­

المنشور

بيان هموم الطلبة… يحرم الجامعية نور حسين فصلاً كاملاً…

“لو كانت نور محسوبة على جمعية سياسية ذات ثقل في مجلس النواب، فهل ستكون ردة فعل إدارة جامعة البحرين تجاهها مشابهة؟ أم أن نور هي كبش الفداء الذي تستخدمه الجامعة لترهب بقية الطلبة وبقية القوائم الطلابية التي لا تعترف الجامعة بها، وكل من يفكر في توزيع بيان طلابي أو استنكاري لاحق؟”.
بهذه التساؤلات فتح أحد الناشطين الطلابيين الحديث عن موضوع الطالبة بكلية إدارة الأعمال نور حسين، التي باتت تشغل الأوساط الطلابية محليًا، بعد أن اتخذت إدارة جامعة البحرين بحقها قرارًا تأديبيًا يحرمها حق التخرج من الجامعة هذا العام، على رغم حصولها على درجات عالية، بعد أن قررتْ إلغاء تسجيلها في مقررات الفصل الدراسي السابق كاملاً.
بدأت حكاية نور حسين بتوزيع بيان طلابي في جامعة البحرين موقّع من قائمة الوحدة الطلابية، وهي قائمة طلابية شأنها شأن الكثير من القوائم الطلابية الموجودة في الجامعة الوطنية، والتي لا تعترف الجامعة بوجودها، حيث تنشط هذه القوائم غالبًا فترة الانتخابات، وتعود إلى الهدوء بعدها.
البيان الذي كتب بخليط بين اللغتين الفصحى والعامية لم يغفل في مضامينه ما احتواه عنوانه من هموم طلابية تنخرط تذمرًا واستياءً من قوانين جامعة البحرين، التي من بينها إنشاء كلية التعليم التطبيقي، وازدحام التسجيل في كل فصل، وتقليص صلاحيات مجلس الطلبة، ليفتح باب مطالبه بالأخذ بما تعيشه مملكة البحرين في ظل المشروع الإصلاحي، ووجوب انعكاس ذلك على البيئة الجامعية وتوسيع هامش الديمقراطية، وإفساح المجال لحرية العمل الطلابي.
على رغم أنها سبق لها الترشح في انتخابات مجلس الطلبة، إلا أن نور لم تكن تعلم في الوقت ذاته بقرار الجامعة بحظر توزيع المنشورات الطلابية، وهو الموضوع الذي استدعتها من أجله لجنة تحقيق ضمت مسؤولاً من دائرة الإرشاد والتوجيه وأحد أساتذة الحقوق ومقررة اللجنة؛ لتطرح على نور عددًا من الأسئلة المتعلقة بالبيان، وقائمة الوحدة الطلابية، وسألوها عن مدى تأييدها البيان؟ وعن انتماءاتها الفكرية والآيديولوجية وتلك المتعلقة بالجمعيات السياسية الأخرى خارج الجامعة.
هذا الموضوع أعلاه اعتبرته نور – التي تشع شبابًا كمسماها – تدخلاً في شؤونها الخاصة، فتوجهاتها السياسية لا تعني الجامعة بقدر ما تعنيها التزامها كطالبة بقوانينها وقواعدها، ليتم على خلفية ذلك استدعاؤها بعد عدة أسابيع لتوقيع محضر تحقيق يقول ما لم تقل، ولتسأل بكل براءة مقررة المحضر عن الجزاء الذي يترتب على عدم التوقيع على المحضر؟ فكان الرد: لا نعلم.
توقعت نور أن تنتهي الحكاية عند هذا الحد، توقيع انذار وإجراءات ورقية، فالموضوع برمته لا يستحق الكثير، ولكنها فوجئت بعد نحو شهرين باستلامها رسالة جزاء تفيد حرمانها من درجات الفصل الدراسي الذي قضته وعدم احتسابه ضمن فترة التسجيل؛ ما يعني أن عليها إعادة دراسة المواد وتأخر تخرجها لفصل دراسي آخر، وهو مارفضته نور، فسارعت في كتابة رسالة إلى رئيس الجامعة، تلتمسه النظر في أمرها، فمخالفتها أحد قوانين الجامعة بتوزيع منشور طلابي لا يستدعي هذا الجزاء الشديد، وخصوصًا مع عدم معرفتها المسبقة بعدم قانونية الموضوع.
تقول نور لـ “البلاد”: “وعدني رئيس الجامعة خيرًا، ودعاني إلى الاستمتاع بعطلتي، وخصوصًا أنه قد مر على الجامعة حالات شبيهة بقرارات إدارية بعقاب شديد تم تخفيضه لاحقًا، غير أني حين ذهبت لاستلام جدولي الدراسي الأخير زرتُ رئيس قسمي ليخبرني بالصاعقة: تثبيت القرار عليّ. لماذا تساءلت؟ ليأتي الجواب باردًا كالعادة: لأنكِ لم تبدِ ندمًا وأسفًا على ما فعلته، وأنكِ أصررتِ على رأيك”.
نور لم تصر على رأيها في مخالفة قوانين الجامعة، وأكدت أنها لن تقوم بتوزيع البيانات من جديد، ولكنها تصر على رأيها في ما يتعلق بالأخطاء الموجودة في الجامعة، والتي يعاني منها الطلبة وتلامسهم مباشرة، والتي تضمن البيان جزءًا مهمًا منها.
وبذلك تم تطبيق القرار رقم 6 على نور، والذي جاء فيه “جاء ذلك بعد قيامها بتوزيع أوراق تتضمن إساءات الى الجامعة وإدارتها وتتضمن اثارة الطلاب ضد انظمة الجامعة، والطالبة المذكورة لم تبدِ ندمًا او أسفًا لمضمون هذه الاوراق بل ابدت اصرارها على اصدار اوراق مماثلة. لذا اوصت لجنة التحقيق في المخالفات المسلكية خارج مباني الكليات بتطبيق الفِقرة (ط) من المادة (3) من لائحة المخالفات المسلكية لطلبة جامعة البحرين ولذا اوصت لجنة التحقيق بإلغاء تسجيل الطالبة في مقررات الفصل الدراسي الثاني 2008/2009 استنادًا الى المادة (3) الفِقرة (ط)”.
يبدو أن هذا القرار أثار عددًا من طلبة الجامعة وكلية إدارة الأعمال تحديدًا، إضافة إلى مجموعة أخرى ليسوا من طلاب الجامعة، والذين وجدوا كلهم في قرار الجامعة إجحافًا بحق طالبة جلّ ما فعلته هو توزيع بيان طلابي يتضمن شيئًا من هواجس الطلبة ومشكلاتهم، فقد أنشأ مجموعة من الشباب مجموعة على موقع الفيس بوك سجل فيها حتى أمس أكثر من 550 شخصًا، كلهم يناصرون قضية نور التي باتت تؤرقهم، وتجعلهم غير قادرين على التنبؤ بتصرفات الجامعة تجاه الطلبة، وخصوصًا الناشطين في العمل الطلابي.
كما انتشر الموضوع في غالبية المنتديات الطلابية الخاصة بجامعة البحرين، والجامعات الخاصة والمنتديات البحرينية العامة أيضًا، وتفاعل معها العديد من الجمعيات الشبابية والحقوقية والشباب والطلبة ممن يرون أن نور لا تستحق هذا العقاب الشديد، وأن على جامعة البحرين مراجعة هذا القرار وتخفيفه على نور، ولاسيما أنه تبقى لها فصل دراسي واحد على التخرج.
 
