة: السحر، والنضال لتغيير حالة تخلف كبيرة، ثم سيطرة قوى التخلف في مرحلة تالية أكثر تطوراً، واعتماد الغيب، وتعددية الإيحاءات والتفسيرات التي لا تنفد، والارتباط بالمطلق، وبمركزية الشخوص الإعجازية البطولية (الذكورية) غالباً والنسائية نادراً، والدوران حول العبادات كشكلانيةٍ وهوية مركزية للجماعات، والفقهية الجزئية لرفض أو مسايرة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.. الخ.
تعود هذه المحاور لما قبل تكون الأمم، وتعود للجماعات القبلية الموغلة في القدم، حيث تشكلتْ العقلياتُ الدينية الأولى عبر صراع الأرواح الخيرة والشريرة، ثم حين تكونتْ الأديانُ انتقلتْ هذه المكونات إليها، وحين تشكلت الشعوب والأمم، دخلت تلك المكونات في ثقافتها، فما هو قديم غيبي سحري يهيمن على المكونات العليا، وحتى في تكون قوميات العصر الحديث غربية وشرقية، تدخل تلك المكونات القديمة.
طرحت التياراتُ القومية واليسارية في بادئ وجودها لافتات علمانية وعلمية ورغبات قوية في كنس الخرافات والتخلف، وكانت مستفيدة من رأسمالية خاصة متقدمة في الغرب ومن رأسمالية حكومية في روسيا والصين خاصة، فكان التقدمُ الصناعي العالمي يفرضُ تحولات كبيرة في البنى الاجتماعية المتخلفة، ومن ضرورة انتشار الوعي الموضوعي للظاهرات.
في البدء النهضوي العربي تشكلتْ رأسماليةٌ خاصة ديمقراطية جنينية بفعلِ التجارة وشكلتْ وطنيات عربية دفعتْ عمليةَ الوعي الموضوعي وفي اتساع تحليل الظواهر الفكرية والتراثية خاصة، لكن قواها الإنتاجية تكلستْ بتوجهها للملكيات الزراعية والعقارية والمالية وبالتقصير في الإنتاج الصناعي، فتحالفت مع القوى الدينية المحافظة، وتزاوج ملاك الأرض وتجار المدن.
التوجهات الاشتراكية في الشرق قفزت بالتحولات الاقتصادية إلى مدى أكبر، لكن ملكيات الدول الحكومية الرأسمالية قادت في النهاية للمحافظة والبيروقراطية وتوقف تطور العلوم الاجتماعية خاصة.
استند القوميون واليساريون العرب إلى هذه المنتجات، ونهضتْ بهم إلى حين، لكنهم لم يكونوا كتلك الدول والشعوب فليس لديهم إنتاج مادي يسند عقلياتهم المتفتحة على العلوم، وبهذا فقد أخذتْ الأحزابُ القومية واليسارية العربية تتوقف عن التطور السياسي.
كان إدخال العامة مفيداً في انتشارها وسط الجمهور والجدل مع ظروفه ونضاله، لكن حين تدهورت القيادات فكرياً ولم تتطور فلسفياً وفكرياً، فإن الموروثات الدينية المحافظة التي يحملُها العامةُ أخذتْ تتغلغلُ بقوةٍ أكبر في هذه الأحزاب.
فالعمالُ يتحدثون عن الثورة لكنهم يقمعون نساءهم وبناتهم في البيت، كانت عقلياتُهم الدينية المحافظة أكبر من شعاراتِهم التقدمية، كانوا يعملون لزيادة أجورهم وتغيير ظروفهم الاقتصادية أما الاشتراكية فشعاراتُ حلمٍ اجتماعي. وحين تتصدع (الاشتراكية) قومياً وعالمياً تتبخر حتى تلك الشعارات. ويتم الرجوع إلى القبائل والأسر والمذاهب والقوميات.
ويقفز متعلمون لتوظيف تلك التحولات أو التراجعات لمصلحتهم، وفي الدول الاشتراكية والقومية والدينية كان الضباط هم المستفيدون الكبار فغيروا المسارات لما يلائمهم ويلائم جماعاتهم وطبقاتهم.
كان الارتباط مع الرأسماليات الحكومية الشرقية سواء أكانت ماركسية أم قومية أم بعثية ذا وجهين، وجه الثورة ثم وجه الثورة المضادة. ويغدو التراجع الأكبر في هذا كله نحو الدين، أي لهذا الوعي الغامض المتعدد التفاسير الذي يقومون باستغلاله لمصالحهم، وليس لتسليط الأضواء على أخطائهم، وليس من أجل التضحية العامة، بل يقومون بخداع الناس مرةً أخرى، ويدغدغون مشاعرهم الدينية التي لم تنطفئ، وسرعان ما تتبدل الأسماء والأزياء والشعارات وتظهر الصلوات.
الدينُ يظهرُ مرةً بشكل ثورة، إيقاظية محولة للتاريخ، ومرةً بشكلِ خداع وأفيون. مرةً يظهرُ بشكلِ بطولةٍ وتضحية كبرى، ثم يغدو أداةً للتضليل، يتوجه إليه اللصوصُ يطمسون سرقاتهم، وانهياراتهم الداخلية، ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يتحول الثوري المكافح إلى لص أو انتهازي؟

