منذ سنوات طويلة وعلى امتداد ما يقارب الثلاثة العقود ونيفا اعتادت الشعوب العربية رفع حكوماتها شعارات التقشف وتقليص الإنفاق كلما وجدت هذه الحكومات نفسها في ضائقة مالية أو عجز مالي غير محتسب أو غير متوقع أو لتخبط أي منها في أزمة اقتصادية، لكن قلة من الحكومات العربية هي التي تلتزم التزاما حقيقيا ولو بأدنى الحدود بتلك الشعارات التقشفية في أوقات الأزمات المالية والاقتصادية التي تمر بها بين الفينة والأخرى، إذ تظل الإجراءات التقشفية التي تقدم عليها معظمها إجراءات محدودة وشكلية لا تمس الكثير من أوجه الإنفاق التبذيرية غير الضرورية التي تكبد موازنات الدولة العربية أموالاً طائلة.
والأنكى من ذلك حينما يجرى تبرير ضغط النفقات المخصصة للتوظيف أو زيادة المرتبات باسم التقشف والأزمة المالية، في حين أن مظاهر البذخ والصرف التي ما انفكت تقوم بها مؤسسات ووزارات الدولة العربية، وعلى الأخص الخليجية، منذ عصر الطفرة النفطية، هي أكثر مما تعد أو تحصى ومازالت متواصلة كأنها في عز الازدهار النفطي من دون أن يطاولها أي تقنين أو مراجعة ومن ذلك على سبيل المثال، لا الحصر، تسابق دول مجلس التعاون على استضافة المؤتمرات والاجتماعات الدورية وغير الدورية في مختلف الظروف والأوقات، ولا يقتصر الأمر على استضافة إقامة الوفود وتأمين الوجبات الثلاث اليومية لها، بل عادة ما يصحب ذلك استضافتها على عدة ولائم غداء أو عشاء دسمة عامرة بكل ما لذ وطاب من الطعام.
أكثر من ذلك فإن دول مجلس التعاون هي من أكثر الدول العربية كرما وسخاء في استضافة حتى الندوات والحلقات التدريبية والدراسية والمؤتمرات التي تعقد على مستوى الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة مهما كانت ظروف مستجدات الأوضاع المالية التي تمر بها بين الحين والآخر.
أما عن مظاهر التبذير والإسراف في الصرف على الأثاث والأدوات والأجهزة المكتبية ذات أحدث المواصفات والموديلات التي لا ضرورة لها فحدث ولا حرج، دع عنك الصرف على وسائل النقل والسيارات المتعددة، ناهيك عن امعان العديد من الوزارات في رصد بنود في موازناتها للعمل الإضافي الذي لا لزوم له سوى اعتباره من قبيل المكافآت المخصصة للموظفين المحظيين لدى الإدارة العليا في الوزارات والمؤسسات العامة.
ولعل الاستمرار في الصرف على مآدب المجاملات والعلاقات العامة التي يدعى إليها الموظفون أو تخصص للصحفيين، بما في ذلك الغبقات السنوية الرمضانية أو غبقات الأعياد وغيرها هي من أكثر مظاهر الاستهتار بالمال العام وتبذيره حتى في أوقات الأزمات المالية التي تشتد خلالها الحاجة إلى التقشف من دون أدنى احساس بالمسئولية الوطنية العليا.
وأخيراً وليس آخرا فلعل واحداً من أبرز مظاهر تبديد المال العام في جل الدول العربية الذي مازال مستمرا على قدم وساق من دون أدنى ترشيد هو ما يصرف على تنظيم البرامج والاحتفالات البهرجية في المناسبات الوطنية الكبرى من أموال طائلة لا ضرورة قصوى لتكبيد الخزانة العامة بها في حين يمكن بكل بساطة الاستمرار في تنظيم تلك البرامج والاحتفالات مع ترشيد الإنفاق عليها إلى أدنى مستوى ممكن. وعلى سبيل المثال فقد أجرت إذاعة الـ “بي. بي. سي” حواراً في صبيحة يوم الفاتح من سبتمبر مع مراسلها الليبي في طرابلس اتسم بالصراحة والشفافية وذلك بمناسبة الاحتفالات الضخمة غير المسبوقة التي أقامتها طرابلس بمناسبة مرور 40 عاماً على ثورة الفاتح وسأله المذيع عما يعرفه من تقديرات لإجمالي ما تم صرفه على تلك الاحتفالات فاعترف المراسل بأنها تصل إلى أكثر من مليار دولار تقاضت الشركة الفرنسية المتعهدة بتنظيم تلك الاحتفالات النصيب الأكبر، وحينما سألته مذيعة الـ “بي. بي. سي” عما إذا الدولة هي التي تكفلت بتلك النفقات الهائلة شعر المراسل بالحرج وقال إنها ليست من أموال الدولة بل تبرعات من أموال الشعب الليبي لثورته. يحدث ذلك فيما اضطرت طرابلس إلى دفع بضعة مليارات من الدولارات ثمناً لكسر الحصار الغربي المفروض عليها على خلفية اتهامها بالتورط في تفجير طائرة لوكيربي.
صحيفة اخبار الخليج
8 سبتمبر 2009