­

المنشور

الذكري العاشرة وآفاق المشروع الإصلاحي


سنوات عشر مضت على تولي جلالة الملك مقاليد الحكم في البلاد .. لقد تميزت .. هذه السنوات بالمنجزات الإصلاحية التي دفعت البحرين إلى الأمام، إذ حققت تقدماً سياسياً واقتصادياً ملحوظاً أكثر توازناً من ذي قبل، أي حققت قفزات نوعية لم تكن موجودة قبل المشروع الإصلاحي الذي تزعمه عاهل البلاد. وبالتالي، الحفاظ على هذه المنجزات والعمل على تراكمها وسد الثغرات مسؤولية يتحملها الجميع؛ لان الوطن للجميع لا للتكتلات العشائرية والقبيلة والطائفية التي يحاول أعداء الوحدة الوطنية تكريسها بإثارة النعرات الطائفية، والاقتسام الطائفي بين أبناء البحرين، الذين عاهدوا الوطن بالولاء له وبالدفاع عنه.

وعندما نتكلم عن الوحدة الوطنية نتكلم عن الشراكة المجتمعية والوئام، الذي أكد عليه جلالة الملك في حديثه عن البرنامج الوطني في هذه المرحلة بقوله : إننا حريصون كل الحرص على تعزيز وترسيخ حالة الوئام السائدة في مجتمعنا بين مختلف المنابت والأصول، ان مجتمع الوئام هو مجتمع الوحدة الوطنية قبل كل شيء، ولن نستطيع المضي في طريقنا وتحقيق أهداف المواطنين المرجوة في الرخاء والازدهار إلا من خلال الاستقرار الذي يجلبه الوئام الاجتماعي .. وفي هذا الصدد نقول، إن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي أهم الركائز الأساسية لتعميق الوئام الاجتماعي وتجذره في المجتمع، وبالتالي حماية وصيانة المكتسبات والانتماء للوطن ضرورة وطنية وواجب وطني نحو تقدم البحرين التي لا خيار أمامها سوى الاستقرار والتقدم، وهذا يتطلب دفع العملية الإصلاحية الى الأمام في ظل حقوق الموطنة المتكافئة، وإرساء دعائم الثقة، ونبذ ثقافة العنف، وتحسين مستويات المعيشة، وحماية حقوق الإنسان وصيانتها من المخاطر، وكذلك يتطلب كما أشار إليه جلالة الملك التجديد والتطوير؛ لان العملية السياسية كما عبّر عنها “سائرة في طريقها ومتطورة بطبيعة الحال طبقاً للدستور ولأداء المؤسسات المسؤولة، وهي لا تقف ولا نريد لها ان تجمد في موضعها على موقعها المتقدم الذي وصلت اليه، فمن سنة الحياة التجديد والتطوير ولكن المحك ان تتحقق الانجازات المرجوة طبقاً لطبيعة كل مرحلة”.
 ودلالة هذا القول ان التجديد والتطوير من المبادئ الأساسية التي تعتمد عليها العملية السياسية، ومن هنا من الأهمية بمكان التأكيد على تكريس الشفافية على جميع المستويات، وتفعيل دور الرقابة مالية كانت أم إدارية، ولا يمكن ان تعزز العملية السياسية والمشروع الإصلاحي عامة إلا بالتطوير والتجديد والتحديث وممارسة العملية النقدية والوقوف عند مظاهر الخلل والنقص والأخطاء ونشر الثقافة الوطنية والوعي الحقوقي والديمقراطي وثقافة القانون القائمة على احترام سيادة القانون الذي اكد عليه جلالته بان الالتزام به وبمقتضياته من ابرز سمات المجتمع المتحضر. ولا يمكن تطوير الأداء على صعيد الهيئات والمؤسسات التنفيذية الا بتطوير أجهزة الرقابة وتفعيل دورها، وهذا ما تضمنه خطاب جلالته ولا سيما عندما تحدث عن تفعيل الرقابة الإدارية أسوة بالرقابة المالية؛ لان كلما كانت هذه الرقابة فعّالة كلما اقتربنا من تحقيق أهدافنا واستراتيجياتنا بإنتاجية عالية وفعالية وكفاية، وهذا هو جوهر الإصلاح الإداري الذي يدفع باتجاه تحسين طرق وأساليب العمل وتبسيط الإجراءات والقضاء على الروتين، واعتماد مبدأ الكفاءة، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

ولا ريب ان الالتزام بتفعيل الرقابة الإدارية وكذلك المالية يعد بوابة للإصلاح فضلاً عن تطوير وتحديث القوانين والارتقاء بالأداء البرلماني والعملية السياسية على وجه الخصوص.

على العموم .. يخطئ من يعتقد ان البحرين لم تشهد منجزات سياسية حديثة وتحولات على مسار الانفتاح السياسي والحريات وحقوق الإنسان، الا ان هذه المنجزات وهذه التحولات لا يمكن ان تتطور الا بالمزيد منها والرقي بها نحو إصلاحات سياسية أكثر عمقاً؛ لان الإصلاحات والمؤسسات السياسية كما يقول جلالة الملك : لا تُطلب على أهميتها البالغة في المسيرة الديمقراطية لذاتها وإنما لتحقيق غايات أبعد منها.


 
الأيام 26 ديسمبر 2009
 

اقرأ المزيد

إنطباعات ووفاء إلى الرمز الوطني أحمد الذوادي..


 لقد تأملت كتاباتك عن المناضل الإنسان احمد الذوادي الذي صار في ذمة التاريخ ، ولم أجد تفسيرا ولا ادري إن كانت مواضيعك هذه استقراء أو استدلال، واعني هل استدلال على النيات التي لا يمكن معرفتها أو هي عملية تحليل ذهنية تتعلق بمجموعة أحداث وردود الأفعال أم هي إسقاطات لحالة أخرى معاشة غير احمد الذوادي ، وذلك من وقع العموميات التي طرحتها في السياق العام لحديثك عن المناضل احمد الذوادي ، 
  



 

من فيصل عبدالجليل جعفر المرباطي

 

إلى الأستاذ / عبدالله خليفة                المحترم

 

 


  
  