صحيفة اخبار الخليج
8 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

الجسد العربي المذبوح في عالم مضطرب

بدا لي العالم هذا اليوم أكثر قتامة وإحباطا وذعرا وأنا اخرج من بوابة السينما بعد مشاهدة فيلم 2012 ، حيث نقترب من حافة النهاية لكوكبنا، والرسالة الثقافية الفنية للفيلم كانت نبيلة وعظيمة حول مفهوم إمكانية تعاون العالم بكل اختلافاته ووجهات نظره في التكاتف من اجل إنقاذ كوكبنا، الذي لعبت به الصراعات والمصالح الضيقة للبلدان المهيمنة، وجاء الوقت لتنظيف البيئة المدمرة من اجل مستقبل الأطفال القادمين، فبدت الرسالة الإنسانية والحضارية للفيلم مهمة، وكان الدمار والكارثة فرصة معبرة عن شعور سكان العالم الممزق والمتصارع إلى العودة إلى دواخلهم الإنسانية والالتفات بكل جدية لما يجمعهم في هذا الكوكب، وبدلا من تمزيقه وتدميره، فان الحاجة الملحة باتت العودة إلى الغريزة الأولى للإنسان الأول الذي تصالح مع نفسه ومع بيئته ومحيطه، متجاوزا الأنانية الضيقة لدى شعوب وبلدان العالم وأنظمتها المتصارعة، في نظرتها لذاتها وبتعميق رؤيتها عن إن إنسان هذا الأرض، صار أكثر شمولية وكونية وترابطا من السابق، وحان الوقت للتعلم من الخوف والموت الذي يصنعه الإنسان لنفسه مع وهم البحث عن راحته، متناسيا ان السعادة والحضارة والإنسانية بيت واحد لا يمكن تقسيمه، وبان العلماء هم أكثر الناس سعيا لمعالجة أمراضنا وبيئتنا من الدمار والضياع، فيما يظل الساسة ورجال الأعمال هم أكثر الناس تلاعبا بقيم الكون وثروته الشاملة. الفيلم إلى جانب قيمته الفنية الرفيعة كسينما هوليودية دون منافس، فان للحوار والاضاءات والأفكار المتناثرة في سيناريو الفيلم، تركت بصمتها بوضوح، وهي لا تحتاج لعقل كبير لاستشفاف قيمتها وأهميتها. هل تصبح بعد ذلك النمط من الأفلام مشاعرنا وأفكارنا وقيمنا ملتبسة وحائرة، وتخضع لامتحان الأسئلة الكبرى؟ في وقت تحاصرنا فيه نحن العرب أزمات متشعبة، وأوضاع متردية، تبدأ من مؤشرات وأرقام الأمية والفقر والفساد، وانتهاء بأرقام الموتى والجرحى في حروب أهلية وداخلية وحدودية وكروية! مناخ عربي متوتر، فكلما أغلقنا بوابة من الأزمات وجدنا أنفسنا ندخل بوابات جديدة متعددة الأوجه والتناطح، فمن يقرأ الاخبار ويتصفح الجرائد لا يرى عنوانا مريحا، فهل يسعدنا مجرد «لقاء مصالحة بين جنبلاط وعون!!؟» في وقت نجد فيه إسرائيل، متطفلة على سياساتنا العربية! فتحذر لبنان من مشاركة حزب الله في الحكومة. وهناك خبير إسرائيلي يدعو لإثارة حرب أهلية بين الفلسطينيين! وكأنهم لا يرغبون حوارا وحلا للمشكلة معنا، بقدر ما هم بحاجة لصب الزيت على النار، حيث الحريق العربي المستمر تمزيق لجسد الخارطة العربية وتفتيتها في وضح النهار، لكي يتصدق علينا نتنياهو «بتجميد جزئي» للاستيطان لا يشمل القدس! فهل نحتاج إلى ذكاء خارق سياسيا لكي نفهم معادلة الصراع ومشروع ابتلاع القدس نهائيا، أو تطويقها في حضن بيت تل أبيب الكبير. محنة جسدنا العربي المجروح، تمتد إلى تلك البشاعة في الطائفية السياسية كما هي في لوحة لبنان المشوهة، والى ذلك النهج التسلطي في حكومة – لا تزال في طور الاعتراف الخارجي – حماس بمنع الناس من السفر بإصدار قرارات وقيود تعسفية، محنة الجسد العربي وروحه أرقام القتلى والجرحى في مدن العراق، وبلوغ تلك الاعتداءات على الأماكن الدينية، كالمراقد التاريخية والمساجد والأديرة والكنائس، وكأن الناس ملابس قديمة متهرئة حان الوقت لرميها في القمامة! في الوقت الذي تتلكأ فيه المسيرة الديمقراطية، وتتعثر مسارات التحول والتجربة الجديدة لمسألة الحريات، في اختلاق قوانين انتخابات قابلة للتفاوض والمزايدة ومن ثمة قابلة للتنازل والمساومة كلما دخلت السياسة بين دهاليز اللعبة وأكاذيب الشعارات، وخلسة الداخلين لمقعد البرلمان التجريبي في عالمنا العربي المثخن بالحسابات الطائفية والفئوية والعشائرية، مما يجعل الديمقراطية، ليست عصية وحسب بل ومشوهة ومريضة ومعرضة للانتكاسات الكثيرة. الجرح العربي يتعمق وتتفجر دماؤه في دار فور، دون أن يرى الإنسان السوداني أفقا مفتوحا في سماء الخرطوم ورجالات السياسة فيها، فهناك يتم التجاذب والنزاع حول مقاعد السلطة وجرجرة التجربة الديمقراطية لمختبر الامتحانات السياسية المريضة والأنانية، فمصلحة المجموعات باتت أهم من مصلحة الوطن، وسرقة الثروة والخيرات أهم من معاناة الشعوب والأقليات. كل هذه اللوحة نراها اليوم تتضخم بقلق على الحدود اليمنية – السعودية، وسقوط قتلى من ثلاثة أطراف، هي القوات السعودية واليمنية والجماعات الانفصالية (الحوثيين) غير أن المحصلة السياسية هي السقوط في مأزق الدم والمواجهات العنيفة، فتصبح المشاريع الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضية الحوار السياسي مجرد أجندة للإعلان السياسي ومكاتب العلاقات العامة في المدن العربية. بين جراح اليمن في حدودها الداخلية هناك جرح آخر يستنزف الجسد العربي، إذ يتأرجح رقم الموتى والجرحى صعودا ونزولا، ولكنه يظل حاضرا في نشرة الإخبار، حيث جنوب اليمن يدخل مجددا في صراع بين الجيش اليمني وجماعات «الحراك» مما يضع الوطن «الموحد» في حالة تساؤل عميق عن جدوى استمرار وحدة قسرية «تسلطية» لا يؤسس لها المجتمع ولا الدولة على أسس وطنية عادلة، بقدر ما ينحو منهج العنف السياسي إلى لغة التصادم بالسلاح وإراقة المزيد من دم الشعب الواحد تاريخيا، والمقسم واقعا إلى «شعبين» كان حتى الأمس القريب دولتين مختلفتين ومتجاورتين، عرفتا نزاعا طويلا، ثم دخلتا في عرس الوحدة الذي ظل دائما وأبدا زواجا قسريا، لم ينتج في نهاية المطاف إلا رغبة طلاق سياسي لا رجعة فيه إلا في حالة واحدة هو إعادة تفكيك بنية ومواد الدستور اليمني، وصياغته على أسس جديدة تصبح فيه الولايات اليمنية لا مركزية واتحادية، كما هي تجارب دول عدة شريطة أن تصبح المواطنة والحريات قيمة عليا في جسدنا العربي المتهرئ والعجوز .
 
