آل إيه .. أوباما حيجيب الديب (الإسرائيلي طبعاً) من ديله ويحل لينا مشكلة الشرق الأوسط’! يا عيني يا عيني .. إيـه الهنا اللي إحنا فيه ده’. مشكلة الشرق الأوسط مرة واحدة؟! …
نعم هذه هي الرسالة التي حاول الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما وطاقمه الإداري تسويقها علينا، تارة من إسطنبول وتارة من القاهرة.. مفردات منتقاة بعناية يحاول بها ساكن البيت الأبيض الجديد التأثير في المزاج العربي العام المعادي لواشنطن الذي تسببت فيه إدارة بوش السابقة، وتعويم مصل تخدير جديد هو عبارة عن مجموعة تطمينات ووعود ملائمة لحواس الاستقبال الشرقية (العربية تخصيصاً).
لقد قيل إن ما بين 38 إلى 40 شخصاً شاركوا في إعداد وصياغة خطاب أوباما الذي ألقاه في جامعة القاهرة ووجهه إلى العالمين العربي والإسلامي، واختيار الجمل البلاغية المناسبة من أجل إحداث الإبهار والاستحسان لدى معشر المستمعين. وقد أثبت أوباما لأربابه الذين جاءوا به لتغيير صورة الولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي، أنه رجل العلاقات العامة الملائم لأداء هذه المهمة. فضلاً عن النهوض بمهمة استعادة مصداقية النظام السياسي التي اهتزت في الداخل الأمريكي بسبب رعونة ودسائسية الإدارة البوشية السابقة. فلقد نجح الرجل بامتياز، حتى الآن على الأقل، في استعادة جزء من تلك المصداقية المفقودة.
فيما يتعلق بمنطقتنا العربية، وهو ما يهمنا بالدرجة الأساس، فقد وجدت عبارات أوباما المعسولة والمنمقة، بتطميناتها التخديرية، صدى لدى بعض النخب العربية التي يبدو أن مفعول رسائل أوباما المعنونة بعناية، قد أثر فيها، فراحت تحلل وتُؤَوِّل مقاصد ومرامي هذه الرسائل وتبشر بمآلات وحبور أيامها المقبلات. ولكأن هؤلاء لم يسمعوا قط أو لا علم لهم مطلقاً بسيل مخزون الوعود والتطمينات الأمريكية المتناسخة من بعضها البعض على امتداد الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، أو لكأن تعيين جورج ميتشيل فور تسلم أوباما للسلطة، مبعوثاً أمريكياً خاصاً للشرق الأوسط، حدث فريد ومستجد في أدوات السياسة الخارجية الأمريكية، وليس مجرد رقماً جديداً يضاف إلى قائمة المبعوثين المتعاقبين على إدارة هذا الملف. بل إن جورج ميتشيل نفسه كان قد جُرِّب من قبل إبان إدارة بوش السابقة، وفشل في مهمته كما فشل من سبقوه في هذا المنصب.
لقد كان من الطبيعي، والحال هذه، أن يسارع هؤلاء الحالمون إلى توجيه رسائل الإطراء والمديح للرئيس أوباما على ‘لفتته البالغة الدلالة’ المتمثلة في إلغائه للاجتماع الذي كان مقرراً في باريس بين جورج ميتشيل ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو للتدليل على صدقية خطاب الرجل والتزامه بما يغدقه من وعود وتطمينات يوزعها حيثما حل رحاله في بقعة من بقاع العالم العربي والإسلامي، مع أنه تأكد لاحقاً أن إلغاء الاجتماع تم باتفاق الجانبين والاستعاضة عنه بلقاء بين ميتشيل وأيهود باراك وزير الحرب في حكومة نتانياهو، بما يعني أن ميتشيل ونتانياهو سيجتمعان لاحقاً. ثم إن هذا الذي سوف ‘يأتي بالديب من ديله’ (نتانياهو مجازاً)، هو نفسه الذي ثمَّن الخطاب العنصري الذي ألقاه نتانياهو في جامعة بار إيلام واعتبره خطوة إيجابية إلى الأمام، فقط لأن نتانياهو تفوه لأول مرة بالدولة الفلسطينية الموعودة وهماً، ولكن ليس قبل أن يضع أمام قيامها لاءاته الأربع التعجيزية: لا لعودة اللاجئين، ولا لترسيم الحدود والسيادة الفلسيطينية عليها، ولا لحق هذه الدولة (الموعودة وهماً) في تسلحها الدفاعي المحض، والتي غيَّبت الأفق الذي صنعته جهود رعاة التسوية (المخلة إخلالاً فادحاً بالحقوق الفلسطينية) وأربابها، ولا للقدس عاصمة للدولة الفلسطينية.