صحيفة البلاد
10 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

جامعة منع التعبير

العقاب القاسي الذي أنزلته جامعة البحرين بالطالبة نور حسين لم يكن مستغرباً من جامعة لا تزال تعيش في عهد ما قبل الإصلاح الديمقراطي، ومازالت تطبق لوائح ممنوعات وجزاءات “ولوائح مخالفات مسلكية” هدفها منع النقد وكبت حرية الرأي والتعبير وقتل الإبداع، وهي أسس يقوم عليها التعليم الجامعي في الدول الديمقراطية.
فالديمقراطية هي سلوك وممارسة حياتية، اي أنها تشمل كافة أوجه الحياة ومجالاتها ابتداء من البيت مروراً بالمدرسة والنادي والجامعة ومكان العمل والشارع، وإنها لا تقتصر على انتخابات مجلس النواب والتعبير عن الرأي وتقديم الانتقادات والمطالب من خلاله…
لكن جامعة البحرين ومنذ إنشائها كانت دائماً مكاناً لكبت حرية التعبير وإيقاع العقاب على كل من يقول رأيا لا يعجب إدارة الجامعة أو وزارة التربية والتعليم، أو حتى يطالب بالإصلاح والتطوير لأمور تعليمية وإدارية وتنظيمية في اطار مباني الجامعة، وان هذا المنع والعقاب طبق مرات عديدة في الماضي وعلى الأساتذة والطلاب في الوقت نفسه…
فالأستاذ المعلم والقدوة والمسؤول عن نقل خبرته وتجارب الآخرين من أفراد وهيئات ودول، والذي درس وعاش في أوروبا وأميركا ودول آسيا مثل اليابان والهند، هذا الأستاذ عليه ان يكتم معرفته أو يقدمها مشوهة لطلبة في جامعة البحرين إذا ما تقاطعت هذه المعرفة مع نقد الأوضاع داخل الجامعة، أو تناولت السياسة التعليمية أو تعرضت للديمقراطية القائمة في البلاد بالنقد…
والطلاب الذين يفترض ان يدرسوا الديمقراطية والمبادئ التي تقوم على تجسيد مبادئها، وعلى الأخص مبدأ حرية الرأي والتعبير، والذي لا يقوم على كفالة حق التعبير فقط إنما يمتد إلى احترام الرأي والرأي الاخر، ومبدأ التعددية الذي يسمح للطلبة بتشكيل القوائم والوحدات والتنظيمات الطلابية المختلفة، بهدف التدريب على الديمقراطية وإيصال آرائهم إلى إدارة الجامعة من خلال الهيئات المنتخبة التي تسعى إلى الانتخاب ويجب ان تحوز اعتراف واحترام ودعم المسؤولين في الإدارة.
فالجامعة ليست مكاناً للدراسة الأكاديمية فقط، بل إنها منارة ينعكس إشعاعها على المجتمع، ويتفاعل مع ما يدور فيه من تطورات ومتغيرات، فحرية المجتمع من حرية جامعاته، وتقدم ورقي المجتمع من تقدم ورقي الفكر في الجامعة، ونمو وتعمق الديمقراطية في المجتمع ينبعان وينطلقان من الجامعة، وفي الدول الديمقراطية العريقة تفخر الجامعات بأنها خرجت اشهر السياسيين واكبر الزعماء الذين كانت لهم بصمات قوية في التغيير والقيادة في دولهم.
والجامعة في كل دول العالم الديمقراطية هي هيئة مستقلة عن الدولة شانها شان التعليم الذي لا يجب ان يخضع لسياسة أو سلطة الدولة، إنما يسبح في فضاء حر ومنفتح، فالتبعية للدولة قاتلة للتعليم، وكابتة للإبداع في الجامعة، فالتبعية التزام بسياسات وتوجهات معينة تخدم مصلحة المتبوع وتلمع انجازاته وتغطي على أخطائه، وبالتالي تحبط الرغبة في التغيير والارتقاء نحو الأفضل، والاستقلالية بالنسبة للتعليم وللجامعة تكون حصناً للإبداع وللبحث العلمي وللتطور المجتمعي ولسيادة الفكر والسلوك الديمقراطيين، وهي كلها غير موجودة عندنا، بل ان التخلف هو الموجود وهو المدعوم في الجامعة وفي التعليم عامة.
ان قضية الطالبة نور ما هي إلا شمعة أنيرت في ظلام جامعة البحرين، وظلام التعليم، وسبقتها شموع أخرى حوربت وعوقبت وأجبرت على الانطفاء، بعد ان طلب منها الاعتذار عن رأي صائب قالته، وحق أصيل طالبت به، وحرية مكفولة دستورياً مارستها، وديمقراطية نادى بها النظام السياسي وأعلن أكثر من مرة تمسكه بها والالتزام بمبادئها…
وانه مادام الوعي الديمقراطي لم ينتشر في أجهزة الدولة بين المسؤولين فيها، ومادامت الجامعة لا تزال واحدة من الهيئات والأجهزة غير الديمقراطية، ومادامت الديمقراطية شكلية، والإصلاح الديمقراطي يراوح مكانه، فان شمعة نور حسين لا يجب ان تنطفئ، وان تتبعها شموع تنير طريق الحرية والديمقراطية…