صحيفة الايام
8 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

العيد الوطني 38 للإمارات وسط إنجازات وتحديات

في كل مرة تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة بعيدها الوطني تستعرض أمام العالم قدراتها الاقتصادية المتنامية المتأتية أساسا مما حظيت به من نعمة ثرواتها النفطية واستثمار عائداتها. وقد اقترن هذا التنامي دائما بانعكاسه تطورا نوعيا مضطردا في حياة المواطنين دخلا ومعيشة وسكنا وتعليما وثقافة وحماية للبيئة ورياضة ورعاية صحية وخدمات أخرى أخذت كلها بأحدث ما وصل إليه العالم من رقي.
هذا العام تحتفل الدولة بعيدها 38 وسط عالم تجري متغيراته بإيقاع متسارع ودرامي تحدثه تأثيرات الأزمة العالمية الشاملة التي أصبحت تطال بشكل موجع كل بلد وكل إنسان على وجه البسيطة. ومع ذلك، فكما في كل عيد تبين تقارير المؤسسات الاقتصادية الدولية أن لدى الإمارات الكثير مما تباهي به. بيَّن تقرير بعثة صندوق النقد الدولي عن تطور اقتصاد الإمارات 2008-09 أن مؤشرات الاقتصاد الكلي بدت إيجابية وتعكس التعافي الذي يمر به الاقتصاد وسط تأثيرات الأزمة العالمية. ويتوقع التقرير أن يسجل معدل النمو 3% العام ,2010 ليرتفع إلى 4.3% العام 2011 وصولا إلى 5% العام 2012 ‘مع أسبقية نمو قطاع النفط’. ومن تصريحات مسؤولين إماراتيين يتبين أن نتائج الربع الأخير من العام 2009 جاءت أفضل من التوقعات التي وضعت العام .2008 فقد عاد الاقتصاد إلى النمو، ويتوقع لمعدله أن يسجل 1.3% للعام .2009 وقد انخفض التضخم إلى 2.56% في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2009 بعد أن كان 3.4% في النصف الأول من العام. ويتجه الميزان التجاري لصالح الاقتصاد الوطني. وقد عاودت البلاد اجتذاب السيولة الخارجية، خصوصا من بلدان المنطقة بسبب ارتفاع الفوائد على الودائع والعوائد على بعض السندات، وكذلك ضمان الدولة للودائع لدى البنوك وتوفير تسهيلات الدعم. وقد وضع تقرير UNCTAD حول توقعات الاستثمارات العالمية 2009 – 2011 الإمارات بين أفضل 30 موقعا جاذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ومع هذه الإنجازات الكبيرة فإن احتفالية هذا العام في ظروف الأزمة العالمية يجب أن تشكل محطة للتمعن من أجل الاستفادة من الإمكانات الموضوعية المودعة في طبيعة الاقتصاد الإماراتي وسد الثغرات الناجمة عن نمط التنمية الحالي باستمرار ريادة قطاعات المال والعقار والاتصال بين قطاعات الاقتصاد غير النفطي، والتطور الداخلي المتفاوت وغير المتجانس ودرجة الانكشاف التي لا تزال كبيرة على الاقتصاد العالمي والتي مكَّنَت الأزمة من التأثير سلبا على تطور الاقتصاد.
وإذا كانت أسبقية نمو قطاعات المال والعقار والخدمات داخليا قد ساعدت على ظهور وانفجار الفقاعات سريعا إثر الأزمة العالمية، فإن روابط اقتصاد الإمارات المالية النقدية العالمية قد زادت من مفعول هذه الفقاعات. وغدت الأزمة تملي ضرورة إعادة النظر في هذه الروابط، وتحديدا بالارتباط بالدولار، سواء كوحدة حسابية لبيوع النفط أو كمثبت لسعر صرف العملة المحلية. والحال هذه، فمع الميل التاريخي المستمر لهبوط أشبه هذه الأيام بالسقوط الحر للدولار يستمر انحدار القيمة التبادلية للسلعة الأهم في صادراتنا والأكثر حيوية بالنسبة للاقتصاد العالمي. وإلى ذلك أيضا تهوي باستمرار القدرة الشرائية للدرهم أمام اليورو والجنيه الإسترليني والين واليوان الصيني. وحيث إن سعر الدرهم المرتبط بالدولار لا يعكس قوة الاقتصاد الإماراتي ويعيق سرعة تعافيه من الأزمة العالمية، حيث إن انخفاض الدرهم المقدر بنحو 10% على الأقل عن قيمته الحقيقية يجعل العائد على الاستثمار في الاقتصاد الإماراتي أقل، ما يضعف جاذبيته.
من دروس الأزمة العالمية التي تستحق التمعن فيها بهذه المناسبة المهمة وما نمر به هذه الأيام هو ‘عنصرية’ رأس المال المالي العالمي. صحيح أنه ‘بفضل’ انتفاخ قطاع المال العالمي قدم هذا القطاع تسهيلات تمويلية مغرية استفادت منها دبي في نشاط عقاري ربما الأسرع نموا في العالم، وأشادت بنية تحتية أدهشت العالم. لكن أزمة المال العالمية ذاتها أناخت بكل ثقلها على هذا القطاع، الأكثر ريادية في اقتصاد الإمارة. وذاته رأس المال المالي العالمي سلط ماكنته الإعلامية لتصوير طلب دبي إعادة جدولة ديون شركة دبي العالمية وكأنها بحجم انهيار قطاع المال الأميركي والعالمي. أزمة، نعم. لكن الغرض من التهويل الإعلامي هو معاجلة حكومة دبي قبل أن تنجز عمليات إعادة الهيكلة الإدارية والائتمانية والمالية وغيرها وإجبارها على أن تبيع بأبخس الأثمان الأصول التي تفوق قيمتها الفعلية أضعاف حجم الديون المطلوب إعادة جدولتها. أضف إلى ذلك أنه في إطار الاقتصاد الفيدرالي تستطيع دولة الإمارات لوحدها تدوير زوايا هذه الأزمة. كما أن بلدان الخليج معنية حياتيا بمساعدة دبي على سرعة تجاوز الأزمة. فعليها تذكُّر أن ما حدث لاقتصاد الأرجنتين كان بداية أزمة عمَّت أميركا اللاتينية، وتايلند كانت بداية الأزمة الآسيوية، أما أميركا فبداية الأزمة العالمية.
من وجهة نظرنا إن أشكال إعادة الهيكلة المرقمة بالأولى والثانية.. إلخ، هي اضطرارية تحت ضغط الحدث الراهن. غير أن الأزمة العالمية بكليتها تملي ضرورة إعادة هيكلة فعلية، واعية وشاملة لكامل الاقتصاد الوطني في إطاره الفيدرالي. وهذه تتطلب ضرورة تبديل أدوار مختلف القطاعات ومكانها في الاقتصاد الوطني، بحيث تصبح معدلات نمو القطاعات الصناعية والزراعية وغيرها من القطاعات الإنتاجية، وليس المالية والعقارية والخدمية، هي محددة معدل النمو الاقتصادي عموما. الأكثر من ذلك، آن الأوان للتفكير في إعادة قطاع المال لكي يأخذ مكانه الثانوي كعامل مساعد، وليس ريادي في النمو والتنمية الاقتصاديين. وبكلمة – التفكير في العودة للاقتصاد الطبيعي في مقابل الاقتصاد النقدي.
العيد الوطني ذكرى لحدث عظيم في تاريخ الإمارات، وهو أيضا مناسبة للتفكير في التاريخ القادم.
 