  
 لقد تأملت كتاباتك عن المناضل الإنسان احمد الذوادي الذي صار في ذمة التاريخ ، ولم أجد تفسيرا ولا ادري إن كانت مواضيعك هذه استقراء أو استدلال، واعني هل استدلال على النيات التي لا يمكن معرفتها أو هي عملية تحليل ذهنية تتعلق بمجموعة أحداث وردود الأفعال أم هي إسقاطات لحالة أخرى معاشة غير احمد الذوادي ، وذلك من وقع العموميات التي طرحتها في السياق العام لحديثك عن المناضل احمد الذوادي ، خارج منظومة التفاعل المتبادل بينك وبين الذوادي من واقع أن أفعال ومواقف الذوادي كانت حافزا لردود أفعالك السلبية هذه نحوه ، على غرار الأحاديث الاستكشافية المبنية على فرضيات قد تكون خاطئة وملفقة لأسباب غياب أصحابها عن هذه الحياة ، وهنا تكون عملية التجني و المديح نسبية في هذه الظروف ، ولكن البديهة في الأحكام المعيارية تتطلب تقرير المصلحة الوطنية في إطارها السياسي وبعدها التاريخي ، من واقع أن القياد السياسية في مرحلتها الوطنية ليس بالضرورة أن تكون من الفئة ألأكاديمية ذات المؤهلات العلمية العالية لتمتلك أدوات التحليل حسب تقيمك للذوادي الذي نزعت عنه صفة القيادة ، وأدخلته في خانة البلادة إن لم اقل الجهالة حسب تعبيرك هذا :     ((محدود الثقافة -  يركزُ في الشعارات العامة -  لا يغوص في جوانب الحياة ويستكشفُ أبعادَها – ولم تؤدِ فترة السجن بين 1974 و1979 إلى غنى فكري لديه – كان قليل القراءة – وليست لديه عقلية تحليلية واسعة – سيطرت على وعي أحمد عقلية تشاؤم سوداوية – تحول أغلب المناضلين لديه إلى مشبوهين )) هذا هو احمد الذوادي باختصار حسب تقييمك ، لذا  حزنت شديد الحزن ، وتألمت شديد الألم حتى بكيت على شخص كنت أجده رمزاً وطنياً ، وكنت من الناس الذين يحبون احمد الذوادي لتلك البساطة والطيبة والابتسامة والصدق لدرجة الطهرانية المقدسة التي لا تفارق مخيلتي ، هكذا كنت أنظر لهؤلاء المناضلين الشرفاء من أمثال احمد الذوادي وعبدا لرحمن ألنعيمي واجدهم  قيادات وطنية نزيهة وهي من أهم صفات القيادة السياسية حتى بالمفهوم الغربي : ( Leadership – قيادة ) كذلك (command ) فهذه الكلمات نجدها تحاكي اللغة العربية في مفهومها وأبعادها الأخلاقية والمعنوية ، فالقيادة تعني وفق هذه المصطلحات : (( مجموعة المواصفات الشخصية المحترمة من قبل الآخرين التي تجعل فردا ما قادر على تسيير مجموعة أنماط سلوكية لجماعة ما ، ومن مميزاتها حسب التصنيف الغربي تتضمن إخلاصا ظاهرا للقيم العليا وإخلاصا للحزب والأصدقاء وقدرة على عدم التحيز في الخلافات الداخلية .. )) هذه صفات احمد الذوادي فلم يكن نرجسياً ولم يبني إطاراً من الوهم حول نفسه بأنه المثقف أو نابغة زمانه كان بسيطاً مع الناس ولم يكن معزولا ، كان متحدثاً بلغة الناس البسطاء من العمال ومحبوباً لديهم ، هذا هو الذوادي كما عرفته ورأيته في مرات قليلة عند زياراتي لأخي محمد المرباطي في دمشق ، وأول مرة رأيته في بيت أخي في إحدى قرى السيدة زينب حينها لم أكن اعرفه ، اخذ يحدثني ويسأل عن صحتي  ، قال أنا ابوقيس ( احمد الذوادي ) والأخ : قلت أنا فيصل اخو محمد ، سلم علي بحرارة : قال كأنك للتو قادم من البحرين ، وكان طوال فترة وجوده يبتسم ثم خرج مع أخي ، بعدها تكررت زياراتنا له في بيته بمنطقة صحنايا بإحدى ضواحي دمشق ، وفي احد المرات وجدت باب بيته مفتوحاً دخلنا ولم يكن أحدا في البيت ، كنت ألاحظ تصرف أخي وزوجته التي دخلت المطبخ واخذت تحضر الشاي والأكل ، وتعجبت حينها بداخلي كيف هذه الثقة  ، وبعد حين قدم ابوقيس وكان برفقته شخص عراقي اسمه ( أبو أيوب ) وامرأة كبيرة في السن تدعى على ما أتذكر ( سمية ) كان يناديها بالرفيقة أم حنان ، بادرنا بالســـؤال قــائلاً بلهجة بحرينية : (( ها أم انس سويتي غده وين الجاي )) وجدته منهكاًً متعباًً كان يلهث ويتنفس بصعوبة ومصفر الوجــه خلالهــا قــال لأخـي :  (( أبوانس ترى خلصت الموضوع إذا تا خذه للشباب .. الحين رايح دقيقتين أراجعه وأعطيك إياه )) لم اسأل ولم أتدخل في شأنهم ، المهم كان يبتسم ويقـول : (( اشلونك إن شاء الله مرتاح – إذا تعبان تمدد )) وبعد الغداء ودعناه والجماعة التي كانت معه وغادرنا نحو دمشق العاصمة ، ولطول المسافة أخذني الحديث مع أخي عن هذا الشخص الذي لم أصادف مثله : قلت لأخي من هو هذا الرجل ، قال ابوقيس ( احمد الذوادي ) قلت يا أخي كان متعباً :  ليش ؟! قال لأنه اخذ جرعة كيماوي : قلت شنهو كيماوي ؟! قال بحسرة وألم :  (( مع الأسف الأخ احمد مصاب بسرطان )) حينها حزنت وبقدر حزني أعجبت بهذا الشخص الذي يصارع الموت بإرادة الرجال الأبطال ، وبعد رجوع أخي للبحرين  أول شئ طلبت منه زيارة احمد الذوادي الذي لم يفارق مخيلتي ، كما هو الحال بالنسبة لعبدا لرحمن ألنعيمي الذي أكن له ولزوجته أم أمل وأولاده  ولتاريخهم كل الاحترام والمحبة والإخلاص وهكذا لأحمد الشملان . أتذكر إننا قمنا بزيارته في بيت أهله في الرفاع ، ثم قمت مع أخي بزياراته في السلمانية الى أن ودعته قبيل وفاته وكنت مشيعاً مع رفاقه ومحبيه .

هكذا ارتسمت في مخيلتي صورة هؤلاء المناضلين ، إلى أن جئت أنت يا أستاذ عبدالله ورميت بحجر فوق ذلك البحر الهادئ ، عندما قمت بتشويه هذه الشخصية التاريخية  وجعلتني في شك من أمري ، ولكنني الجأ في هذه الأحوال لأخي ليصحح لي بعض تلك الضنون والشكوك ، بعد أن قمت أنت يا أستاذ  عبدالله خليفة  بكسرها وطحنها والتلاعب بماضيها وحاضرها وجدت نفسي مضطراً لكتابة هذه الكلمات ، واجدك من واقع أمانتك الصحفية سوف تنشرها كما هي في عمودك أو أي مكان آخر في ذات الصحيفة مع احترامي وتقديري لك . 

       الأستاذ عبدالله خليفة .. انا شخص عادي لكنني أقرأ واجل الكلمة ، لأن الكلمة جسد حامل لموضوع الوعي ، لذا استسمحك عذرا أن أقول الأستاذ عبدالله بدلا من الدكتور أو البروفسور عبدالله ، لأنني لا اعلم إن كنت دكتورا أو بروفسورا ، ولكنها اللغة العربية ، هذه اللغة العجيبة التي تقارب بين الفعل ونقيضه فالدكتور والبروفسور على وزن المغرور ، جميعها تنهي بحرفين  : ( و ، ر ) وفي الدلالة اللغوية عند تركيب الحروف أو تعاكسها نجد أن حرفي ألـ : ( و –  ر ) تصبح ( ور ) ومنها اشتقت كلمة ( أور ) أي الغراب على وزن النعيق ،  ويقولون يوم ذي ( أوار ) أي سموم شديدة  ، هكذا كان وقع كلامك على نفسي وعلى مشاعري التي كانت تجل وتحترم هؤلاء المخلصين الشرفاء عندما سرت سمومك على هذا النحو :