صحيفة البلاد
10 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

نور جامعة البحرين

 أدري على أي أساس انتهى أعضاء لجنة التحقيق مع طالبة جامعة البحرين نور حسين ليحرموها من فصل دراسي كامل، الطالبة التي كانت تفكر في مواد الفصل الجديد باتت ستدرس المواد الدراسية التي أنهتها بنجاح، والسبب رسالة بسيطة وعفوية لفتاة صغيرة تفكر بعقل كبير في إصلاح الجامعة.
نور حسين التي تبكي كلما حدثها الصحافيون عن مشكلتها بحاجة لشجاعة قرار يرفع الظلم الذي تعرضت له، ليس تصحيح أوضاع نور بصعب إن كانت جامعة البحرين تدرك أهمية ألاّ تتحول الجامعة لما يشبه الثكنة العسكرية، ولقد درسنا فيها، وتحدثنا عن أخطائها، وكتبنا الرسائل الاحتجاجية التي لم تكلفنا ما تكلفته نور هذه المرة.
اقرؤوا رسالة نور حسين جيدًا، فهي لا تخيف، ولا تطالب بعصيان أو مظاهرات غير قانونية، رسالة بريئة لفتاة تحلم بجامعة متطورة وحديثة وبها متسع من الحرية التي هي ثقافة من واجب الجامعة بثها، وتأصيلها في الأجيال كافة.
في الوقت متسع لإعادة البسمة لهذه الفتاة الصغيرة، وبإمكان إدارة الجامعة إعادة ابنتها نور – وإن أخطأت – لوضعها الطبيعي، فالتراجع عن الأخطاء فضيلة، وليس في الإصرار على الظلم، أية شجاعة.
 
صحيفة البلاد
10 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

روسيا والحرب العالمية الثانية (1-3)

الهوية والتاريخ الوطني
ما من جدل شهدته الساحة السياسية والثقافية داخل أي بلد من بلدان العالم حول كتابة تاريخه الا وكانت اشكالية تحديد هويته الوطنية حاضرة فيه بصورة أو بأخرى، فالتاريخ الوطني، وفي عداده تراثه وآثاره الحضارية، هو جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية لأي شعب، ولا يمكن فصله عن هذه الهوية، لا بل يمكن القول هو المحدد لها بكل مكوناتها السياسية والثقافية المشتركة.
وفي بعض المراحل التاريخية الصعبة التي تمر بها الشعوب والامم تتعرض هوياتها الوطنية، وكذا تاريخها الوطني لمحنة التشوش والضبابية وتتعرض ثوابتها الوطنية في الهوية والتاريخ للاهتزاز والتشكيك، ويؤدي ذلك الى بلبلة قطاعات واسعة من الرأي العام الشعبي.
ولعل روسيا هي واحدة من أبرز البلدان الاوروبية الكبرى العريقة التي تعرض كل من هويتها وتاريخها الوطنية لمحنة من الضبابية حول مرتكزات وثوابت هذه الهوية وذلك على اثر انهيار النظام السوفيتي، ففي سنوات العقد الأخير من القرن الماضي التي اعقبت مباشرة ذلك الزلزال السياسي الكبير الذي ضرب روسيا وفي ظل ضبابية موجات الغبار المتتالية الناجمة عنه عمدت القوى اليمينية التي عملت على التعجيل بتقويض الاتحاد السوفيتي بتشجيع ودعم من القوى الامبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الى شن حملة مسعورة قوامها قاعدة خلط الحابل بالنابل فيما يتعلق بسلبيات وأخطاء النظام الشمولي السوفيتي السابق، فجرى التشكيك في كل منجزاته الوطنية الكبيرة جملة وتفصيلا، جنبا الى جنب مع تضخيم اخطائه وانحرافاته الصغيرة او التي هو غير مسؤول عنها، ومن ثم ادراجها ضمن الاخطاء والانحرافات الكبيرة التي لا خلاف عليها موضوعيا.
وكان لتوجهات وسياسات اول رئيس روسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ألا هو بوريس يلتسين بما عرف عنها من تزلف نحو الغرب وأمريكا وحقد شديد على النظام السوفيتي السابق.. نقول كان لتلك السياسات دور في تعرض روسيا تاريخا وهوية لمحنة البلبلة والتشكيك في ثوابتها وركائزها المستقرة المسلم بها إذ طاول التشكيك والتشويه ليس المنجزات السياسية الكبيرة للعهد السوفيتي السابق بل امتد التشويه المغرض المتعمد ليطاول حتى المنجزات العلمية والثقافية والابداعية التي تحققت في ذلك العهد على امتداد ثلاثة ارباع القرن (1917-1991) والتي شهد بها كل مؤرخي وساسة العالم الموضوعيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية والدينية.
وبعد سنوات التسعينيات الضبابية التي افضت الى تقزيم روسيا والنيل من كبريائها الوطنية وهيبتها الدولية كدولة عظمى جبارة طارت السكرة وحلت محلها الفكرة فقد ادرك العديد من ضحايا تلك الحملة التشويشية السامة المغرضة في الدولة والنظام الجديد خبث هذه الحملة التي لم تقتصر على الطعن والتشكيك في منجزات النظام السابق، بل عرضت كرامة وهيبة الدولة الروسية وشعبها للاهتزاز، كل ذلك وهذا يعد حضاريا من اعرق واعظم الشعوب الاوروبية، ومنذ اوائل العقد الحالي مع تولي الرئيس السابق فلاديمير بوتين رئاسة الدولة تبذل محاولات لاعادة الاعتبار لتاريخ روسيا وهويتها الوطنية وفق مقاربة منهجية تنشد التوازن والموضوعية فيما يتعلق بوقائع وأحداث التاريخ الروسي الحديث التي جرت وتجرى محاولات عبثية لتشويه حقائقها.
ولعل من أبرز الاحداث التاريخية الكبيرة المعاصرة التي يثور منذ سنوات قليلة جدل حول موقف ودور روسيا فيها الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي قدم خلالها الشعب السوفيتي تضحيات هائلة لا تضاهيها تضحيات دول الحلفاء الأخرى (بريطانيا وفرنسا وامريكا)، وذلك دفاعا عن أراضي وطنه ومن اجل دحر الغول النازي الذي كان يهدد بتوسعه شعوبا عديدة خارج اوروبا، لا الشعوب الاوروبية وحدها.
وإذ تفجر هذا الجدل محليا واوروبيا ودوليا مؤخرا مع حلول الذكرى الـ 70 لاندلاع الحرب، وهو جدل لم يعد محصورا على الصعيد الرسمي، بل بفضل الصحوة السياسية من غبش ضبابية التسعينيات العجاف تشعر النخبة السياسية والثقافية الروسية بأنها معنية به، وفي عدادها مؤرخو روسيا حيث بات الجميع يشعرون بالغيرة والنقمة من تعريض تاريخهم الوطني والمنجزات العلمية والحضارية التي حققها شعبهم العظيم للتشويه أيا يكن النظام السياسي الذي تحققت في ظله، فإنه يخطئ من يظن ان الجدل الدائر حاليا، سواء حول الدور والموقف السوفيتيين في الحرب العالمية الثانية ام حتى حول هوية روسيا واعادة كتابة تاريخها الوطني، لا يعنينا كعرب من قريب أو بعيد، فأولا: لروسيا والشعوب العربية دور مشترك في دحر النازية وإن تنكرت بريطانيا لهذا الدور وخذلت الشعوب العربية فيما أوفت بوعدها للصهيونية بتسليمها فلسطين، وثانيا: ثمة أبعاد ودروس ينبغي الاستفادة منها في الجدل الحالي الذي تشهده روسيا حول هويتها الوطنية لأن هوياتنا الوطنية والقومية مازالت تمر بمحن مشابهة لما مرت وتمر به روسيا.