صحيفة الوقت
7 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

مسألة مسار

طُرح في الآونة الأخيرة بعضُ الأفكار التي تعيدُنا للعقد الأخير من القرن العشرين، وإلى تصوير لتلك الفترة بما ليس فيها، وإضفاء بطولات زائفة عليها، وليتم التأكيد بأن الوعيين (اليساري) الانتهازي – والديني المحافظ اليميني لم يتغيرا، ولم يستفيدا من كم الخبرات المتراكمة خلال العقدين الأخيرين.
هناك عجزٌ وطني شبه كامل عن تحليلِ تلك الفترة، وهذا العجز الواسع النطاق سواءً من قبل أجهزة الحكم، أم من قبل المعارضة المذهبية اليمينية واليسارية الانتهازية الملتحقة بها مثل الأطرش في الزفة، ناتجٌ عن الخوفِ من تحليل الأحداث وتحمل المسئولية فيها.
كلُ هذه الأطراف ترفضُ تحمل المسئولية عما نتج فيها من خراب ومن تعرض الناس للموت والخسائر الجسيمة. وكلٌ منها يدعي الصواب والانتصار، لكنهم جميعاً يخافون من ظهورِ أشباح تلك المرحلة وتحولها إلى حقائق وشهودٍ ومستندات وخسائر وقتلى!
ولكن رغم هذا الجبن السياسي فبعضها يتنطعُ كذلك بإدعاءِ البطولات والخوارق! ولا يملكُ شيئاً من الصدق للسكوت على ما قام به، أو إنه مخبولٌ لا يدري بما حدث!
ومثل هؤلاء يريدون قيادتنا لعصر الثورة العلمية وغزو الفضاء والديمقراطية!
المعارضةُ المذهبيةُ اليمينية متخبطةٌ لا تعرفُ كيف ظهرتْ؟ وكيف تشكلت؟ ولماذا كانت صدى لأحداث إيران؟ ولماذا هي تتصدعُ لما يجري من تصدعٍ في إيران، ولا تدري ما هو مستقبلها حين تزولُ دولةُ ولاية الفقيه؟ ما هو تأثير الفسيفساء السياسية الناتجة بعد انهيار ولاية الفقيه على البلدان المختلفة؟ وعلى الحركات السياسية؟ وكم من الفوضى سوف تحدِثُ؟ وكم من الانتهازيين سوف يُنتجُ هذا الانهيار؟ هل سيكون هؤلاء الأصدقاء مستمرين؟ ألن ينقلبوا كما أنقلب آخرون؟
حين يحدث الانهيار الإيراني المغير للشمولية الراهنة لن تكون لكم قيمة، مثلما أن الانهيار السوفيتي جعل بعض المناضلين تجار كلمات!
وكم أنتج الانهيارُ السوفيتي من انتهازيين في الحركات السياسية المناضلة؟ وقبله الانهيار العراقي البعثي وقبله الناصري، خذوا الدروس من السابقين!
هناك أناسٌ لا دين لهم ولا مبدأ غير مصالحهم الشخصية، وكما تألمنا نحن من بيع أصدقائنا للمبادئ، فسوف تتألمون أنتم كثيراً في المرحلة القادمة، ومن قام بجريمةٍ وضرر للناس فليعترف ويتبرأ مما فعله ينقذُ نفسَه وهنا تغدو الكلمات ثمينة، فلابد من أن نحاكم نحن أنفسنا، قبل أن نُحاكم من قبل الآخرين، إذا كانت لنا ذرة ضمير!
انظرو إلى المستقبل قليلاً، وضعوا تلك البطولات بين قوسين، هما قوسا البحث الموضوعي والأمانة التاريخية والإسلامية. لا تصيروا ملحدين على الطريقة الستالينية، بل اعتبروا القيامة واليوم الآخر ضميراً حياً في الحياة الدنيا قبل ذلك!
هل الموقف هو فقط مصلحة وفائدة؟
مركزيات الفوضى والمراهقة تتلاقى، وقد طالَ الأمدُ بها من دون أن تتعلم شيئاً، و(العقل) فيها عاطلٌ عن العمل، لأنها لا تقوم على حكمِ الشعب الواحد، وصوته وقانونه، بل على انفعالات الطوائف، وانفعالات الطوائف مهما كانت حدتها ومبرراتها فهي خارج القانون، والدين، والضمير! وسواء أكان ذلك لدى سنة أم شيعة أم زيدية، فالقضية واحدة!
وحتى حين كان الشعبُ موحداً وكان الفوضويون يخرجون عن نضالهِ كان الناس تعترف بالخطأ وترفض الجريمة مثلما ترفض جرائم القمع سواءً بسواء!
سوف يتكاثر الانتهازيون في المرحلة القادمة حتى يصير الواحد منهم مثل سمك الشعري الربعة بثمان على حسب الأسعار القديمة، وقد رأيتم ثمن المرحلة ولم تظهر بكلِ بعدها، لأنكم تصمتون عن تحليل التاريخ، وعن النقد، وعن المحاسبة الضرورية للنفس، قبل الخصم، ولهذا سوف تضيعُ المقاييسُ، ويزولُ ميزانُ الحقِ من الباطل، ويظهرُ الخوارجُ مع أصحابِ الإيمان، وتُزيفُ الأوراقُ وتُدلسُ القضايا، ويَضيعُ الفقهُ في حشو السياسة ومع سدنةِ الانتهازية وبيع الذمم، ولهذا يتنطع الآن الذين باعوا أنفسهم وقبضوا أثمان تلاعبهم بالناس والحرمات مدعين الفضيلة والنضال!