لقد قلت في احمد الذوادي ( ابوقيس ) ما لم يقله غيرك ، تقول أن أبو قيس كان يشكك في رفاقه ويقول : (( أن عليهم علامات استفهام – وتوصل إلى تحول التنظــيم إلــى بــؤرةٍ مريضــةٍ مليئة بالمشــبوهــين – ويجب مغادرته إلى بر الأمان – وتقول : هل كان ذلك نتاجُ اليأس أم السوداوية؟ أم صعوبة العيش ؟ أم عجز المستوى الفكري الشعاري عن تحليل الحياة السياسية المتنامية تعقيداً واضطراباً؟  هي كذلك في مزيج مركب – وتؤكد : أن الذوادي خرج من السجن في أوائل الثمانينيات متعباً – أسس حياة شخصية له بعيدة عن السياسة – كان لا ينطقُ بأي حرفٍ عن السياسة – وتوجه لتأسيس حياتهِ الشخصية – عاش في رعاية أخيه خالد الذوادي – كانت له شقة في القاهرة أيام النفي، استفاد من بيعها – وتقول : كان متشككاً في كل شيء – حذراً من أي شيء – بعدها تضعه في خانة الجبناء بقولك :  كنتُ أعملُ في الصحافة وأكتبُ تحقيقات عن العمال والفقراء والإسكان وأفكار الساسة وأعمدة كثيرة، ولم ينطقْ بكلمة واحدةٍ عنها أو عن غيرها – بعدها ترمي به في خانة الجهالة بكلماتك هذه : في إحدى المرات كان يقرأ في كتاب لمهدي عامل وكانت تلك مظهر عافية وجدت بعد سنوات من الصمت   لكن لم يعجبه الكتاب أو لم يفهمه، كان الكتاب يتجاوز في لغتهِ الغامضة المعقدة، رموزنا الخمسينية : ( أستاذي المحترم هل كان كتاب مهدي عامل هذا طلاسم بحيث تصعب على احمد الذوادي أو أي إنسان عربي عادي فك رموزها ، وذلك لكي لا نقع في إشكالية السؤال – لمن كان يكتب مهدي عامل – )   - ثم تجد فيه إضافة طفيلية لا داع لها بقولك :  ((لم يُضفْ في زمن السبعينيات الذي سُجن في أغلبها أي معارف جديدة، أو منهجية متطورة –  فظلتْ القراءاتُ التبسيطيةُ للواقع كما هي – وجاء الانقطاعُ في الثمانينيات عن القراءة الفكرية والجدل السياسي والكتابة، لتضيفَ إشكاليةً أخرى -  كانت العودة للتنظيم بل رئاسته في دمشق تشكلُ مفاجأةً كبيرةً خاصة للمتابعين للشؤون التنظيمية والفكرية – كانت الاستنتاجات تُقام من خلال غياب القراءات أو من وجود قصاصات صغيرة – كنتُ أتصور أنه سوف يوظف الخبرة المتراكمة والملاحظات الكثيرة في السجن في تغيير بعض الوجوه وبعض الجوانب من السياسة ولكنه ذهب للأسوأ- التقيته كذلك في دمشق وبيروت، بعد عودته إلى منصب الأمين العام، وحاولتُ أن أرى تغييراً أو تذكراً للهواجس والمخاوف التي كنا نناقشها في السجن، فلم ألحظ شيئا – هذا المسار كان يعكس تخلفاً في متابعة الذوادي وغيره من المبعدين لمجمل الصراعات السياسية وجذورها وآفاقها المستقبلية – كتب أحمد الذوادي يدافعُ عن التعاون مع القوى الدينية –  إن هذا المسار كان يعكس تخلفاً في متابعة الذوادي وغيره من المبعدين لمجمل الصراعات السياسية وجذورها وآفاقها المستقبلية – استماتَ في الدفاع عنها بشكل سياسي سطحي وقصير النظر – توجه الذوادي للنضال من أجل حقوق الناس والعمال وإصلاح الحياة مع القبول بحدود الميثاق، وثنائية الطائفية، مع الدعوة المستمرة إلى الوحدة الوطنية، لكن من دون تحليل لهذا الانحدار السياسي الطائفي العميق وأسبابه والمساهمين فيه – نجدُ في قراءتهِ، خاصةً في التصدي للبيان الصادر في تلك الفترة لنقد هذه العملية السياسية برمتهـا انه لا يوجد لديه أي تحليل لطابع هذه المعارضة التي تمثل أقصى اليمين المحافظ – إن هذا الثالوث كله مضر وبحاجة إلى رؤية وطنية مفقودة عند الطائفيين. هذا ما كان مفقوداً في رؤية الذوادي، الذي لم تسعفه الأدوات التحليلية البسيطة في قراءة الظاهرات المعقدة في الحياة السياسية )) ، هل هذا هو احمد الذوادي الذي عرفته لفترات قصيرة واحترمته لدرجة التقديس ، وإذا كانت الأدوات التحليلية البسيطة لم تسعف الذوادي حسب رأيك يا أستاذ عبدالله  في قراءة الظاهرات المعقدة في الحياة السياسية، فهل هذه الأدوات أسعفتك في تشويه تاريخ هذه الشخصية المناضلة الشريفة التي ساهمت في تأسيس وفي نضالات الحركة الوطنية . 

 الأستاذ عبدالله خليفة ، إنني من المتابعين لكتاباتك بل ومن المعجبين في بعض الأحيان ، وكنت اعتقد أنها كتابات لصاحب مدرسة فكرية منهجية ، ولكنني رايتك متناقضاً في مسخك لشخصية الذوادي الذي اتهمته بمجارات الحركة الدينية في حين أنت الذي تجاري الحركة الدينية أكثر من أي علماني أو يساري أو حتى ديني في هذا البلد ، وعلى سبيل المثال أذكرك ببعض الفقرات من مقالاتك في هذا الصدد  : (( إن الاحترام والدفاع عن هذه المقدسات وتقاليد المؤمنين، هما ضرورة، لأنها ميراث يعبر عن ضرورات تاريخية وكيانات شعوب وجذور أمم وتجارب نضالية كبرى، وهذه الأمم التي مرت بكل هذه المسارات الدينية المختلفة لابد أن تصل إلى التعاون الخلاق بينها، وتشكل اقتصادات مفيدة للجميع ، كل الأفكار والأديان موقرة وذات أهمية ومكانة سامية… )) )) الروحانيون حين توحدوا مع السلطات فقدوا روحانيتهم )) وكلامك هنا يعني دون شك أو لبس أن الروحانيون بين حالتين الإيجابية النضالية بغض النظر عن بعدهم الديني أو المذهبي  والسلبية المهادنة البعيدة عن حقوق الناس ، وهذا تقييم في منتهى السطحية والبساطة خاصة لشخص مثلك يدعي التحليل العلمي  وبجدلية التاريخ ، أنظر هنا كيف تدافع عن الأديان وعن الأنبياء وتهاجم المهاجمين لحد الابتذال والمزايدة على الدينيين بل والمؤمنين أنفسهم عندما تقول  : ((أن الخطر يحدق بالأديان، وفيما كانت هي مصدر سمو وتقدم ، ويوجه البعض انتقاداته للأديان باعتبارها كوارث على الإنسانية، من خلال أفكار غير تاريخية وغير موضوعية، ويقدم الكثير من الدينيين مادة وفيرة لذلك، ولقد انتموا إلى الأديان ولكن كم من منهم واصل نضال الأنبياء وتضحياتهم؟ )) وفي معرض تمجيدك بالأنبياء تقول كما يقول المؤمن التقي بربه ودينه أنت هكذا تظهر في بعض كتاباتك ولنقرأ عبارتك هذه : (( إن نضالات الأنبياء تستمر بضعة عقود ولا تستطيع المراحل التاريخية والنخب السياسية والجماهير البسيطة أن تواصل تلك التضحيات، وتلك المآثر، إنهم طلائع وإشارات للبشر في تطورهم المعقد، ولكل مرحلة وتاريخ إمكانية الاستفادة والتأثر والتوظيف حسب الطاقات والإمكانيات والقراءات المختلفة  )) لا بل تنتقد اؤلئك الذين ينتقدون ذوي الميول الدينية مثل دفاعك هذا : ((- يضعنا بعض وجهات النظر الجزئية غير الجدلية وغير المتحركة، في زنزانات سياسية، فهي تفصلُ فصلاً متعسفاً بين الحركة التقدمية والإسلام، فلديها أن الفكر الديمقراطي الحديث مناقض كليا للإسلام، وأن على التقدميين أن يصارعوا الدينيين بشكل كامل وساحق، أو أنه على الدينيين أن يتجاهلوا تطورات الحياة والتقدم )) ثم تشيد بالنواب الإسلاميين بقولك : (( أعطت الحياة البرلمانية الوجيزة فرصة للمقاربة بين التيارات المذهبية السياسية ووجدت نفسها لا تتحدث عن الفقه والأحكام بل تتحدث عن قضايا الناس ومشكلات الاقتصاد وجور الميزانية وقلة ما يُصرف على رفع حياة الناس المادية وغموض سياسة الاستقدام للعمالة الأجنبية وغيرها من القضايا التي يتقاربُ فيها كلُ الناس المواطنين ويريدون لها حلولاً )) إنك تتحدث عن مناضلين يدافعون عن حقوق الناس تحتم الضرورة التحالف والتعاون معهم ,هذا المنطق دلالة لحديثك هذا ، في حين وجدت في منطق الذوادي الضحالة والعفوية في أدواته التحليلية وفي تعاونه أو تحالفه مع التيارات الإسلامية الوطنية . 


  
      السيد عبدالله خليفة


 قلت سابقاً إني رافقت أخي في زيارات لبيت الذوادي في أرياف دمشق ، ووجدت بيته مفتوحاً أي بابه مفتوحاً ، حينها سألت احمد الذوادي ( أبو قيس ) لماذا تترك باب بيتك مفتوح قال : (( ليس من عادات الناس هنا أن تسرق ، أجبته هل تعتقد يا أخ ابوقيس أن السرقة عادة أم هي حاجة ، قال لا أنها عادة انظر سكان هذه القرية من الدروز لم يعودوا أولادهم ولم يتعودوا على السرقة أو الكذب أو الافتراء – وأقول لك أن المحتاج لا يسرق إذا لم يكن معتادا على السرقة )) هذه العبارة أو الكلمات تجعلني أتساءل هل تشويه المناضلين والطعن في قدراتهم ونزاهتهم وتاريخهم بفعل العادة أو لحاجة ما ، وإذا كانت الحاجة تحتم ما كتبته أتمنى أن لا تكون إسقاطات لحالة أو لحدث آخر فأين أجدها ، هل في مقالاتك أو تلك المدونات الرومانسية المعتصمة في صومعة الزمان والمكان خارج ما تدعيه من طبقة عاملة وغيرها وتنسى أنك برجوازي صغير يعشق نفسه ويجدها فوق الجميع ، أحب لقاءك ولكن بعد الانتهاء من رياضتك المحببة للمشي على ممشى الفاتح .