صحيفة اخبار الخليج
10 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

الملكية والمحتوى السياسي

في احتدام الصراعات الاقتصادية والسياسية في العالم الثالث الذي يحاول الخروج من الطبيعة الهجينة الاقتصادية لأنظمته تبقى الملكية “العامة” محور تلك الصراعات.
غموض الملكية من غموض التطور السياسي، حيث تواصلُ الدولة دورَها التقليدي القديم بالهيمنة على الأرض، ثم الموارد، ثم الثقافة.
إن أعمار الملكيات الحكومية تتراوح مع نشوء نقيضتها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فهي تغدو حاضنة للجمهور العامل، الذي يجد في الملكية العامة جانباً أفضل من الملكية الخاصة تلك، ومن هنا نشوء الأبويات الاقتصادية الشرقية التي تتمظهر حيناً بالدولة الوطنية وحيناً بالدولة الاشتراكية، وهو أمر يُسرع في بعض الجوانب من اللحاق بالغرب كما يضيف مشكلات كبيرة أيضاً.
تنبثق الملكية العامة من الأدوار العتيقة للدول الشرقية، فنجد أن الأرض هي الملكية الأساسية لانبثاق الرأسمالية الحكومية، لكنها لا تـُؤخذ كبضاعةٍ بشكل كلي، بل كملكية تابعة للحكومة، فهي توزعها أو تصادرها أو تحولها لأملاك “عامة” كيفما تحدثُ السيطرة السياسية.
تساعدها على ذلك الجذور القديمة حيث وجود الملكيات العامة للآبار وللمراعي، وبالتالي الغياب العميق للملكية الخاصة الزراعية، التي ظهرت في بعض الدول الشرقية الكبيرة خلال القرنين الماضيين فقط، كما ظهر ذلك فيما يسمى إصلاحات محمد علي في مصر.
كان وجود الملكيات الجماعية للأرض الزراعية في الشرق من أهم أسباب استقرار الزراعة ومحاصيلها، ومن أهم أسباب الجمود الاجتماعي كذلك، فهو شكلٌ يؤبدُ الملكية التقليدية حيث لا تقوم الحكومات في المراكز “الوطنية” أو في مركز الخلافة بتغيير نمط الزراعة وتطويره أو تبديل حياة المزارعين، انها فقط تكتفي بـ “الخراج” حتى سمى أحدُ الباحثين هذا النمط الإقطاعي اقتصاد الخراج.
ولهذا حدث في قرون الحداثة العربية الأولى هذا الاقحام للملكية الخاصة في الريف، عبر هيمنة الدول المحلية أو الغربية، وقدمت قوى يسارية عديدة مشروعات تقوم على الاحتفاظ بهذا الشكل التعاوني الإنتاجي في الزراعة، وتطويره لمقتضيات الحداثة.
كان إلحاق الملكية الزراعية بالدولة قد تم بأشكال عديدة إذًا، عبر التملك الخاص، أو عبر الاقتصاد الحكومي العام، وهو ما شكل جذور التدهور المستقبلي الكبير للزراعة، خاصة في مواجهة نمور التغلغل المتعددة، وأدى إلى تدهور البيئة الزراعية، وتخفيض أجور العمال للانتقال للمدن، وخلق فوائض سكانية جاهزة للحروب والعمل المنخفض السعر واستغلال الأرياف والبوادي للهو والصيد.
حولت الدولُ الأرضَ وخاماتها وإنتاجها إلى تابع لها، لأنها كانت الثروة الأساسية في الزمن السابق، لكن مع تغير الثروة وانتقالها للمواد الخام الصناعية، انتقلت سيطرات الدول إليها، وأخذت الأرضُ الزراعية تفقدُ أهميتها المركزية. وهو الأمر الذي أسهم في تدهور مكانة السلع الزراعية وانحدارها، خاصة مع عدم تحديث الأرياف.
هذا قد وضع السيطرة التقليدية على التطور الرأسمالي الشرقي المتنامي منذ البداية، فجعل من احتازَ الأرض سابقاً يحتاز النفط والحديد والذهب الخ.
تنامت ثرواتُ من يحكم، تبعاً لسيطرته على المواد الخام، ومدى قيمها في السوق العالمية، ومع غياب الديمقراطية فإن الثروات معظمها شكل “الرأسماليات الخاصة”، فإذا كانت هناك رقابة شعبية، أو أن الحكم قد انبثق من ثورة، فإن تحجيم الرأسمالية الخاصة داخل الحكومة أمر ممكن، وهو الأمر الذي يوسع الملكية العامة حسب حضور القوى العمالية والاشتراكية داخل النظام، لكن ذلك مؤقت، فقوى الاستغلال أقوى من قوى الشراكة، وغياب الحريات يشجع على الفساد، وما تلبث الملكيات العامة أن تـُنخر ويتحدد ذلك اقتصاديا في الانتقال من زمن الوفرة إلى زمن الاستدانات الحكومية المتعددة ثم يأتي الافلاس الاقتصادي في نهاية المطاف.
إن الملكيات العامة تغدو مشكلة محورية مع تتابع الانتقال من الحياة التقليدية إلى الرأسمالية الحديثة، فيظهرُ الخلافُ على الأملاك الحكومية نفسها، حين تنشق الدولة الكبيرة إلى دول، كما حدث في روسيا ودول الرابطة على ممتلكات الاتحاد السوفيتي السابقة، وكما يجري من خلاف على ممتلكات العراق النفطية، وكما يحدث من سلب علني للقطاعات والأملاك العامة في العديد من الدول. وحين تثور القوميات والطوائف في بعض الدول بسبب الموارد العامة وسوء توزيع فوائضها إيذاناً إما بفك الارتباط بينها وإما بتشكيل وحدة قومية أو وطنية على أسس جديدة.
لكن نقيض الملكية الحكومية هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فهذه الملكية المتقزمة خلافاً للملكية العامة تصعدُ وتتوسعُ، فالملكية العامة تتوقفُ عن النمو في لحظة زمنية معينة متعددة الأشكال بين الدول الشرقية، حسب تطوراتها الخاصة، وهذا التوقف هو الذي يصعدُ النقيض أي الملكية الخاصة، وكانت الطواقمُ الإدارية وهي تشتغلُ للملكية العامة تفكر في كيفية تنامي أملاكها الخاصة، وعبر الخطط الاقتصادية والإنشاءات الوطنية الباهرة والمفيدة في العديد من الجوانب تزدهرُ الجيوبُ الخاصة، فيتم نقل الفوائض بشكل مستمر من جهة إلى جهة أخرى، حتى تبدو الفوارق متسعة وكبيرة وتزداد بين الضفتين المتباعدتين، كما تتدهور الخدمات الحكومية بشكل دائم وتقام إلى جوانبها الخدمات الخاصة التجارية.
كما يتم هنا الاستفادة من ملكيات الأرض حسب وضع كل دولة، فتـُلحق بالمشروعات الحكومية الخاصة.
لا تتيح تطورات الملكية الخاصة المنبثقة من الملكيات العامة مستويات ديمقراطية كبيرة، فقد اعتمدت الدولُ على الدين كشكل تغيّب بهِ وعي الناس، أو على أي إرث سياسي يستخدم في عمليات تلميع من جهة وإطفاء من جهةٍ أخرى، وهي كلها أفكار تحنيطية للوعي تمنعه من رؤية الواقع، ولهذا فإن الليبرالية تظهر بشكل كسيح، عاجزة عن التحول إلى ميدان السياسة، ونظريات الغرب التقنية الثقافية تتحول إلى سحر آخر.
وليس عجز الليبراليات سوى عجز للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج عن الانتشار والتعمق في مواد الأرض وخاماتها والتوظيف الحديث لبشرها، ولضعف وعي العمال تجاه الملكيات العامة. ومن هنا فإن الايديولوجيات المستوردة تبقى بلا قواعد مادية تحملها للناس.