فلا تضيعوا الحقيقة كما ضيعتم السياسة!
 
صحيفة اخبار الخليج
7 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

على صلة بيوم المرأة البحرينية (4-4)

حين التصدي لموضوع المرأة والعمل السياسي في البحرين، علينا ملاحظة التطورات الايجابية التي تحققت خلال الأعوام السابقة، مما يفتح آفاقا أرحب لتمكين المرأة وإشراكها في أوجه الحياة العامة، ومن ضمنها بطبيعة الحال المجال السياسي. فقد وفر مناخ الانفراج السياسي الذي تحقق في البلاد بعد المشروع الإصلاحي فضاءات أوسع لمشاركة المرأة في العمل السياسي وجدنا تجلياتها في عدد من الأنشطة وفي تأسيس جمعيات نسائية جديدة، وفي نجاح الجهود الكبيرة التي بذلت من أجل تأسيس الاتحاد النسائي العام الذي يؤطر نشاط الهيئات والجمعيات النسائية المختلفة في البلاد، وبالطبع في تأسيس المجلس الأعلى للمرأة برئاسة قرينة جلالة الملك الأميرة سبيكة بنت ابراهيم، كما ان من تجليات ذلك التغيير هو انه بات واقعاً وجود المرأة في قوام مجلس الوزراء، وهو مكسب يتعين الحفاظ عليه وتوطيده. والاحتفاء بيوم للمرآة البحرينية كل عام وما يقترن به من أنشطة تكريمية للرائدات من النساء في المجالات المهنية والعامة هو أمر حميد، ليس فقط من زاوية ما يحمله الأمر من تكريم للمرأة في بلادنا هي جديرة به ومستحقة له، وإنما أيضاً بهدف تسليط الأضواء على أن هناك قضايا تخص المرأة وضرورات النهوض بها ما زالت بحاجة إلى متابعة وحل، وهناك أجندة واسعة تتحرك عليها الجمعيات النسائية والاتحاد النسائي البحريني وفي مقدمتها موضوع قانون أحوال الأسرة، الذي ستظل المطالبة بأن يكون واحداً غير مجزأ من قضية ماثلة لا يصح التراجع عنها أو التهاون ازاءها رغم كل الصعوبات والتعقيدات. وهناك أيضا قضية الكوتا الانتخابية التي يطالب بها اللوبي النسائي، كتدبير مؤقت يمكن النساء من الوصول إلى المجالس المنتخبة، خاصة مجلس النواب، فمع استمرار العمل بالنظام الانتخابي الحالي ستظل مسألة وصول المرأة إلى هذه المجالس متعذرة إن لم تسند بتدابير ضرورية، لعل الكوتا إحداها. وهناك ملفات أخرى ذات صلة، بينها منح الجنسية البحرينية لأبناء البحرينيات المتزوجات من غير بحرينيين، فضلاً عن قضايا ذات طابع مهني ومعيشي تتصل بمساواة المرأة في الراتب مع الرجل في العمل نفسه، وما إلى ذلك من قضايا تتبناها النقابات العمالية والاتحاد العام للنقابات. غني عن القول إن إشاعة مناخ ديمقراطي في العمل النسائي، كما في أي عمل آخر ذي طابع جماهيري، ضرورة كي يؤتي هذا العمل أُكله المنتظرة، والمقصود بذلك هو الإقرار بتعددية الآراء والتصورات، وإيجاد الأطر التنظيمية التي تتسم بمرونة تستوعب هذه التعددية. هذا أولاً، وثانياً من الضروري صياغة برنامج يركز على المطالب الحيوية للمرأة البحرينية وحقوقها في التعليم والعمل وسن التشريعات الضرورية التي تضمن هذه الحقوق، بما في ذلك تلك الجوانب المتصلة بحقوق الأمومة والطفولة، وتمكين المرأة البحرينية من تبوؤ المناصب العليا في الدولة، تقديراً لوعيها وللتقاليد الراسخة التي أرستها، وتعبيراً عن تفتح المجتمع البحريني ونضجه. ومن المهم أيضاً توسيع نطاق النشاط التضامني للمرأة البحرينية مع شقيقاتها في البلدان العربية الأخرى، وخاصة نساء فلسطين اللواتي يجابهن آلة الحرب الإسرائيلية، وكذلك نساء وأطفال العراق ضحايا الوضع المعقد هناك الناجم عن استمرار الاحتلال وهيمنة الميليشيات المذهبية واتساع أعمال الإرهاب والعنف.
 
