من أخطاء القيادتين المصرية والسوفيتية
مما لا شك فيه ان العوامل الرئيسية التي أفضت الى هزيمة مصر عسكريا أمام اسرائيل في حرب يونيو 1967 هي عوامل داخلية، لكن ذلك لا يعني انتفاء أي دور للعوامل الخارجية حينذاك، ولعل أبرز العوامل الخارجية التي تضافرت مع العوامل الداخلية في صنع الهزيمة تتمثل في سوء حسابات وتقديرات الحليف الدولي السياسي والاستراتيجي لمصر، ألا هو تحديدا الاتحاد السوفيتي، طوال الازمة وعدم تقديره مقدما التقدير الكافي الدقيق للعواقب الخطيرة البعيدة المدى المترتبة على ترك مصر لقمة سائغة بين أنياب الوحش الاسرائيلي بمساندة ودعم كبيرين، سياسيا وعسكريا، من حليفه الدولي الولايات المتحدة.
نعم ثمة خطأ في الحسابات وقعت فيها القيادة المصرية ممثلة في الرئيس عبدالناصر في بعض الجوانب والسياسات المصرية في العلاقة مع موسكو التي بنيت على أساس نزوع عبدالناصر لترك مسافة بينه وبين الاتحاد السوفيتي وتمسكه باستقلال مصر وتخوفه من الاتهام بأن مصر منحازة إلى المعسكر الشرقي، وهذا ما يفسر أيضا رفضه ــ كما جاء في إحدى حلقات هيكل للجزيرة ــ إعطاء الاتحاد السوفيتي تسهيلات لاسطوله البحري في الموانئ المصرية على ساحل البحر المتوسط، كالاسكندرية في عام .1966 وهو ما يفسر كذلك رفضه الذي يرقى، في تقديري، الى الاخطاء القاتلة اقتراحا سوفيتيا آخر قبيل حرب 1967 أرسله الرئيس السوفيتي حينذاك ليونيد بريجنيف الى كل من جمال عبدالناصر والرئيس السوري نورالدين الاتاسي بقيام ثلاثة أسراب من الطائرات السوفيتية بزيارات ودية لمصر وسوريا لاظهار مدى قوة تحالف الاتحاد السوفيتي مع البلدين ورفضه الاعتداء عليهما، ففي ظروف دقيقة بالغة الخطورة كالتي كانت تواجهها مصر وسوريا حينذاك وحدهما وتنذر بتعرضهما لضربات اسرائيلية ساحقة كان على عبدالناصر حتى لو كان يتبنى ويرفع شعار “عدم الانحياز” الى المعسكرين: الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي ان يعمل المستحيل، ولو تكتيكيا، لتجنب ذلك الهجوم الاسرائيلي المبيت، ولاسيما بالنظر لعدم جاهزية مصر لصده وافشاله من خلال استمالة موسكو بمختلف الوسائل والامكانيات لتقف بكل قوتها ونفوذها وجبروتها الدولي باعتبارها احدى القوتين العظميين المهيمنتين على الساحة الدولية حينذاك للحيلولة دون مضي اسرائيل قدما في مخطط العدوان المبيت على البلدين.
فما كان يضير عبدالناصر لو قبل في تلك الظروف الدقيقة التي مرت بها مصر خلال عامي 1966 و1967 باعطاء تسهيلات عسكرية بحرية مؤقتة للسوفيت، كما لم تكن القيادة المصرية في تلك الظروف العصيبة عشية عدوان 1967 موفقة البتة في رفضها اقتراح القيادة السوفيتية بزيارة أسراب من المقاتلات العسكرية السوفيتية لمصر وسوريا لكي تفهم اسرائيل جدية وقوة الموقف السوفيتي من الازمة وتصميمه على الدفاع عن هذين البلدين ضد العدوان الاسرائيلي المتوقع عليهما أو رفضه إلحاق هزيمة بأي منهما.
ولربما كان مثل ذينك الحذر والتردد اللذين تبديهما القيادة المصرية ازاء مقترحات القيادة السوفيتية بتوثيق العلاقات العسكرية بين البلدين من الاسباب التي حملت موسكو بعدئذ على ابداء شيء من التحفظ بعدم زج نفسها بكل قوة في أزمة يونيو 1967 التي انتهت بالعدوان الاسرائيلي الكاسح على مصر وسوريا والاردن في الوقت الذي كان الموقف الامريكي – رغم ما يخفيه من مراوغة – واضحا وحاسما في وقوفه الى جانب اسرائيل.
نحن هنا، تأسيسا على ما تقدم، أمام خطأين قياديين على المستوى المصري وعلى المستوى السوفيتي تضافرا معا ليشكلا سببا من أسباب الهزيمة التي تشابك فيها بعض العوامل الذاتية الداخلية بالعوامل الموضوعية الخارجية، فالقيادة المصرية ممثلة في عبدالناصر لم تقدر جيدا في تلك الظروف الحساسة الخطرة أهمية جر الاتحاد السوفيتي بأي طريقة ممكنة واستدراجه لتوريطه في النزاع بما يحمل الولايات المتحدة واسرائيل على أن تعملا ألف حساب في أي وقت تسول للأخيرة نفسها الهجوم على مصر، ولاسيما ان القيادة السوفيتية نفسها قد أبدت بعض المواقف التي تتيح لمصر مثل هذا الاستدراج، كطلبها إلى عبدالناصر اعطاء تسهيلات عسكرية بحرية للأسطول السوفيتي في البحر المتوسط في الموانئ المصرية، وكاقتراحها قبيل الهجوم الاسرائيلي على مصر في يونيو 67 زيارة أسراب من الطائرات السوفيتية للقواعد العسكرية الجوية المصرية والسورية، وهو الاقتراح الذي رفضه للأسف جمال عبدالناصر (راجع، مع هيكل، الجزيرة مساء 20/8/2009).
والقيادة السوفيتية هي الاخرى من جهتها لربما كانت المواقف المتحفظة المصرية على مقترحاتها بتوثيق العلاقات العسكرية بين البلدين، كالتي أشرنا اليها آنفا، من أسباب توخيها الحذر المفرط والتزامها موقف التروي والتحفظ في استخدام أقصى ضغوطها ونفوذها الممكنين للحيلولة دون مضي اسرائيل في عدوانها المتوقع الوشيك قدما.
مهما يكن فإن كلا الطرفين المصري والسوفيتي لم يدرك خطأ تقديراته القاتل إلا بعد فوات الأوان، أي بعد انجاز الضربة الاسرائيلية الموجعة ضد مصر التي انتهت ليس بتحطيم الجيش المصري فحسب، بل بالإجهاز سياسيا على النفوذ السوفيتي في المنطقة بعدئذ وتعاظم وهيمنة النفوذ الامريكي فيها على نحو غير مسبوق تاريخيا.
صحيفة اخبار الخليج
4 سبتمبر 2009