صحيفة اخبار الخليج
10 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

بلدي أم نيابي؟

طُلب مني مرة إبداء رأي صحافي في أمر النواب أو المرشحين الذين يزمعون تغيير دوائرهم الانتخابية التي يقطنون فيها أو يمثلونها إلى دوائر أخرى. من طَرح الأمر صاغه على شكل تهكمي: كيف تفسرون” تنقز” النواب والمرشحين من دائرة انتخابية إلى أخرى. وبعيداً عن الطموحات التي تداعب المرشحين المحتملين في أن يصبحوا نواباً، أو النواب الحاليين في أن يبقوا نواباً، مما يحملهم على البحث عن دوائر أخرى يجدون فيها فرصاً أفضل، فان الأمر يتصل بأحد أوجه الخلل الكبيرة في النظام الانتخابي المعمول به حالياً، والذي قلنا حوله الكثير، وأقمنا حوله ورش عمل وحلقات بحث وندوات، ولدينا رؤية متكاملة حول نظام انتخابي ديمقراطي بديل له. أذكر أن النائب في مجلس 1973 محسن مرهون نقل دائرة ترشيحه من رأس رمان إلى منطقة القضيبية والعدلية في آخر أيام الحملة الانتخابية، ومحسن مرهون ليس من أبناء رأس رمان ولا من أبناء الحورة والقضيبية، يومها لم يقل أحد أن محسن ليس من أبناء هاتين المنطقتين، ولم يمنعه القانون من أن يغير دائرة ترشيحه في آخر لحظة، ففي إطار تفاهم وطني سحب ترشيحه من الدائرة لصالح المرشح الوطني الآخر رسول الجشي، حيث كان للدائرة التي تقع فيها منطقة رأس رمان نائبان، هما المرحوم خالد الذوادي عضو كتلة الشعب ورسول الجشي عن كتلة الوسط المستقلة. ولسنا في حاجة للتذكيربما كتبناه هنا مرةً بأن محسن مرهون الشيعي فاز، يومها، في دائرة سنية بالكامل، محمولاً على أصوات ناخبي تلك المرحلة الذهبية الذين كانوا يصوتون للأفكار والبرامج لا للمذاهب والفتاوى مثلما فاز زميله السني خالد الذوادي في رأس رمان الشيعية. وعودة لموضوعنا فان نظامنا الانتخابي الحالي الذي قسم البحرين إلى أربعين دائرة صغيرة يمثلها نائب واحد قد ضيق الخناق على أي منافسة انتخابية جدية ذات طابع سياسي، وهو بإصرار المشرع الذي وضعه على أن يكون المرشح من أبناء الدائرة المعنية بالضرورة، حوّل نواب البرلمان إلى نواب بلديين، لا تختلف مهامهم وعلاقتهم مع ناخبيهم مع أبناء دائرتهم عن مهام النائب البلدي، فيما المفروض في عضو البرلمان أن يكون ممثلاً للشعب كله لا لأبناء الدائرة الصغيرة التي يمثلها، فالقوانين التي على النائب أن يشرعها لا تخص أبناء دائرته وإنما تتصل بكامل البنية التشريعية للوطن برمته لا حاضراً فقط وإنما مستقبلاً أيضاً، والنائب حين يتوجه لمساءلة وزير فلا يسائله لأنه تخلف عن رصف شارع أو مد خط كهربائي في دائرته، وإنما عن مجمل أداء الوزارة التي يقف الوزير على رأسها. نظام الدوائر الأربعين الصغيرة الراهن الذي يشترط في النائب أن يكون من أبناء الدائرة هو أحد أسباب ظاهرة نواب الخدمات والذين سيتكاثر عددهم مستقبلاً، وسينافسون أعضاء المجالس البلدية في مهامهم، فلا تعود تعرف الفروق بين مهام النائب البرلماني والنائب البلدي، وبالتالي يفتقد العمل النيابي أحد أهم وجوهه وشروطه في أن تكون دعاماته من نواب أكفاء، سياسياً وقانونياً ورقابياً، ليحل محلهم نواب يوزعون المكيفات وأكياس السكر والأرز ويدفعون فواتير الكهرباء والماء المتخلفة إذا قطعت الدولة الخدمة أو هددت بقطعها. والفرق كما نرى كبير وشاسع.
 