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

حقيقة الانتعاش‮ ‬ بين المتفائلين والمتشائمين

على رغم المخاوف والمحاذير التي‮ ‬لازالت تغلف قراءات وتوقعات بيوت الخبرة الاستشارية وتقارير وإعلانات المنظمات الاقتصادية الدولية،‮ ‬بشأن تجاوز الاقتصاد العالمي‮ ‬لذروة أزمته وعودته للانتعاش ثانية،‮ ‬إلا أن عدداً‮ ‬من علامات ومؤشرات الأداء التي‮ ‬بدأت ترسلها وحداته المختلفة تفيد بأن الأسوأ قد أصبح وراءه وأنه في‮ ‬طريقه لتحقيق أول عودة حقيقية لجادة النمو بعد بضعة شهور،‮ ‬أي‮ ‬بتجاوز وحداته المفصلية‮: ‬الاقتصاد الأمريكي‮ ‬والاقتصاد الأوروبي‮ ‬لسلبية النمو التي‮ ‬دخل دوامتها خصوصاً‮ ‬في‮ ‬الربع الرابع من العام‮ ‬2008‮ ‬والربع الأول من العام‮ ‬‭.‬2009 فلسوف‮ ‬يتحسن أداء النمو السالب للاقتصاد العالمي‮ ‬من‮ ‬6‭,‬2‮-‬٪‮ ‬إلى‮ ‬3‭,‬2‮-‬٪‮ ‬هذا العام ونمو الاقتصاد الأمريكي‮ ‬من‮ ‬3‭,‬3‮-‬٪‮ ‬إلى‮ ‬7‭,‬2‮-‬٪‮ ‬مقارنة بعام‮ ‬‭.‬2008‮ ‬بل إن الاقتصاد الأمريكي‮ ‬سيتحول في‮ ‬العام‮ ‬2010‮ ‬إلى النمو الإيجابي‮ ‬بواقع‮ ‬9‭,‬1٪،‮ ‬بينما ستحقق أوروبا نمواً‮ ‬وإن كان ضئيلاً‮ ‬لا‮ ‬يتجاوز‮ ‬3‭,‬0٪‮ ‬إلا أنه‮ ‬يعد تطوراً‮ ‬مهماً‮ ‬قياساً‮ ‬بالعام الجاري‮ ‬الذي‮ ‬سيسجل نمواً‮ ‬سالباً‮ ‬قدره‮ ‬4‭,‬4‮-‬٪‮.‬ الاقتصاديون المتفائلون‮ ‬يعتبرون هذه الأنباء مؤشرات جيدة على تجاوز الأزمة،‮ ‬بينما‮ ‬يرى الاقتصاديون ذوو النظرة المتشائمة أنها مجرد زفرة‮ ‬غير مستديمة لكبوة أخرى قادمة في‮ ‬الطريق في‮ ‬أحسن الأحوال ولكساد مدمر في‮ ‬أسوأه‮.‬ ومع أن كل فريق لديه ما‮ ‬يبرر به موقفه،‮ ‬إلا أن الواقع أن من الصعوبة بمكان عودة الأمور إلى نصابها سريعاً،‮ ‬ذلك أن الصورة المبشرة التي‮ ‬أرسلتها بعض علامات التحسين في‮ ‬البيئة الاقتصادية لازالت‮ ‬غير واضحة بما‮ ‬يكفي،‮ ‬اعتباراً‮ ‬بأن الركود الحاد الذي‮ ‬هز النظام المالي‮ ‬والاقتصادي‮ ‬العالمي‮ ‬في‮ ‬الصميم لازالت آثاره باقية وستبقى كذلك إلى أمد ليس بالقصير،‮ ‬متجسدة،‮ ‬على سبيل المثال،‮ ‬في‮ ‬معدلات نمو بطيئة ومنخفضة ووجود طاقات فائضة في‮ ‬مختلف قطاعات الاقتصاد الحقيقي،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن صعوبات التمويل طويل الأجل‮.‬ وقد‮ ‬يكون اللجوء لرفع الضرائب كخيار لا‮ ‬غنى عنه لتخفيف الضغط الواقع على المالية العامة،‮ ‬وهو ما لا‮ ‬يخدم النمو طويل الأمد ويرجح فرضية المتحفظين على التفاؤل الشائع بشأن التحسن الملحوظ في‮ ‬أداء وحدات الاقتصاد العالمي‮.‬ البنك الدولي‮ ‬هو الآخر لم‮ ‬يجرؤ أن‮ ‬يسرع للتهليل لمظاهر الانتعاش التي‮ ‬بدأت تظهر على الاقتصادات العالمية منذ الربع الأول من العام الجاري‮. ‬فلقد اعتبر رئيس البنك روبرت زوليك أن عدم الاستقرار سيستمر في‮ ‬العام‮ ‬2010‮ ‬خصوصاً‮ ‬بالنسبة للصادرات والعائدات السياحية في‮ ‬الدول النامية‮.