نتانياهو كان واضحاً إلى أبعد حدود الصفاقة النرجسية عندما عبر عن عزمه إكمال ما كان بدأه بنغوريون وبقية أفراد العصابة الصهيونية المنتظمين في الهاجاناه وأرجون، من جريمة تقتيل وتشريد شعب من أرضه ونهبه وإقامة دولة ‘لشعب بلا أرض’، وهاهم اليهود الذين جيء بهم من أصقاع الأرض النائية ليحطوا الرحال في الأرض المغتصبة. نتانياهو يريد تتويج ذلك الحلم بانتزاع اعتراف عربي ودولي بيهودية دولة إسرائيل الخالصة (هكذا على المكشوف!)، ويعبر عن إصراره وإصرار حكومته على مواصلة أعمال الاستيطان وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، ومع ذلك فإنه لم يجد من يعترض عليه لا في أوروبا المهووسة بتشدقها اللفظي بحقوق الإنسان ولا في الولايات المتحدة في ظل رئيسها المفوه صاحب الوعود الملونة. بل إنه ووزير خارجيته العنصري (افيغدور ليبرمان) وجدا من يأخذهما بالأحضان في أوروبا وأمريكا.
الأكثر من ذلك أن مبعوث أوباما الخاص للشرق الأوسط (جورج ميتشيل ذاته) لم يتأخر عن الرقص على نغمات شنشات نتانياهو الخاصة باليهودية الخالصة لدولة إسرائيل، فما كاد الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز يستقبله في مكتبه حتى زعق بإفراط انفعالي مُشفق عليه بالقول: ‘إن الولايات المتحدة ملتزمة التزاماً مطلقاً بأمن إسرائيل ودعمها لها كدولة يهودية، وإنها ستظل حليفة إسرائيل المقربة بالرغم من الخلاف حول الاستيطان’ الذي وصفه بأنه ليس خلافاً بين خصمين بقدر ما هو بين صديقين يتقاسمان الأهداف ذاتها!
هل هنالك تملق وتزلف خانع أكثر من هذا؟! هل تعتقدون أن في وسع الرئيس باراك أوباما، على رغم احترامنا لنواياه الصادقة ربما، عصيان أمر أولياء نعمته الذين جاءوا به إلى سدة الحكم في البيت الأبيض؟ استناداً إلى تراتبية وتعقيدات صناعة القرار ‘وصناعة’ اتخاذ القرار في النظام السياسي الأمريكي المُهندَس على مقاس كواسر رأس المال ولوبياته، فإن الرجل ليس أكثر من ‘Chief Executive’ (رئيس تنفيذي) لا يستطيع أن يبت في القضايا الجوهرية من دون الرجوع ‘لمجلس الإدارة’ الذي لا يُشاهَد كثيراً في الصورة. يشاء هذا المجلس إطلاق جرعة تخديرية جديدة في صورة ‘مبادرة سلام’ جديدة لإلهاء العرب بها لفترة من الوقت، فيعهد إلى ‘الرئيس التنفيذي’ أمر طرح وتسويق هذه المبادرة. أو يشاء المجلس تعليقها أو سحبها اتساقاً مع مستجدات معطيات الواقع الشرق أوسطي، فيعم الفراغ السياسي لفترة محددة إثر تغييب مادته، فيُستعاض عن ذلك بتكثيف الحركة الدبلوماسية.
هم يضحكون علينا، ونحن للأسف الشديد نسايرهم في لعبتهم، برسم صمود مبادرتنا السلامية التي كنا تقدمنا بها في قمة بيروت منذ حوالي عشر سنوات، على رغم العواصف والأحداث الكبرى التي شهدتها ‘مناطق’ الصراع العربي الإسرائيلي. لم نسحبها، أو نعلقها، تكتيكياً على الأقل. والأهم أننا لم نرفدها بعناصر القوة التي يستحيل تحقيق ‘الاختراقات السياسية’ (أي تحقيق الأهداف والغايات والمكاسب والمصالح) في العلاقات الدولية بدونها.
الوطن 4 يوليو 2009