 أخيرا اسمح لي أن اختم كلامي بعبارة جميلة تهم اليساريين مــن البرجوازيـة الصغيرة  لـ ( فتش ) في كتابة ( رسالة منطقية فلسفية ) : (( أن العمليات العقلية الباطنة هي ماورائية لا معنى لها ، ويقول : حاول ألا تفكر في الفهم بوصفه عملية عقلية على الإطلاق )).

أستاذي العزيز مهما بالغنا بطبائعنا الرومانسية فنحن لم نغادر الواقع بصفته المتخيلة في تضخيم الذات والمحيط عندما نتحدث عن الطبقة العاملة والتقسيم و الصراع الاجتماعي ، وكأننا في الهند أو دول أمريكا اللاتينية أو مصر ، لذا فمن البديهي أن القضايا التي نتحدث عنها في الغالب لا تمت للواقع بصلة وقد تكون تخيلات البرجوازية الصغيرة كمقدمات لحالة من الوهم أو ناتج من فكر لا يمتلك خصائص عقل نقدي ، ومجمل ما تقوله أنت وغيرك مجرد أوهام بعيدة عن الواقع ، لسبب أن الفكر ينفصل عن أسباب مؤثراته سواء داخل الذات أو خارجها ولأن الوعي يا أستاذي الكريم هو الحيز المتوسط بيننا وبين الوجود ، وهذا ما تعلمته من الذوادي الذي يذكرني بالأمل وبالحياة وهو على شفير الموت ، وتعلمت منه أن الحياة إرادة حتى ولو كان بينك وبين الموت لحظات ، هكذا كان ابوقيس   . 

 
مع تحيات احد تلاميذك
فيصل عبدالجليل جعفر المرباطي
Faisalj72@hotmail.com
24/ 12 / 2009
 
 
 

اقرأ المزيد

ليس قطاع الصيد‮ ‬ البحري‮ ‬وحده‮!‬

في‮ ‬عددها ليوم الأحد‮ ‬15‮ ‬نوفمبر‮ ‬2009‮ ‬نسبت جريدة‮ ‘‬الوطن‮’ ‬في‮ ‬تحقيق لها حول قطاع الصيد البحري‮ ‬في‮ ‬البحرين،‮ ‬نسبت إلى إحصائيات رسمية‮ (‬لم تذكرها‮) ‬ما‮ ‬يفيد بارتفاع عدد العمالة الأجنبية في‮ ‬هذا المجال من النشاط الاقتصادي‮ ‬الحيوي،‮ ‬حيث أصبحت تسيطر على‮ ‬76٪‮ ‬من القطاع تاركةً‮ ‬النسبة المتبقية‮ (‬24٪‮) ‬للصيادين البحرينيين،‮ ‬إذ‮ ‬يبلغ‮ ‬إجمالي‮ ‬العاملين في‮ ‬هذا القطاع‮ ‬5071‮ ‬عاملاً‮ ‬منهم‮ ‬1197‮ ‬بحرينياً‮ ‬فيما‮ ‬يبلغ‮ ‬عدد الأجانب‮ ‬3874‮ ‬صياداً‮.‬ طبعاً‮ ‬التحقيق الذي‮ ‬أُفردت له صفحة كاملة‮ ‬يعكس حالة من بدء استشعار الخطر الذي‮ ‬صارت تشكله هذه العمالة الأجنبية على مستقبل الثروة السمكية في‮ ‬البحرين وعلى فرص العمل المهني‮ ‬التي‮ ‬يوفرها هذا القطاع لشريحة واسعة من أبناء البحرين‮.‬ جدير بالذكر أن أسعار أنواع الأسماك التقليدية التي‮ ‬يستهلكها البحرينيون مثل الهامور والشعري‮ ‬والصافي‮ ‬قد سجلت ارتفاعاً‮ ‬كبيراً‮ ‬في‮ ‬الأشهر الأخيرة نتيجة لتراجع حصيلة الصيد البحري‮ ‬بصورة كبيرة بسبب عمليات الصيد الجائر التي‮ ‬تستخدم فيها العمالة الأجنبية شباك وحشية‮ (‬تُدعى الشباك الإسرائيلية‮) ‬تجرف وتدمر شبكة البيوت والأنفاق السمكية الطبيعية التي‮ ‬تشكلت عبر السنين،‮ ‬وعمليات الردم البحري‮ ‬واسعة النطاق التي‮ ‬طمرت مساحات واسعة من السواحل ووصلت إلى عمق بضع عشرات الكيلومترات وذلك لإقامة مشاريع عمرانية جديدة‮. ‬فضلاً‮ ‬عن ازدياد الطلب على منتجات الصيد البحري‮ ‬قبالة تراجع المعروض جراء التضخم السكاني،‮ ‬وكذلك التضخم النقدي‮ ‬الناجم عن أزمة الغذاء والأزمة المالية العالميتين اللتين حدثتا في‮ ‬العام الماضي‮.‬ إنما ليس قطاع الصيد البحري‮ ‬وحده هو الذي‮ ‬هُمِّشت فيه إلى الحد الأدنى قوة العمل البحرينية نتيجة لاستحواذ وسيطرة العمالة الأجنبية‮. ‬فقبل هذا القطاع كانت أنشطة قطاع التجارة الداخلية تتساقط الواحد منها تلو الآخر في‮ ‬أيدي‮ ‬العمالة الآسيوية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي‮. ‬فلقد سقط قطاع الذهب والمشغولات الذهبية وقطاع بيع المنسوجات والألبسة الجاهزة،‮ ‬وقطاع البقالات الصغيرة المنتشرة بكثرة في‮ ‬الأحياء ثم تلتها السوبر ماركتات الشاملة،‮ ‬ثم سوق بيع اللحوم الحمراء،‮ ‬ثم سوق بيع الفواكه ليتبعه سوق الخضار،‮ ‬ومن بعد سوق السمك،‮ ‬لتتسع الدائرة وتشمل قطاع الإنشاء‮ (‬المقاولات من الباطن خصوصاً‮) ‬وقطاع ورش الألمنيوم‮ ‬‭(‬Aluminum fabrication workshops‭)‬‮ ‬الخاصة بالتجهيزات الإنشائية‮. ‬وهنالك قطاعات أخرى مرشحة لنفس المصير من بينها قطاع الفندقة الثانوي‮.‬ طبعاً‮ ‬هذا لم‮ ‬يحصل بين ليلة وضحاها ولم‮ ‬يحدث من فراغ‮ ‬وإنما هو حصيلة متراكمة منذ ثمانينيات القرن الماضي،‮ ‬وإن تطورات وتحولات عميقة في‮ ‬البيئة الاقتصادية المحلية هي‮ ‬التي‮ ‬أفرزت بصورة محتمة هذه الظاهرة‮.‬ ولأنه لم‮ ‬يتم التعامل معها بالجدية المطلوبة فقد كان من الطبيعي‮ ‬أن تتجاوز حدودها وتتبدى مؤخراً‮ ‬في‮ ‬صورة الباعة المتجولين الآسيويين الذين باتوا‮ ‬ينتشرون كالفطر على الطرقات في‮ ‬الشوارع العامة وأزقة الأحياء السكنية في‮ ‬مناطق البلاد المختلفة‮. ‬ولا‮ ‬يقتصر الأمر على بيع الفواكه والخضروات وإنما‮ ‬يشمل الأقمشة والملابس والأقراص المدمجة والإكسسوارات والحقائب والساعات‮.‬ هنا علينا أن نتذكر معدل النمو السنوي‮ ‬للعمالة الأجنبية والذي‮ ‬يعتبر معيناً‮ ‬لا‮ ‬ينضب لفائض العمالة الأجنبية الذي‮ ‬يمظهر أزمة السوق في‮ ‬أشكال مختلفة من بينها ما‮ ‬يشكو منه الصيادون وتزايد أعداد الباعة المتجولين ونحوها في‮ ‬الربع الأخير من العام الماضي‮ ‬فقط تمت العمالة الأجنبية بنسبة‮ ‬3‭,‬17٪‮ ‬مقارنة بالربع الثالث من نفس العام من‮ ‬417389‮ ‬إلى‮ ‬‭.‬438211‮ ‬بينما لم تسجل العمالة البحرينية خلال نفس الفترة سوى نمو بنسبة‮ ‬7‭,‬7٪‮ ‬فقط،‮ ‬من‮ ‬134718‮ ‬عاملاً‮ ‬إلى‮ ‬140096‮ ‬عاملاً‮ ‬ليصبح إجمالي‮ ‬قوة العمل في‮ ‬نهاية العام الماضي‮ ‬578307‮ ‬عمال‮.‬ ولا ننس التدفق المنهمر للعمالة الأجنبية‮ ‬‭(‬Labour flow‭)‬‮ ‬الذي‮ ‬يبلغ‮ ‬معدله في‮ ‬المتوسط حوالي‮ ‬500‮ ‬فيزا‮ ‬يومياً‮ (‬وفقاً‮ ‬لتصريح وحيد البلوشي‮ ‬مدير الخدمات الإلكترونية والعلاقات العامة في‮ ‬هيئة تنظيم سوق العمل لجريدة جلف ديلي‮ ‬نيوز‮ ‬‭(‬GDN‭)‬‮ ‬في‮ ‬11‮ ‬أكتوبر‮ ‬2008‮ ‬وذلك رداً‮ ‬على اتهامات أصحاب الأعمال للهيئة ببطء عملية إصدار تراخيص العمل‮).‬ الآن أصحاب الأعمال وأرباب قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة منهم على نحو خاص‮ ‬يتذمرون من هذا الوضع بعد أن استشعروا وطأة استفحال نفوذ العمالة الأجنبية وتأثيراتها السلبية على أعمالهم،‮ ‬مع أنهم هم المسؤولون عن هذه الظاهرة،‮ ‬فأصحاب البقالات وأصحاب محلات بيع اللحوم الحمراء وأصحاب محلات أسواق الفواكه والخضروات وكافة خطوط الإنتاج والخدمات التي‮ ‬أضحت في‮ ‬أيدي‮ ‬العمالة الآسيوية،‮ ‬هم الذين تنازلوا عن محلاتهم لصالح أصحاب الرساميل الصغيرة الآسيويين لقاء الحصول على ريع شهري‮ ‬دون الاضطرار للعمل وبذل الجهد في‮ ‬إدارة محلاتهم‮.‬ ولذلك فإن مطالباتهم بترحيل العمالة السائبة،‮ ‬والحد من ظاهرة تأجير السجلات،‮ ‬والسيطرة على مشكلة هروب العمالة،‮ ‬لا تعد وحدها مقاربة كافية لحل المشكلة،‮ ‬ما لم‮ ‬يقترن كل هذا بتخليهم عن الذهنية الريعية التي‮ ‬تلبستهم واستأنسوها‮.‬ الأمر‮ ‬يتعلق بتغيير ثقافة العمل السائدة‮.‬ وللحديث صلة.
 
صحيفة الوطن
27 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

العيد الـ 38 يزهو بإنجازاته

لا يفهم ولن يفهم بتلك السهولة الزائر الجديد والعابر الغريب تفاصيل التفاصيل، وماذا يعني لشعب دولة الإمارات العربية المتحدة عيد استقلاله وعيد الاتحاد الثامن والثلاثين، حيث عرفت تلك الإمارات السابع تحديات كثيرة وواجهت صعوبات عدة لكي تؤسس لمشروع وحدوي عربي ولو جزئيا في المنطقة العربية، التي عاشت بحلم الوحدة ومرت بتجارب فاشلة للوحدة، بعضها كانت مشاريع وحدة ثنائية وبعضها مشاريع وحدة ثلاثية، غير إنها جميعا أخفقت إخفاقا كبيرا تركت أثارها السلبية كالجرح الغائر العميق لدى أجيال لاحقة وجيل عاش حكايات الإخفاق وانتكاسات الأحلام . في الذكرى الثامنة والثلاثين لدولة الاتحاد، استطيع أن أقول إنني عاصرت كل تلك المرحلة بتفاصيلها ودقائقها، مشاعرها وطموحاتها وتحدياتها العضال، عشتها عن قرب عندما لامست قدماي لأول مرة ارض ابوظبي في العام 1968، حيث بإمكان المرء أن يلمس حقيقة هذه التجربة الكبيرة إن لم اسمح لنفسي بان أقول أنها عظيمة لكونها صنعت إنسانا جديدا ومواطنا جديدا، له خصوصيته الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن هنا بإمكاننا أن نقول إنها مشروعا كبيرا في حقيقته وواقعا اكبر من حيث النتائج والوقائع التي تركتها لنا العقود الأربعة، من انجازات تنموية عظيمة، حيث بات الإنسان الإماراتي والدولة الفتية الإماراتية عنوانا وموضوعا يتناوله بالدرس كل من يرغب في معرفة مدى التطور السريع والمنجز الحضاري لتنمية سريعة حققت إبهارا ودهشة لكل دول العالم، فما بناه المؤسسين الأوائل من تقدم حياتي ودولة رفاه اجتماعي، في فترة قياسية، لم تحققه دول في العالم النامي، كعواصم وحواضر وريف ممتد، كانت أقدم بكثير من إمارات صغيرة معزولة تعيش على ضفاف الخليج العربي، إمارات صغيرة تابعة للاستعمار البريطاني وقبائل متناثرة مشتتة، تقاوم البيئة القاسية والمحيط المجحف بثروته، لو لا تلك المياه والبحر والصحراء وواحات النخيل، التي علمت الإنسان كيف يتعايش مع بيئة قاسية إلى ابعد حدود القسوة، وكأنما غواص الأمس هو عامل المناجم اليوم، فكلاهما كان يغوص تحت الأعماق لاستخراج مكنونها من اللؤلؤ والذهب والألماس . كان على إنسان تلك الإمارات القابعة على ضفاف الخليج استخراج ما يمكن استخراجه من تلك البيئة التي اختزنت في عمقها ثروة هائلة من النفط، والذي ستتمحور حوله كل الاقتصاديات اللاحقة وكل مشاريع التنمية المتنوعة كان أهمها هو بناء الإنسان كمحور التنمية وهو الهدف المستمر لمشروع الاتحاد، فقد وضعت الدولة الفتية في عقدها الأول أهم المرتكزات كخطوات أولى، تم استكمالها لاحقا بخطوات عديدة تطلبتها المراحل المختلفة في كل عقد غير إن الخيط الأساسي في كل العقود كان هو الإنسان والتنمية، لكي يصبح مشروع الوحدة والاتحاد ركيزة للمستقبل، بناء مواطن تخطى كل الحساسيات التاريخي، والشكوك بجدوى نجاح التجربة ومخاضها الأول مع فرسان التأسيس، دون أن ينسى الجميع حجم ونوعية ودور كل إمارة في ذلك الكيان السياسي الجديد . كنا نلامس حينها كيف تبلورت الفكرة قبل الاستقلال وراودت رؤوس قادتها أهمية توحيد تلك الإمارات السبع المقبلة على التغيير والاستقلال من اجل بناء دول حديثة، تنتظرها الأيام وجيلها بتطلع وحلم كبير . وحسب تعبير جيل إمارتي عاش وولد مع هذا المخاض التاريخي، فان أول ما لمسه كيف تنطلق التجربة دون أن تفرط بخيط هام هو بناء الثقة بين الأطراف جميعها وتصفية القلوب، باسترضاء شخصيات ومجموعات، عشائر وقبائل وعائلات، كانت مسكونة بهواجسها، ولكنها في النهاية عادت لتذوب في المشروع الحلم، وتنطلق من اجل الهدف الأسمى وهو بناء دولة عصرية قوية يضمها الاتحاد، دولة رسمت لمستقبلها بكل وضوح، دون أن تنسى إن هناك معوقات عدة لا بد من إزالتها لتحرير الجيل القادم من أوهام وفكرة الانعزال والتقوقع الداخلي . كان العقد الأول منصبا في وضع أهم بنية للتعليم كأساس لبناء إنسان الإمارات، فمن خلال تلك البنية التعليمية بإمكانها أن تضمن عملية التنمية، فالعلم والتعليم ليس مجرد تفكيك المفردات في اللغة والقضاء على الأمية والتخلف وإنما على المدى البعيد هو استثمار في المواطن الإماراتي لكي يضمن المجتمع وتضمن التنمية إنتاجا جديدا وقوة عاملة ومنتجة لمرحلة ما بعد النفط. في العقد الأول بدأت ملامح المجتمع في التغيير، حيث شهدت دولة الاتحاد نهضة عمرانية وبنية تحتية في حالة ازدهار مستمر، فجاءت الولادات النهضوية المتلاحقة، جرائد تنتشر ومحطات تلفازية وإذاعية ومراكز تهتم بتأسيس حقيقي للبنية التحتية . تلك العملية الكثيفة في أصوات الجرافات والبناء والتغيير في كل إمارة، جذبت أول ما جذبت مع الاتحاد كل مواطني الإمارات السبع المنتشرين في ربوع بلدان الخليج والدارسين في البلدان العربية ، فكان عليهم تقع مسؤولية العبء الأول والحمل الثقيل في بناء دولة الاتحاد .
 
صحيفة الايام
27 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

«هوبن هايجن».. لم تعد أملاً!

بعد انتهاء مداولات قمة التغير المناخي لأعمالها في العاصمة الدانماركية كوبن هايجن، في الفترة ما بين السابع والثامن عشر من ديسمبر الجاري، خرجت الكثير من المسيرات والتظاهرات في شوارع العديد من مدن وعواصم العالم منددة بما توصلت إليه وفود أكثر من 192 وفدا دوليا شاركت في أعمال المؤتمر، الذي كان مؤملا منه الخروج بعمل ميداني فوري يتجاوز البيانات السياسية كما ذهب إلى ذلك الرئيس الأميركي اوباما في معرض تعليقه على توافقات اللحظة الأخيرة المنتظرة من القمة. من بين تلك المسيرات الحاشدة، رفعت مسيرة نشطاء البيئة في العاصمة البريطانية شعارات عدة كان من بينها شعار سهل لكنه معبر يقول» مناخ كوكبنا في أيدينا «. قبيل انطلاق القمة أعطى المنظمون لأنفسهم وللعالم أجمع دفعة من الأمل عندما أعلنوا أن قمة كوبن هايجن هي قمة الأمل للبشرية، فأطلقوا عليها قمة «هوبن هايجن». لكن سرعان ما برهنت المداولات على فشل العالم بدوله الصناعية الكبرى والناشئة والنامية في تحقيق ما كان متوقعا منها، حيث الأماني والطموحات الكبيرة في عالم يستطيع أن يقرر مصيره لو أراد بجعل كوكب الأرض أكثر أمنا، مبتعدين به عن ما ينتظره من مصاعب أصبحت بفعل تخلف السياسات العالمية وتراجع التعاون الدولي ونزعة الهيمنة والاستحواذ والتسلط، أصبحت مرئية للجميع دون استثناء، فها هي الكوارث البيئية والفيضانات وتزايد حرارة الأرض والبحار وعوامل التصحر، أصبحت ملحوظة في كل مكان تقريبا، منذرة بأوخم العواقب إذا ما استمر تجاهل حكومات العالم لما هو مطلوب منها. في العام 2007 حذرت اللجنة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي التابعة للأمم المتحدة المجتمع الدولي من مواجهة مزيد من الفيضانات وانحسار الحياة البرية وارتفاع مستوى المحيطات والبحار وتفشي موجات الجفاف وتزايد أعداد اللاجئين، ولكن يبدو أن ذلك لم يحرك ساكنا لدى الجميع خاصة من يمتلكون ناصية القرار العالمي، ومن يلوثون المناخ بصناعاتهم دون توقف، وفي العام ذاته أقرت محادثات «بالي» باندونيسيا بدء العمل على اتفاقية مناخ جديدة تكون بديلا لاتفاقية وبروتوكول «كيوتو» الموقعة منذ العام 1997 حول الأمر ذاته. على هذه الخلفية التاريخية جاءت مداولات كوبن هايجن بأمل الخروج بمعاهدة دولية تلبي ولو جزءا من طموحات البشرية في كبح إنبعاثات ما يطلق عليها بالغازات الدفيئة وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون، وبشكل يسمح بعدم تخطي حرارة الأرض أكثر من درجتين، فقد سارعت الدول النامية بالمطالبة بخفض نسبة الانبعاثات بين 40 – 25 % موجهة اللوم للدول الصناعية بأنها المتسبب الرئيسي في نسب التلوث المناخي، فيما تعهدت دول الاتحاد الأوروبي قبيل انتهاء أعمال المؤتمر بخفض نسبته 20% في الأحوال العادية، وبنسبة 30% في حال تم التوصل إلى اتفاقية جديدة، أما استراليا ونيوزيلندا فقد أعلنتا أنهما على استعداد لتحقيق خفض كبير في انبعاثاتهما بحلول 2020. ومن بين أهم المصاعب التي اعترضت نجاح المؤتمر برزت قضية الأعباء المالية، ومستويات الخفض المتوقعة خاصة بين كلا من الصين والولايات المتحدة، علاوة على اعتراضات الدول النامية فيما اعتبرته تهميشا لها . وبالفعل جاءت النتائج مخيبة للآمال بشكل كبير، حيث لم تتوصل القمة إلى صياغة معاهدة كوبن هايجن كما كان منتظرا لها واكتفي فقط بإعلان عبر بشكل جلي عن حجم الخلافات والتباينات في المواقف بين الدول الصناعية والناشئة والفقيرة، حيث صادق ما مجموعه 30 رئيس دولة ورئيس حكومة على الإعلان الذي رفع فيما بعد للجمعية العامة للمؤتمر، وسط اعتراضات كبيرة لم يسمح وقت المؤتمر بإعطائها متسعا من المناقشة والتمحيص، فجاء إعلان إنشاء صندوق مالي لمساعدة الدول الفقير على مواجهة التداعيات الناجمة عن التغير المناخي بمبلغ 100 مليار بحلول العام 2020 بمثابة ذر للرماد في العيون، مع تحديد المؤتمر لسقف زيادة مسموح به في مستوى درجتين مئويتين، مقارنة لما كان عليه الوضع قبل الثورة الصناعية، والاكتفاء بالتزام خطي من الدول المشاركة مع نهاية شهر يناير دون تحديد مجرد إطار زمني لوقف تلك الانبعاثات! هكذا إذا كان الوضع العالمي شفافا لكنه معقد وبائس ومرعب بحق، إذ أننا نتحدث عن اكبر مؤتمر سياسي عالمي، حين يعجز عن التوصل إلى اتفاق يلجم حالة الانفلات والتهور واللامبالاة، فيما ينتظر العالم وكوكب الأرض أيام وسنوات وكوارث ومتغيرات ضخمة قادمة لا محالة دون أمل للبشرية في الخروج من تداعياتها المكلفة.
 
صحيفة الايام
27 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

زهو الطواويس!

المثقف الذي نحتاجه اليوم هو ذاك الذي يفي بشروط أو صفات “الانتلجنسيا” الحديثة، أي ذاك المثقف الأقرب إلى مفهوم المثقف العضوي الذي صاغه غرامشي، ومثل هذا النوع من المثقف يجب أن يتوافر على عدة شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وروحه النقدية أو حاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه لنزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي. وهذه الصفات هي ذاتها تلك السائدة عن صورة المثقف في العصر الحديث، وبهذا المعنى فإن المثقف لا يمكن أن يكون جديراً بهذا الاسم إذا كان فاقداً للعدة النظرية – الفلسفية، أو الرؤية الخاصة للحياة، التي تميزه عن تقني الثقافة، أي ذاك المتعلم المنصرف لشؤون مهنته وحياته فقط مُديراً ظهره لما حوله من حراك اجتماعي – سياسي ومن قضايا ينشغل بها المجتمع الذي ينتسب اليه. فليس كافياً أن يكون الإنسان مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حَكماً على أحداث مجتمعه. إن دوره، حسب تعبير للدكتور خلدون النقيب، لا ينحصر في تقديم المعرفة وتطويرها فقط، وإنما يصبح قادراُ بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه لبث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يُوغل فيها مبضع النقد، الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرحة لمريضه. وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما أيضاً في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه للوعي النقدي، للوعي الجديد الذي لا يهادن إزاء الظواهر المعيقة للنهضة والتقدم، والمؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي لمواجهة ما لمجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في المرحلة الراهنة والمرحلة القادمة. وما يعيب الفعل الثقافي الجديد هو تشتته وبالتالي عجزه عن أن يشكل حالة عامة مؤثرة نظراً لانعدام التواصل الأقرب إلى القطيعة وهيمنة الأشكال البيروقراطية من التواصل التي غالباً ما تكون بعيدة عن النبض الثقافي الحقيقي في هذه المجتمعات، والذي يجد تعبيراته في ظواهر أو بؤر ثقافية صغيرة لم تنل بعد ما هي جديرة به من اهتمام وعناية، وتتداخل هذه الظواهر الثقافية، أو يجب أن تتداخل مع أسئلة الثقافة العربية في الظروف المستجدة. سيظل هناك أمر ناقصا في مفهوم المثقف إذا لم ينخرط هذا المثقف أو من يريد أن يصنفه الناس على انه كذلك في مجرى الحياة ويشتبك بأسئلتها ويكتوي بلهب قضاياها المعقدة التي تزداد تعقيدا كل يوم، بحيث تبدو اللهجة الاوامرية التي يطلقها البعض من هنا وهناك، من عليائهم، عما يجب أو ما لا يجب فعله مظهراً من مظاهر الاستعلاء على الحياة نفسها، وليس فقط على الناس الذين يعملون في حدود ما يستطيعون ، حين يُظهر هؤلاء المتفرجون أنفسهم كمن اكتشفوا البارود أو ربما ما هو أهم منه، فلا تعدو مهمتهم سوى كيل النصائح لا بل والشتائم وتعابير الازدراء المغلفة بزهو الطواويس، الذي نعرف مقدار زيفه.
 
صحيفة الايام
24 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

حين يكون للدم معنى

اي دم يسفك ظلما على اي بقعة من بقاع العالم فهو دم عزيز غال، لا يقدر بكنوز الارض. فللدم معنى كبير يفوق معنى السيف، ولكن اذا كان هذا الدم من أجل العدالة الاجتماعية، وكرامة البشر، اذا كان هذا الدم مدعاة للوحدة بين الناس، بين الأبيض والأسود بين هذا المذهب وذاك، وبين أصحاب اليمين واليسار. ان للدم معاني غير المعاني التي يذهب اليها بعض من يحبون إراقته بدواع وحجج واهية تتلبس بالاسلام وهي لا تعرف منه إلا اسمه. ان الدم يعني السلام والحب والحياة والوحدة والاتحاد. ولهذا نقدر عاليا الجهود التي يبذلها أهالي النعيم عامة والقائمين على حملة الامام الحسين للتبرع بالدم خاصة، على هذه الجهود المضيئة التي يقدمونها خلال موسم عاشوراء الذي نعتبره محطة مهمة للتآخي والوحدة والاجتماع على كلمة سواء. وما هذه الروافد التي ترفدها الحملة على بنك الدم المركزي إلا دليل وعي مجتمعي وترجمة لمعاني السلام التي ينادي بها احرار البشرية. ان الملبين لنداء الدم لهم قبلة على جباههم، فحين تمد السواعد ليأخذ الدم من تلك الشرايين، دون النظر الى اين سيذهب هذا الدم، وأي جسم سيدخل فيه، واي عقل سيخالطه ، هي ترجمة حقيقية وفعلية لنداء العقل والدين والضمير. ان أهل البحرين بكافة شرائحهم يثبتون للعالم انهم مسارعون في الخيرات، محبون لوطنهم، متآخين متآزرين. ختاما: الدم لا يعني العنف، لا يعني الارهاب، لا يعني قتل الاخر، او زعزعة امن مجتمع، فلنفهم ما يحمل الدم من معنى. دمتم ودام الدم الذي يروي أغصان السلام.
 
صحيفة الايام
23 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

الأقوال المتداولة

مرة دعا أحد علماء الاجتماع الفرنسيين إلى اشتقاق «فن مقاومة الأقوال المتداولة». كان هذا العالم يعالج قضية البداهة أو المسلمة التي تتسرب إلينا بشكل سلس، مخملي، ناعم فنقبلها طواعية دون التمعن في حقيقة ما إذا كانت صائبة أو لا. غالباً ما يجري الجدل أو النقاش حول عناوين كبيرة، ويجري إغفال إن البداهة إنما تظهر في أمور يومية، بسيطة. ولفرط بداهتها فإننا غالبا لا نتوقف أمامها ولا نتفحصها، بل إننا غالباً ما ننطلق في مناقشاتنا وحواراتنا التي تصل أبعد حدود الاختلاف منطلقين من التسليم بهذه البديهيات، فيكون من الطبيعي أن نتعصب لأفكار خاطئة دون أن نتنبه إلى إنها مبنية على قواعد هشة أو أفكار خاطئة. شاعر أجنبي عاش في القرن الماضي دعا إلى أن يتعلم كل فرد فن تأسيس بلاغته الخاصة، ورأى في ذلك نوعاً من أعمال «السلامة العامة» يتطلب مقاومة الأقوال الشائعة، محرضاً قارءه على قول ما يريد قوله هو: «تكلم أنت بدلاً من أن تتكلم بلسانك (تتكلمك) كلمات مستعارة مشحونة بالمعنى الاجتماعي»، الذي يكتسب سطوته من كونه عاماً، كونه بديهياً. والخروج عن البداهة هو بالضرورة، أو هو في شكل من أشكاله على الأقل، خروج عن الإجماع، عن التوافق. التوافق ليس بالضرورة أمراً طيباً وحسناً، لأن كل منعطفات التاريخ الكبرى إنما انطلقت من فكرة كسر هذا التوافق والخروج عليه. نحن ننشأ على البداهة، منذ الطفولة نكتسب القناعات العامة، ثم نندمج في مؤسسات المجتمع بدءاً من المدرسة مروراً بالخلايا الاجتماعية الأخرى. ومع الوقت نتعود على التفكير مثل الآخرين، نفكر بأفكارهم، وقد لا نكتشف أبداً إننا لم نطور لأنفسنا «بلاغتنا الخاصة»، نعني بها تفكيرنا المستقل المبنى على مشاهداتنا ومعايناتنا عن الحياة، ونكتشف أيضاً إن المسافة الضرورية بيننا كأفراد وبين المجتمع تكاد تكون معدومة أو غائبة. «الأنا» تذوب في المجموع وتفقد سيماءها الخاصة. هذا لا يعني في المطلق إن الأقوال المتداولة، أو البديهيات كلها خاطئة، ولكنه يعني تحديداً أنه في قلب هذا النسيج المحكم الحياكة من البديهيات ثمة الكثير من العناصر التي تسوق كما لو كانت أمراً مفروغاً منه، دون الأخذ بالاعتبار إن الزمن نفسه وسيرورة الحياة، تقذف بالكثير من الأحكام من دائرة القيمة المطلقة، من أحكام القيمة النهائية، إلى مدار الشك، حين تفقد شرعيتها التي كانت لها في زمنٍ سابق. في المسرح ثمة مصطلح يعرفه الدارسون هو «التبعيد البريختي» نسبة إلى المسرحي الألماني بريخت حين يتعين إقامة مسافة بين الممثل والدور، وبين المتفرج والاندماج، ويبدو أننا في حاجة إلى مصطلح مشابه في المجتمع، يضمن للفرد مثل هذه المسافة بينه وبين الآخرين، تحقق له فضاءه الخاص الذي يمكنه من وضع كل بداهة موضع المساءلة وإعادة النظر، عله يكتشف أن ليس كل البديهيات هي بديهيات.
 
صحيفة الايام
23 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

تسفيه التاريخ – 2

استكمالاً لحديث الأمس نقول أن أحمد الذوادي لم يتعرض للايذاء الشخصي فقط، وانما عرّض به البعض لأنه ببصيرته السياسية الصحيحة ارتأى أن يشارك المنبر التقدمي في انتخابات 2002، وهو خيار سار عليه غالبية المقاطعين في الانتخابات التالية، لأن التجربة سرعان ما أظهرت صواب ما كان الذوادي، على رأس تنظيمه، قد رآه. وأحمد الذوادي لم يسلم من الأذى حتى بعد مماته، وممن ؟ لا من خصومه في الفكر أو في السياسة، وإنما من رفاق له، الذين لا نفهم سر ضغينتهم لرجلٍ كبير المكانة والمقام في تاريخ هذا الوطن جدير بأن يحظى بما هو أهل له من تقدير. وأحمد الذوادي ليس ملاكاً ولا نبياً، انه إنسان شريف، مخلص، وهب حياته لوطنه وشعبه، وفي العمل فان الإنسان يخطئ ويصيب، ولم نقل يوماً ان تاريخنا الوطني مليء بالأمجاد فقط، ففيه الأخطاء والعثرات التي تتطلب قراءة منصفة هادئة ورزينة تأخذ ظروف كل مرحلة بعين الاعتبار، لا أن تسقط مفاهيم الحاضر على ظروف معقدة وصعبة ناضلت الحركة الوطنية والديمقراطية خلالها وهي تعاني من قلة الكادر وشحة الإمكانيات. للأسف الشديد فان هذا النوع من المعالجات يصب في ما نود أن ندعوه تسفيه تاريخ النضال الوطني في البحرين، حين يجري استلال صفحات منفردة من هذا التاريخ وتضخيم ما فيها من سلبيات، وتوجيه دائرة الضوء الكبيرة بشكل متعسف ومغرض وأحيانأ حاقد أيضا عليهاً، لاختزال تاريخ التنظيمات الوطنية بكل تعقيداته وتضحياته في نقاط صغيرة. أليس معيباً بعد هذا التاريخ المفعم بالجراح والتضحيات والآلام والدموع أن يجري محورة تاريخ تنظيماتنا الوطنية ودورها الكبير في تاريخ الوطن، في مشاحنات أو حساسيات نشأت بين المناضلين المعتقلين من أمزجة وميول شخصية ونفسية مختلفة الذين كدسهم السجان في زنزانة واحدة ولمدد طويلة، أو بين المناضلين الذين أجبرتهم ظروف المنفى القاسية على أن يتكدسوا في شقة صغيرة واحدة ولعدة سنوات؟ ماذا سنترك، اذاً، لخصوم الحركة الوطنية لكي يقوموا به في التعريض بتاريخ حركتنا الوطنية وتشويهه، لا بل ومحو هذا التاريخ وشطبه من ذاكرة الوطن والأجيال الجديدة، خاصة وان هذا التاريخ معرض للمصادرة والشطب، إذا كانت مثل هذه المطالعات النرجسية تأتي من داخل الصف الوطني نفسه بدل أن ينشغل أفراده بتقديم قراءة موضوعية هادئة، تشتغل على التحليل الواقعي للملابسات التي ناضلت فيها الحركة الوطنية في الماضي في ظروف المجتمع البحريني يومذاك، وبما يتناسب مع مستوى التطور الفعلي للمعارف والادراكات والقدرات في تلك الظروف، لا في ظروف اليوم، بهدف الاستفادة من هذا التاريخ ودروسه في الحاضر. نكرر القول بأن تاريخ تنظيماتنا الوطنية ليس كله أمجاد. فيه نقاط ضعف وأخطاء، لكن شتان بين تحليل هذه الأخطاء وتقصي أسبابها برزانة ورصانة، وبين التعريض الرخيص بشخوص تلك المرحلة، خاصة حين يمس هذا التعريض رمزاً وطنياً مثل أحمد الذوادي، الذي لم يكن قديساً ولم يرد لنفسه أن يكون كذلك، ولا أحد منا يريد أن يجعل منه ذلك، ولكن بصمته الخالدة في تاريخنا لا يمكن أن تمحى، وسيكون واجباً على رفاق أحمد في السجون والمنافي والنضال ألا يسكتوا عما تعرضت له ذكراه من ايذاء.
 
صحيفة الايام
22 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد

هذا هو الردّ على الفتنة!


مع التفهّم التام لمشاعر المرارة عند المواطنين الكويتيين من أبناء القبائل، الذين أساءت إليهم «الأبواق» و«القنوات» المشمولة بالرعاية، فإنّ المشكلة أكبر وأخطر من أن تكون مجرد إساءة مرفوضة موجّهة ضد قطاع واسع من أبناء الشعب الكويتي الواحد، وإنما هي فتنة افتعلها رعاة هذه «الأبواق» و«القنوات» وحاولوا إشعالها مرات ومرات قبل هذه المرة بهدف تمزيق النسيج الوطني الاجتماعي وتأجيج صراعات فئوية ومناطقية تمهد السبيل نحو تحقيق المؤامرة الكبرى المتمثلة في فرض أوضاع استثنائية متعارضة مع النظام الدستوري في البلاد وتمرير مشروع «الدستور البديل» لدستور 1962 عبر آلية الاستفتاء العام الشبيهة بما يحدث في بعض الأنظمة العربية الاستبدادية… وربما ينطبق الأمر ذاته في المحصلة النهائية إن لم يكن في الظروف والملابسات والدوافع على ما نشهده من استفزاز طائفي مرفوض تقوم به بعض العناصر الهامشية المتزمتة في شهر محرم الحرام تحديداً!

إنّ الردّ الفعال والواعي على الفتنة لا يتحقق بالانسياق وراء الاصطفافات الفئوية والاستقطابات المناطقية والنعرات الطائفية والتعامل مع ما حدث أو يحدث على أنّه صراع فئوي قائم بين الحضر وأبناء القبائل؛ أو اصطراع مناطقي كامن بين «سكان المناطق الداخلية» وسكان «المناطق الخارجية»، أو خلاف طائفي ممتد عبر التاريخ بين السنّة والشيعة… فهذه هي بالضبط الفخّ، التي يحاول مثيرو الفتنة والمستفيدون من إثارتها أن يوقعونا فيها!

إنّ الردّ الفعال والواعي على محاولات إثارة الفتنة يتطلب أولاً التحلي باليقظة تجاه مثل هذه المحاولات الدنيئة… ويتطلب ثانياً فضح أهدافها الخبيثة… ويتطلب ثالثاً كشف دعاتها ورعاتهم… ويتطلب رابعاً التمسك بمفهوم المواطنة الدستورية، التي هي ملاذنا الأوحد كأبناء لهذا الوطن الواحد؛ وذلك بغض النظر عن أصولنا وانتماءاتنا وطوائفنا ومناطق سكنانا.

وغير هذا وإن كان ذا صلة، فربما قال قائل عن سذاجة أو قصر نظر إنّ ما أثير يقع في إطار حرية الرأي أو حرية التعبير، اللتين كفلهما الدستور.. وهذا تبسيط وتسطيح، فنحن في واقع الحال أمام حملات إثارة متعمّدة ومتواصلة، ودعوات تحريض كريهة، ومحاولات عنصرية مقصودة للحطّ من شأن بعض فئات المجتمع الكويتي، ونحن كذلك أمام استفزاز تقوم به عناصر متزمتة طائفياً، وبالتالي فإنّ الأمر أخطر من أن ننظر إليه ببراءة أو سذاجة أو حسن نيّة على أنّه حرية رأي أو حرية تعبير… إنّها عنصرية مقيتة وطائفية بغيضة لا يجوز التسامح معهما… ولا أضيف جديداً عندما أذكّر بأنّ البلدان الديمقراطية المتقدمة تحظر الدعوات العنصرية، وهذا ما يشمل هناك الأفكار والجماعات النازية والفاشية؛ بل إنّه يطال أيضاً ما يسمى «معاداة السامية»، فيجرّمها ويعاقب عليها، خصوصاً بعد التجارب الدامية المريرة، التي ذاقت فيها تلك البلدان والمجتمعات ما ذاقته من ويلات التسامح الساذج أو الانتهازي مع تلك الدعوات والجماعات العنصرية فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما تسببت فيه من مذابح وكوارث وحروب أهلية وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية ذاتها… ولهذا فقد حظرت دساتير العديد من البلدان الأوروبية هذه الدعوات والجماعات وجرّمت قوانينها دعوات الكراهية العنصرية، ولم يدع أحد هناك أنّ مثل هذا الحظر والتجريم منافيان لحرية الرأي أو حرية التعبير، حتى وإن كانا  كذلك بالفعل!

إنّ قانون المطبوعات والنشر وقانون الإعلام المرئي والمسموع على سوء بعض أحكامهما إلا أنّهما يحظران نشر أو بث ما من شأنه الحضّ على كراهية أو ازدراء أي فئة من فئات المجتمع، وهذا ما يفترض أن يكون، والأهم هو أنّ هذا هو ما يفترض أن يطبّق ليس تجاه هذه «الأبواق» و«القنوات» فحسب، وإنما بالأساس تجاه رعاتها الذين حان الوقت لإخضاعهم للمساءلة السياسية إن لم تكن ممكنة مقاضاتهم قانوناً!
ولكن الخشية أنّه بدلاً من ذلك فقد يتم استغلال ما حدث لفرض مزيد من القيود على الحريات العامة، وبذلك يتحقق جزء آخر من المؤامرة الكبرى، التي ننبّه إليها بعد أن بلغتنا تفاصيلها! 



 
جريدة عالم اليوم  21 ديسمبر 2009

اقرأ المزيد