‬ وبدوره أوضح دومينيك شتراوس رئيس صندوق النقد الدولي‮ ‬أن الأزمة المالية العالمية تأخذ انعطافة على ما‮ ‬يبدو‮ (‬لاحظ عبارة على ما‮ ‬يبدو‮)‬،‮ ‬غير أنه مازالت هناك مخاوف من ارتفاع البطالة والمشاكل الناتجة عنها‮.‬ جاء ذلك على هامش الاجتماعات السنوية للبنك الدولي‮ ‬وصندوق النقد الدولي‮ ‬التي‮ ‬عقدت في‮ ‬إسطنبول الجمعة‮ ‬2‮ ‬أكتوبر‮ ‬‭.‬2009 ملاحظة هامة جداً‮ ‬تقتضي‮ ‬التأمل والتبصر فيها من جانب المعنيين بأمر رصد ومتابعة الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة،‮ ‬وهي‮ ‬تلك المتمثلة في‮ ‬عدم ارتباط انفراج حالة الاقتصاد العالمي‮ ‬بما ستؤول إليه أوضاع الاقتصاد الأمريكي‮ ‬كما كان الحال دائماً‮ ‬وأبداً‮ ‬منذ تربع الاقتصاد الأمريكي‮ ‬على عرش الاقتصاد العالمي‮ ‬بعد الحرب العالمية الثانية،‮ ‬وإنما تحول المقود نحو آسيا حيث‮ ‬يتوقع أن تحقق الصين هذا العام نمواً‮ ‬يصل إلى‮ ‬6٪،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن بقية الاقتصادات الآسيوية الصاعدة المرتبطة بصورة وثيقة بالتجارة الدولية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وتايلند وماليزيا وإندونيسيا التي‮ ‬ضخت،‮ ‬كما الصين،‮ ‬جرعات مالية تحفيزية‮ ‘‬لفك الارتباط‮’ ‬بالأزمة وخفضت أسعار الفائدة بصورة كبيرة‮ (‬ضخت الصين في‮ ‬شهر نوفمبر العام الماضي‮ ‬4‮ ‬تريليون‮ ‬يوان أي‮ ‬ما‮ ‬يوازي‮ ‬586‮ ‬مليار دولار،‮ ‬وخفضت الفائدة بواقع‮ ‬216‮ ‬نقطة إلى‮ ‬31‭,‬5٪‮).‬ بعض أوساط المشيخة الفكرية الاقتصادية في‮ ‬الغرب التي‮ ‬يبدو أنها متأثرة بالتفوق والتشامخ‮ ‬‭(‬Superiority‭)‬‮ ‬الغربي،‮ ‬لم تخف تحفظها‮ (‬أو ربما حسدها من تبدل معادلة القاطرة الرئيسية الدافعة للاقتصاد العالمي‮) .. ‬تحفظها على هذا الأداء الباهر للاقتصادات الآسيوية الرائدة وتجاوزها في‮ ‬ظرف زمني‮ ‬قياسي‮ ‬للأزمة المالية/الاقتصادية العالمية،‮ ‬وذلك باعتبارها أن مصدر هذا النمو هو‮ ‬غير مستدام وهو هنا حِزَم المحفزات المالية التي‮ ‬يمكن أن تخلق نمواً‮ ‬مؤقتاً‮.‬ السؤال‮: ‬وما الضير في‮ ‬ذلك،‮ ‬حتى لو كان مفعول هذا الحقن التنموي‮ ‬مؤقتاً،‮ ‬فإنه على الأقل‮ ‬يوفر مساحة كافية تُمكِّن الاقتصادات الآسيوية من التكيف مع طوارئ الأزمة ريثما تستعيد بقية وحدات الاقتصاد العالمي‮ ‬وتحديداً‮ ‬الاقتصاد الأمريكي‮ ‬والاقتصاد الأوروبي‮ ‬زمام مبادرة نموها وتعيد لقطاعات التصدير الآسيوية وظيفتها الهامة المتمثلة في‮ ‬تمويل حوالي‮ ‬نصف نموها‮.‬ ثم إن الصين والهند وبعض البلدان ذات الاقتصادات الصاعدة في‮ ‬آسيا قد سلكت طريق تعظيم دور الاستهلاك المحلي‮ ‬في‮ ‬تخليق إجمالي‮ ‬الناتج المحلي‮ ‬على‮ ‬غرار نماذج آسيوية معروفة في‮ ‬هذا المجال مثل إندونيسيا والفلبين وفيتنام وباكستان وسري‮ ‬لانكا وبنغلاديش التي‮ ‬تصل نسبة مساهمة الاستهلاك المحلي‮ ‬في‮ ‬إجمالي‮ ‬ناتجها المحلي‮ ‬إلى 65%‮.‬
 