صحيفة الايام
10 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

اختناق الدول الصغيرة في الخليج

يقول بعض علماء الاجتماع والسياسة في العالم ان أي دولة يكون عدد سكانها أقل من ثلاثين مليونا قد تختفي عن خريطة الأرض.
مصروفات الدول ومسئولياتها تتزايد بصورة هائلة، وتتعرض الدول الصغيرة لصعوباتٍ جمة متفاقمة، حتى الدول الكبرى الهائلة في عدد السكان ذات الموارد الأسطورية والمتسعة المساحة تواجه أزمات اقتصادية خانقة، فيما دولٌ أخرى في العالم الثالث أعدادها أكثر من ثلاثين وخمسين مليونا تتعرض خريطتها للاهتزاز والانقلابات السياسية والحروب.
فماذا نقول نحن الدول الصغيرة التي تكاد أن تظهر بالمرآة المكبرة على خريطة العالم؟
ومجلس التعاون لدينا الذي يقتربُ بصعوبةٍ شديدة من رقم ثلاثين مليون نسمة له سنوات طويلة مديدة مريرة في التقارب والتعاون كسلحفاةٍ تمشي الهوينى في سباقِ المارثون العالمي للجري.
إن الدولَ الصغيرة في الخليج العربي عاشتْ عقوداً تفتخر وتتباهى ببعضِ الدخول الكبيرة التي تزايدت لديها فجأة، وأحدثت دواراً في الرأس، وعفوية شديدة في البناء وإخراج الأموال وتشغيلها بما يحقق أقصى الأرباح في أقل مدة.
ودورة الرأس هذه أدت إلى الكثير من الضياع المالي والصرف على حروب الآخرين وصراعاتهم والتهام البعض للكثير من الثروات نجد قصصها التي تعود لألف ليلة وليلة في أمريكا وانجلترا وتايلند والفلبين وغيرها.
واستغلت الدولُ الغربية ذلك عبر الصلات السياسية التاريخية غير المتكافئة بين الجانبين، وجعلت النفط كأنه قد تفجر في أراضيها وليس في دول تبعد عنها قارات، فتوجهت دول الخليج إلى عفوية البناء الذي كان توسعاً شديداً في المساحة بحيث مرت العقود القليلة واكتشفت انها اختنقت في سواحلها الضيقة وملأت بلدانها بعمالاتٍ أجنبية محدودة القيمة التقنية والإبداعية، وبأشكال كثيرة ليست اقتصادية بل تطفلية وتسولية.
كثافة هائلة من التمدد وحصالات صغيرة مملوءة بالآنات الصغيرة واختناقات مرورية كثيفة، وأحياء عادت إلى زمن الكوليرا وغابات من النخيل تم سقي البحر بها، وألف إشارة مرور في كل شارع، والطرق صارت وقوفاً، فيما توجد الصحارى الشاسعة التي تكفي واحدة منها لجمع كل هذه الحشود المختنقة المتصارعة على ضلع خروف وعمود كهرباء وموقف مروري مثل الكبريت الأحمر.
ثم حدثت ابتكارات كبيرة لمواجهة هذه الظروف،
أن تجرى زراعة القمح في السودان لمصلحة الجزيرة العربية والبطاطس في ماليزيا والطماطم في الهند.
إن الدول الصغيرة على ضفاف الخليج هي التي تعاني هذا الانحصار المتفاقم الذي تواجهه بدوس المزروعات والأسماك، وبناء المنتجعات الباذخة للاهين والمتخصصين في حل الكلمات المتقاطعة وفوازير رمضان.
ورغم وجود مجلس التعاون الذي ينبغي أن يناقش مصير هذا الزحام الصعب على ضفاف الخليج ويحول قضايا العمالة والزراعة والصناعة والإنتاج المشترك إلى قضايا مصيرية يومية ومن خلال وجهات نظر جديدة وليس من خلال اقتصاديين متخرجين من زمن الخمسينيات من القرن الماضي.
وإذا كانت علوم هؤلاء الاختصاصيين والباحثين تسمح لهم بالأنظار فإن الأسماك هربت من الخليج ولجأت للبحر العربي بعد أن اختنقت من مياهه بكل الملوثات فيه وأضيفت الأسماك للكبريت الأحمر.
إن اختناق هذه الدول الصغيرة ليس فقط لمساحاتها بل كذلك لسياساتها الطموح غير الواقعية وغير القارئة لهذه المساحة ولإمكانياتها ومع غياب الخطط الاقتصادية والجغرافية والسكانية المتضافرة، ومع غياب التعاون والتمدد خارج هذا الشريط البحري الضيق.
لماذا لا تستطيع دول مجلس التعاون الاتفاق على النمو المشترك والمدن المشتركة وبناء سكك حديد مشتركة؟
وهذا الضغط شرق الجزيرة العربية، وشرق مجلس التعاون ينزل بقوة في النقطة الوسطى منه وهي البحرين، فتضيف لمحدودية الدخل فيها وقدوم العمال الأجانب بوفرة لا تتناسب مع اقتصادها وظروفها ومواصلاتها، صغر حجمها وعدم تناسب خريطتها البنائية التاريخية والاقتصادية، وهي ماضية في سبيلها لا تراجع ولا تعيد النظر.
فكان على الدولة الصغيرة الحجم، القليلة الدخل، الكثيرة الإدارات، أن تتحمل مستوى معيشة منطقة غنية ذات حياة مرفهة، استفادت هي من ضيق مساحتها البحرية خاصة، من دون أن تستفيد البحرين من ضخامة براريها الفارغة، فتعبت من جميع النواحي.

صحيفة اخبار الخليج
9 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

ضجيج الروح

منذ زمن لم أقرأ شعراً مترجماً بهذا الجمال الذي عليه مختارات الشاعر الأفرو أمريكي ي. اثيلبرت ميلر التي وضعتها المترجمة وصال علي جعفر العلاق، وصدرت في كتاب أنيق عن مشروع “كلمة” للترجمة بأبوظبي، بالعنوان الذي تجدونه أعلى هذا المقال. ذكرني هذا الكتاب بمجموعة شعرية ضمت باقة من قصائد الشعراء الأمريكيين الزنوج ترجمها احمد الشافعي بعنوان: “وجه أمريكا الجميل”. على خلاف تلك المجموعة فان وصال العلاق اختارت شاعراً واحداً فقط، هو من أجمل وأعذب شعراء أمريكا السود، ولم تكتف بديوان واحد من دواوينه، وإنما انتقت بعناية وموهبة وذائقة مجموعة من قصائده موزعة على مجموعاته الشعرية الخمس. تسود في قصائد الشاعر الرؤية التقدمية للشاعر، المناهضة للعنصرية وذهنية الغزو والقهر، والمنحازة لقضايا العدل والحرية والتوق الإنساني للأجمل، كأن الشاعر بذلك يذكرنا بالشعراء المخلوعين من قبائلهم لأنهم خرجوا على إجماع الزيف، للدرجة التي تجعله في أحد المواضع من الكتاب يكاد يعلن براءته من الانتماء لأمريكا، بسبب صورتها العدوانية. سيصادفنا هذا المعنى في أكثر من موضع، ولكنه يصدمنا بصراحته التي لا تعرف المواربة في هذا النص: “في كوبا، سألتني سيدة سمراء البشرية، إن كنت من انغولا، أحاول أن أخبرها، وبما لا أجيده من الاسبانية، أنني أمريكي، فتجد السيدة هذا الأمر صعب التصديق، أحيانا، أشعر، أنا، بالشيء ذاته”. على غرار الشاعرة فيليس ويتلي، التي انتزعت وهي طفلة من موطنها الأصلي السنغال، فكتبت في ما بعد حكايتها: “منذ نعومة أظفاري، انتزعتني يد قدر بدا قاسياً حينها، من موطني الهانئ الحالم في إفريقيا، روح اختطفت من أبٍ ابنته الحبيبة” فان ميلر يقول في احد نصوصه: “في أوائل العشرينات، جاء قارب بابي إلى أمريكا، وقد عبر عن انطباعاته الأولى بالاسبانية، وبمرور السنين، وعندما نسي اللغة، لم يعد يذكر ما كان قدر رآه حينها”. في مقدمتها للمجموعة، تقول وصال العلاق إن ميلر لا ينشغل بضجيج الحياة فحسب، بل يصغي أيضاً إلى الداخل وحنينه. مع المترجمة كل الحق في ذلك، حسبي أن أدلل على ما تقول بهذا النص الرهيف: “على يدك اليسرى، قرب الإبهام، ثمة جرح سببته ورقة ما، أنا ألحظ تلك الأمور الصغيرة، لأني أحبك كثيراً”.

صحيفة الايام
9 سبتمبر 2009

اقرأ المزيد

تداعيات الأزمة الاقتصادية: حول المرابح والخسائر


كانت عملية إنقاذ النظام المالي لحظة فريدة في التاريخ الاقتصادي، حيث دعا الذين استفادوا استفادة كبيرة من الوفرة الطائشة للأسواق – لنقـُلْ كبار المالية – أولئك الذين بقوا على الهامش إلى التضامن معهم. ومع ذلك، فبالأمس قبل الأزمة، كانت تعتبر إعادة توزيع الأرباح والرسوم (أي الاقتطاعات الإلزامية) التي تيسِّرها، كأسوإ العقبات الحائلة دون الفعالية الاقتصادية. ذلك أنّ قيم التضامن قد تركت المكان تدريجيا لقيم “الاستحقاق” الفرديّ، المقاسة بمقاييس المال.

ومن المفارقات أنّ جزءا من هذا التطوّر يُعزى إلى ديناميتين على غاية من الإيجابية: الأولى، بطء تأثير الديمقراطية، التي بتحريرها للفرد جعلته وحيدا في الآن نفسه، والثانية، تكريس نظام الحماية الاجتماعية، التي جعلت ذلك الفرد، عن طريق تقاسم المخاطر، أكثر استقلالية.

هذا الإحساس بالوحدة وهذه الاستقلالية يجعلان الناس يعتقدون بشكل متزايد أنهم وحدهم المسؤولون، في الأفضل كما في الأسوإ، على مصيرهم الخاص. وهنا يحدث بكل جلاء، قلب للمعنى. فالفرد ليس حرّا ولا مستقلا إلا بسبب القرارات الجماعية المتخذة في أعقاب النقاش الديمقراطي، لا سيما تلك التي تضمن للجميع الحصول على المنافع العمومية، مثل الصحة والتعليم، الخ. والتضامن يبقى متواصلا، غير أنه يصبح مجرّدا إلى درجة أن أولئك الذين حظوْا منه بنتيجة (القرعة) لفائدتهم لا يشعرون بأنهم مدينون له في شيء. جدارتهم وحدها هي التي بوّأتهم إلى ما أصبحوا عليه، وليس ذلك الجزء من القرارات الجماعية هو الذي أتاح لهم تحقيق إمكانياتهم: فالمدارس والجامعات في الجمهورية، على سبيل المثال، لا علاقة لها بـارتقائهم!

وعندما تقاس الجدارة علاوة عن ذلك بالمال، لا كما تحكيه لنا النظرية (لأنها أكثر دقة ورهافة)، بل كما تقدمه الإيديولوجية اللبرالية، لم يعد هناك بالتالي حدّ أخلاقيّ لضبط أهمية الأجر الذي يتقاضاه شخص ما: فإذا ما فاق أجري ألف مرّة أجرك، فذلك لأن جدارتي تفوق ألف مرّة جدارتك. وهكذا فإنه يغدو بالإمكان إعطاء قيمة أصيلة للمال، قيمة جدارتي، وكفاءتي. وتتكفل الطبيعة البشرية – بغرور أو غطرسة أو الاثنين معا – بالباقي، حيث يعتقد الكثيرون بالتحديد أن قيمتهم لا تقدّر بثمن. إن المجال المفضل الذي لا يجد فيه هذا الغلوّ في تضخيم قيمة الذات سوى عقبات بسيطة هو بطبيعة الحال مجال السوق المالية: فالعُملة تمثّل فكرة مجرّدة، وهي “تجريد التجريدات” كما كان يقول هيغل، فالرواتب والأجور يمكن لها أن تكون غير مرتكزة أو منغرسة في الواقع.

لقد بدا (لنا) فجأة وكأنّ القطاع المالي أخذ يكتشف من جديد قِيم التضامن، ويدرك أنّ الاستقلالية ليست إلا وهمية، وأنّ الترابط يكْمُن في النشاط الاقتصادي بالذات. فهل كان ذلك يا ترى بغاية حثّ دافعي الضرائب على قبول عملية إنقاذ البنوك، فحسب؟ نرى اليوم عالم ما قبل (الأزمة) يرجع من جديد وكأنّ شيئا لم يحدث، وكأنّ الاقتصاد لم يجثم على ركبتيه، وكأن عشرات الملايين الإضافية من العاطلين عن العمل في العالم لم يُوجدوا قط أو اختفوا فجأة. بل والأسوأ من ذلك، كأنّ كلّ ذلك كان غريبا عن الأزمة المالية. فالمؤسسات المالية باستئنافها جني الأرباح بفضل حصّة دافعي الضرائب، عادت إلى عادات قديمة كانت ناجحة بالنسبة لها، لكن مُضرّة أيّما الضرر بالنسبة للآخرين.

لا يستوجب هذا إبداء اندهاش أو سخط. فاللعبة الاقتصادية تدفع الجميع لتحقيق أفضل الحصص من الظروف المتاحة. إن إنقاذ المصارف أدّى إلى عمليات دمج لبعضها. لقد كانت، بالفعل، مؤسسات” أكبر من أن تفشل” “too big to fail” ، فما ينبغي أن نقوله اليوم يا ترى وقد زاد حجمها؟ إن قوّتها في السوق بعد الأزمة تضاعفت عن ذي قبل. وهي تعرف أنها لن تتكبّد مخاطر أكبر بسبب تفاقم (الأزمة) وتضخّم حجمها، والتداعيات النظامية التي قد يسبّبها إفلاسها المحتمل. كما أنّها تواجه فوق ذلك اقتصادا (حقيقيا) متعطّشا للقروض بسبب الأزمة نفسها وهي أزمة وضعت عديد الشركات المنتجة في صعوبات، مع العلم بأنّ إفلاس هذه المؤسّسات لن تكون له أيّ تأثيرات نظامية شاملة.

يمثل بيع أدوية يحتاجها الكثير من الناس، في سوق قليل التنافسية، فرصة سعيدة. وما عرفتُ صناعة امتنعت عن الاستفادة من مثل ذاك الوضع. كذلك، يبدو موقف توزيع جزء من الأرباح – كمكافأة – على الموظّفين موقفا سليما تماما. إنّما الذي يطرح الإشكال هو الجزء الآخر من الأرباح، خاصة بعد الانطباع بأنّ هذه الأخيرة لا تبدو اليوم مشروعة، لنقص في أداء القطاع المالي لمهمته المتمثلة في ضمان التمويل للاقتصاد. ففي “زمن المجاعة”، ليست مكافئات الخبّاز هي التي تطرح التساؤلات بقدر ما هي الأرباح التي يجنيها في مثل تلك الظروف!

فما العمل إذن، إن لم نـُرِد فعلا إضافة شعور الاحتقار إلى شعور الظلم الذي ينتاب الناس؟ الجواب بسيط: المسألة مسألة قوانين، ورقابة وترتيبات. لقد تمّ إنقاذ المصارف في جميع أنحاء العالم، ونحن في عجلة من أمرنا، وهذا ما يفسّر العدد القليل من الضمانات التي تمّ اتخاذها حينذاك. غير أنّ وقت التدارك لم يفت بعد كي نقوم بتنظيم وترتيب أفضل لهذا القطاع. 



 

جان- بول فيتوسيJean-Paul Fitoussi: خبير اقتصادي فرنسي من أصل تونسي، رئيس المرصد الفرنسي لمراقبة الظرف الاقتصادي، كاتب افتتاحيات مشارك بصحيفة “لومند”.

 
نشر المقال بالصحيفة المذكورة بتاريخ 14 أغسطس 2009
نشر بموقع الأوان الأحد 30 (أغسطس) 2009

اقرأ المزيد

ما الجـديـد !


عدت إلى البحرين بعد غياب شهر كامل وأنا متلهف لأخبارها، وفي جولة لتخليص بعض المعاملات الحكومية مررت بدرك من مختلف الجنسيات التي قل ما وجدت البحرينية بينها.
 
كنت في وزارة الخارجية لتصديق عقد زواجي الاجنبي حين سألني شرطي “أجنبي” بلكنة عربية ركيكة (أشلك بالاجنبية بنت ديرتك أولى). قلت في قلبي ياليتك تسمع هذه الجملة لحكومتنا الرشيدة، لمست ميدانياً خلال جولتي ما يعرف بظاهرة التمييز الطائفي، دوائر حكومية صبغت عن بكرة أبيها بطائفة معينة، فيما كانت أخرى مثالاً للقرية الكونية!
 
تداولت أخبار الصحف “القنبلة” التي فجرها وزير الإسكان حول إسكان النويدرات مطيحاً بأحلام مئات الاسر البحرينية، وشخصياً لم أعرف بعد إذا ما كان المشروع مخصصاً لأهالي قرية نويدرات أم لإمتدادات القرى، أم أنه يعتمد الأقدمية، أم أن أحدهم عبث بالخارطة فأثار فتنة مذهبية!
 
وفي أروقة المحكمة الشرعية شهدت عشرات من تدافعوا إليها لإثبات نسبهم البحريني وهم يحملون هويات شكلت مثالاً لمفهوم الأممية!.
 
على الساحة الشيعية كان الوضع مثيراً ففي غمرة التنافس على زعامة الطائفة بين (العلمائي – حق – الوفاء- الشيرازية) وبعد سلسلة الانتقادات المتوالية التي تعرضت لها كتلة الوفاق النيابية المحسوبة بطبيعة الحال على المجلس العلمائي، ظهر إلينا الشيخ حيدر الستري بتصريح مدروس أراد منه تبجيل زعماء الطائفة حد القداسة في محاولة يائسة لإخراس المنتقدين.
 
فيما تداعيات الازمة المالية ما زالت مستمرة: فصل العديد من العمال والموظفين، توظيف عدد من الخريجين الجامعيين بأجور أقل ما توصف به بالمتواضعة، تظاهرات خجولة منددة بالفصل، أما الأسعار فهي الوحيدة التي ما زالت تعلو بعزتها دون إكتراث.
 
المعارضة باتت معارضات فبعد أن جعلتها الحكومة تؤمن بالحكمة القائلة: الطعن في الميت حرام، باتت تطعن بعضها بعضا، وقد بح صوت التقدمي وهو ينظر لأهمية وحدة التيار الديمقراطي وهو يعي تمام الوعي أن الحديث عن هذا الوضع مؤجل لحين الإنتهاء من إستحقاقات الانتخابات البرلمانية القادمة في عام 2010م التي ستؤول وفق المؤشرات الموضوعية إلى تكرار سيناريو 2006.
 
إذا فالحديث عن الإصلاح السياسي يحتاج إلى إصلاح في المفاهيم  ينطلق من معالجة الوضع الشكلي للاصلاح السياسي تحول إنعاش للوضع المعيشي يكفل تحسين الأجور وتوفير السكن الملائم لينتقل بعد ذلك إلى إصلاحات سياسية تدريجية تواكب جرعات الثقافة الديمقراطية التي سيكتسبها الشعب – فقط حين يشعر بأنه آمن في وطنه ، وإذا ضاق بالناس ذرعاً من تجاهل الحكم لسلسلة الازمات المتوالية سيفتح الباب على كل الاحتمالات،بما فيها أسوأها.
 
خاص بنشرة التقدمي سبتمبر 2009

اقرأ المزيد