صحيفة الوطن
6 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

تباينات الأفكارِ الدينية

إن الأفكار الدينية مثل غيرها من الأفكار السياسية تعكسُ تناقضات مستويات المعيشة لدى المؤمنين بها. حين تكون ثمة ثورةٌ ويتفقُ عليها الناسُ، أو ينخرطون فيها نتيجة لانتصارِها وسيادتِها، وتؤسسُ قيماً عامةً، تفيدُهم في معاشِهم وترفعُ من شأنِهم زمنا معينا، فإنهم يتمسكون بهذه القيم العامة إلى حين، ثم يختلفون على تفسيرها حين تفترقُ سبلُ عيشهم، وتتعددُ أنصبتُهم من مكاسب الثورة، تصبح هناك قيم قديمة وقيم جديدة، وهناك من يتمسك بحرفية النصوص ومن يؤولها، وهناك من يُخونُ ويكفرُ ومن يتسامح، والمرجعيةُ هي النصوصُ الدينية التي لا يمكن الاتفاق عليها، فكلُ فرقةٍ لديها تفسيرٌ مختلفٌ عن الفرقة الأخرى، والمرجعيةُ أوضاعٌ اجتماعية لا تستقر على حالٍ وتناقضاتُها عميقةٌ لا يمكنُ التوفيق بينها كليا إلا بالخروج من النصوصية الدينية.
يحدثنا التاريخ في الزمن الأموي عن الخوارج الذين رأوا انهم حفظة النصوص الإسلامية المخلصون.
استولى أبوحمزة الخارجي على حكم المدينة المنورة في زمن مروان بن الحكم مدة ثلاثة اشهر، فعبر عن رؤيته للدين من خلال وضعه الاجتماعي فقال:
“تعلمون يا أهل المدينة، انا لم نخرجْ من بلادنا بطراً ولا أشراً، ولا لدولةٍ نريدُ أن نخوضَ فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا رأينا مصابيحَ الحق طـُمست، وضعف القائل بالحق، وقـُتل القائمُ بالقسط، فلما رأينا ذلك ضاقتْ علينا الأرضُ بما رَحُبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله “وَمَن لا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْض” (الأحقاف: 32)، أقبلنا من قبائل شتى، النفرُ منا على بعيرٍ واحدٍ عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافاً واحداً، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمةِ الله إخواناً، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعةِ الرحمن وحكمِ القرآن، ودعونا إلى طاعةِ الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم أقبلوا نحونا يهرعون قد ضربَ الشيطانُ فيهم بجرانهِ، وغلتْ بدمائِهم مراجلُه، وصدقَ عليهم ظنهُ فاتبعوه، وأقبل أنصارُ الله عصائب وكتائب، بكلِ مهندٍ ذي رونق، فدارتْ رحانا واستدارت رحاهم، بضربٍ يرتاب منه المبطلون”.
تصويرُ أبي حمزة تصويرٌ قصصي أدبي شائق ومعبر يستمدُ معينه من لغةِ نجد، وقد أفلحَ في عرضِ صحبهِ الفقراء الذين كان النفرُ منهم يركبون على بعير واحد، وتتلحفُ الجماعةُ بلحاف واحد، مما يصور ضنك العيش، في حين جاءوا إلى بشر في المدينة منعمين، يعيشون في بيوت فارهة، وقد انتشر الخدم والعبيد بينهم، ومالوا للرفاه والغناء، فكان ذلك يعبرُ عن تباين معيشي كبير بين مدن الإسلام وباديته.
لكن أبا حمزة نظر إلى ذلك بعين دينية متشددة، تعتبرُ تباينَ المعيشةِ كفراً، نظراً لأن بني أمية سرقوا أملاكَ المسلمين العامة ووظفوها لأنانيتهم، وكان ذلك في الثقافة الدينية الموحدة، خروجا عن الدين. لكنه لم يقتل بني أمية فقد كانوا بعيدين، لكنه قتل أي شخص من قريش، فهم قبيلة الكفر، وسامح من ليس من قبيلة قريش، فهي عداواتٌ قبلية أخذت شكلا دينيا.
إن أباحمزة يتأولُ القرآنَ بما تريد مصلحته وسيطرته، فيقطعُ آيةً من سورة، ويجعلها لخدمةِ فكره السياسي، يدل بها على كفرِ خصومهِ وخروجهم عن الدين، فهو يجعل داعي الله مطلقاً وقد كان مخصوصاً بالفترة النبوية، ويعممها عليه ويوجهها لنفسه ويجعلُ من شخصهِ نبيا، “ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض”، لقد فهمَ الآيةَ مقطوعةَ السياق التاريخي، وجعلها ذاتيةً موجهةً لكيانه المتضخم، كأن اللهَ يخاطبهُ مباشرة، فاندفعَ يقتلُ المسلمين.
لقد ذبح مسلمي المدينة المنورة بالمئات وهو يرى خروجهم عن الدين، وقد جعلَ من فقرهِ إيماناً ومن غنى خصومه كفراً، بل من استمتاعهم بالحياة ومن انتشائهم بالغناء ومن لبسهم ومن شكرهم لبني أمية حين يلغون عنهم الضرائب ومن غير ذلك، مظاهر للكفر وعصيان الخالق.
فقراء المدينة وهم الأغلبية رحبوا بأبي حمزة الخارجي لما رأوا من رغبته في العدالة ومن إلغاء جور بني أمية، لكنهم اكتووا بعد ذلك بسياسته وتدخله في حياتهم وأحكامه الباترة، فثاروا عليه وطردوه وجيشه.

صحيفة اخبار الخليج
6 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد