­

المنشور

اليسار والإسلاميون.. والثورة الحسينية (2-2)

ليس المناضل الوطني والقائد اليساري العراقي عبدالرزاق الصافي الذي تناولناه يوم أمس، كنموذج في انسجامه وعدم تعاليه او اغترابه عن ثقافة شعبه الدينية والشعبية، سوى واحد من نماذج يسارية وعلمانية عربية عديدة عرفت باعتدالها العلماني ورؤيتها الواقعية للموروث الديني. ومن تلك النماذج العديدة نذكر على سبيل المثال المفكر اللبناني التراثي الراحل حسين مروّة والذي يمكننا ان نقرأ في كتابات له او حوارات صحفية معه ذلك التعاطي والانسجام مع ثقافة الجماهير الدينية واحترامها ان لم يكن الايمان بها، وكذلك المفكرين والمثقفين المصريين محمود أمين العالم، ومحمود اسماعيل، وعبدالرحمن الشرقاوي، والمفكر السوري طيب التيزيني، وغيرهم.
وعلى سبيل المثال فمثلما عبر الصافي عن كيفية تأثره العاطفي بسيرة استشهاد الامام الحسين “ع” كما تروى بأسلوب مؤثر من قبل خطباء المنبر الحسيني في مجالس كربلاء، فإن مروة لم يجد في انتمائه لليسار أي خجل “علماني” أو عقدة تحول دون البوح والصدق مع النفس في الايفاء بالانسجام مع موروثه وثقافته الدينية التي جبل عليها. ومن ذلك استمرار شغفه، حتى بعد انتمائه للفكر الاشتراكي، بسماع تلاوة القرآن مرتلا ترتيلا عذبا من قبل مشايخ مشاهير الترتيل العرب.
ولما كان من المعروف ان مروة ابن لرجل دين من الجنوب اللبناني فإننا نجده يتحدث في احد الحوارات معه عن اعتزازه واعترافه بدور التربية الدينية الاسرية ليس في صقل وسمو شخصيته الاخلاقية بل تفرد هذه التربية مبكراً في الابتعاد عما يسيء للوحدة الدينية الاسلامية: “اورثتني تربية الوالد حياء مقيماً، لكنها تركت في خصالاً حميدة منها عزة النفس والترفع عن الدنايا والتورع الخلقي عن كل ما يدنس النفس ويشوب سيرة المرء وسلوكه وتهذيب النفس واللسان، فأنا حتى اليوم لم تجر شتيمة على لساني، وقد انتقل هذا مني الى اولادي. اذكر في هذا الباب اننا اقمنا في حي سني في العراق فكان أهله يستغربون من ان أياً من اولادي لا تجرى على لسانه شتائم لبعض الصحابة مما كان دارجاً على ألسنة اترابهم الشيعة في ذلك الحين. وقد ساقهم هذا الى الظن بأننا من أهل السنة” انظر حسين مروة، “ولدت شيخاً وأموت طفلاً، دار الفارابي” بيروت 1990م.
ومثل هذا التواضع والاعتزاز بالموروث الديني نجده ايضاً لدى محمود امين العالم حينما يتحدث عن جوانب من سيرته الشخصية والعائلية في بعض الاحياء الشعبية بالقاهرة القديمة التي تربى وترعرع بين ازقتها وحاراتها.
ومن المفارقات الغريبة غير المفهومة أنه بقدر اعتزاز واحتفاء عدد من القوى والاحزاب اليسارية التي ينتمي إليها هؤلاء المفكرون بعطاءاتهم الفكرية ومؤلفاتهم التراثية، فانك لا تجد ترجمة لهذا الاعتزاز في اجندة وبرامج وفعاليات تلك القوى والاحزاب.
وأتذكر بأني اشرت غير مرة، هنا في هذه الزاوية، قبل سنوات خلت الى أن ثمة مظهرين من مظاهر هذه الازدواجية والمفارقات في التعاطي مع التراث الديني: الأول يتمثل في رفض هذه القوى والاحزاب الدؤوب احياء المناسبات التاريخية الدينية العظيمة، كالمولد النبوي الشريف، وكذكرى عاشوراء، في حين لا تتردد هذه القوى والاحزاب عن احياء المناسبات التاريخية الخاصة برموزها ورموز تيارها الفكري الكبيرة.
اما المظهر الثاني فيتمثل في حرص هذه القوى والاحزاب على اسباغ آيات التبجيل السياسي وألقاب الاحترام لرموز تيارها ومفكريه على نحو: “المناضل العظيم”، “الرفيق القائد”، “المفكر الخالد”.. إلخ، ومقتها في المقابل ذكر الرموز والشخصيات الدينية المقدسة او الاشارة إليها متبوعة بألقابها الدينية المتعارف عليها لدى الناس والنخبة الدينية. علماً ان الرموز الدينية والتاريخية الكبيرة، سواء من أنبياء او ائمة او صحابة، جميعها قامت بأدوار استثنائية دينية وتاريخية في الثورات والاصلاحات الاجتماعية تبعاً للظروف التاريخية الاجتماعية في العصور التي عاشتها. ومن هنا تتبوأ الثورة الحسينية مكانتها الدينية والتاريخية ليس لدى المسلمين على اختلاف مذاهبهم فحسب، بل لدى سائر الديانات والطوائف الدينية والثقافات الاخرى كملهمة في التضحية والبطولة والفداء من اجل الاصلاح السياسي والاجتماعي ومواجهة الاستبداد واقامة العدالة.
ومن هنا فكم هو جميل لو أقامت جمعياتنا السياسية، سواء على المستوى الذاتي الداخلي ام على مستوى التعاون المشترك، مهرجانا سنويا في موسم عاشوراء حول هذه الذكرى الثورية الدينية العطرة تلقى فيه الكلمات والقصائد المختلفة، ناهيك عن الاعمال الفنية الاخرى لما لهذه الفعاليات في هذه المناسبة الدينية الجماهيرية من معانٍ وحدوية ومشاطرة وجدانية لمختلف فئات جماهيرنا في شتى مناسباتها العامة وعدم التعالي عليها.
ولعل من المناسب في هذا الشأن الاشارة الى ما خلص إليه الباحث التراثي الوطني التقدمي العراقي رشيد خيون في احدى دراساته “أرى انه ليس من الحق تعطيل الذاكرة الشعبية بإلغاء الاعياد ومجالس الاحزان، كما ألغى خلفاء عباسيون الاحتفال بأعياد نيروز، ومنهم من حاول استبداله بنيروز سماه على اسمه او الغاء احتفالات العزاء الحسيني بأرض العراق، مهد ذاكرتها، او مجالسها الصوفية. كل ذلك يُعد تجاوزاً خطيراً على العاطفة الشعبية. لكن الحق ان ترشد وتهذب، حتى تكون بإطارها التاريخي الحضاري، وبطقوس روحية تعبر عن أفراح واحزان الارض والانسان بما يناسب روح العصر”، انظر مجلة الثقافة الجديدة العراقية، ايلول 1998م.
واعتقد أن بعض الجمعيات والتيارات السياسية الوطنية لديها كتابها ومثقفوها الكبار الذين يمكن ان يقدموا اسهامات ورؤى متميزة في هذه المناسبات استناداً لقراءاتهم ودراساتهم المعمقة للتراث الديني (نذكر على سبيل المثال في هذا الشأن الزميل والصديق عبدالله خليفة).
ولئن كان ثمة رهط غير قليل من مثقفي ومفكري اليسار العربي الذين تميزوا بانسجامهم مع تراث امتهم الديني وعدم تعاليهم عليه او على ثقافة شعبهم الدينية او ازدرائها فإن الامانة الموضوعية في المقابل تقتضي القول ان ثمة نفرا من مثقفي وكتاب الاسلام السياسي ممن يكنون التقدير والاحترام لعطاءات ورموز اليسار في هذا الجانب او ذاك الجانب. ويحضرني هنا في هذه اللحظة على سبيل المثال ما كتبه في “السفير” العلامة والمفكر الاسلامي محمد حسن الامين عن عطاءات نجيب محفوظ مستنكراً محاولة اغتياله مطلع تسعينيات القرن الماضي، وما كتبه قبل فترة وجيزة السيد محمد حسين فضل الله من مرثية عن رحيل محمود درويش، وهذه مجرد نماذج من نماذج عديدة. فهل نأمل في ذكرى عاشوراء المقبلة ان نرى ترجمة حية ملموسة لانفتاح التيارات الاسلامية والتيارات الوطنية على بعضها بعض في مثل هذه المناسبات الدينية التاريخية الكبرى؟

صحيفة اخبار الخليج
7 يناير 2009

اقرأ المزيد

اليسار والإسلاميون.. والثورة الحسينية (1)

قبل ما يقارب أربع أو خمس سنوات استضافت جمعية المنبر التقدمي إحدى الشخصيات السياسية الوطنية العراقية من قدامى قادة اليسار العراقي، وتحديدا الحزب الشيوعي ألا هو الأستاذ عبدالرزاق الصافي، وألقى خلال زيارته للبلاد محاضرتين سياسيتين، الأولى أقيمت في نادي الخريجين، والثانية في مركز شباب الشاخورة بقرية الشاخورة إحدى قرى شارع البديع. في المحاضرة الأولى التي لا يحضرني الآن عنوانها تطرق فيها المحاضر على نحو عابر الى تأثير واقعة الطف وتقاليد إحياء فاجعة الملحمة الحسينية في وجدانه النفسي تأثيرا بما في ذلك قراءة سيرة استشهاد الإمام الحسين «ع« بطريقة إنسانية مؤثرة بليغة جدا تعجز معها عيناه أن تكون عصية عن الدمع.
هذه الاشارة العابرة التي مر عليها الصافي في محاضرته، التقطها الصديق خليل زينل ليقترح عليه بعد نهاية المحاضرة لتكون عنوان محاضرته الثانية التي سيستضيفه فيها مركز شباب الشاخورة، وقد كانت تحديدا تتناول ذكرياته التاريخية والسياسية عن مدينة كربلاء وهي المنطقة التي جرت فيها واقعة الطف واستشهد فيها الإمام الحسين «ع« باعتبارها مسقط رأسه، أي المدينة التي ولد ونشأ وترعرع فيها. ولأن هذه الشخصية القيادية اليسارية العراقية تأثرت بثقافة المدينة الشعبية الدينية وتقاليدها وأعرافها، فإنه كان من الصعوبة بمكان عليه ألا يروي لمحات تاريخية من تلك التقاليد والأعراف الدينية التي تميزت بها مدينته، وعلى الأخص ذلك المرتبط منها بمجالس العزاء والمنابر الحسينية التي تقام في كربلاء ولاسيما خلال موسم عاشوراء. كيف لا، وهو ينتمي الى المدينة التي روى الإمام الحسين «ع« ترابها بدمائه الطاهرة المسفوكة ظلما وغدرا في ذلك اليوم الفاجع من عاشوراء منذ نحو ألف وأربعمائة عام؟ وكيف لا وهو ينتمي، كما يسرد في محاضرته تفصيلا، الى عائلة كربلائية عريقة عرفت بتدينها وشهرتها على مستوى المدينة في عراقة اقامة وتنظيم مثل تلك المجالس الحسينية؟ هذا الى جانب ما رواه عن أدوار المدينة في الحركة الوطنية العراقية المعاصرة وتضحيات أهاليها في مختلف الهبات والانتفاضات، سواء المتمثلة في ثورة العشرين، اما التي كانت ضد الاحتلال الانجليزي، أم التي كانت ضد الانظمة الاستبدادية المتعاقبة منذ ثورة تموز 1958م. والسؤال الذي آن أوان طرحه في ضوء هذا الاستهلال الاستطرادي الذي قدمناه حول ما حكته هذه الشخصية اليسارية العراقية المحنكة من ذكريات عن مدينته التي ارتبط جانب كبير من سيرة حياته بتقاليدها الدينية هل كان وهو يروي تلك التنشئة وذكرياتها بفخر واعتزاز، بما في ذلك المتعلقة بعاشوراء وبكائه على الحسين «ع«، بحاجة إلى التملق والنفاق الديني باعتباره ينتمي ليس الى ثقافة علمانية فحسب، لا بل يسارية لطالما وصمت من قبل أعدائها بالكفر والالحاد، بل جرت مطابقتها فكرا وتيارا بهذه الوصمة تحديدا؟ نعود فنتساءل: هل كان وهو يروي تلك الذكريات باعتزاز وفخر بحاجة الى التملق والنفاق الديني كما قد يتبادر الى الذهن للوهلة الأولى لدى المرء المستمع سواء المنتمي الى التيار الاسلامي العريض أم الى التيار العلماني العريض وعلى الاخص اليساري منه؟
لعل من نافلة القول انه لم يكن بحاجة البتة إلى تكلف هذا الرياء كسبا لعواطف الجماهير العادية أو تزلفا للتيار الاسلامي، وقد بلغ من العمر عتيا بقدر ما كان وهو يروي ذلك يعبر عن مشاعره الحسية الصادقة تجاه المؤثرات الثقافية الشعبية التي صاغت وجدانه النفسي وكانت تمثل اليه جزءا لا يتجزأ من تركيبة ثقافته العامة. مثل هذه الحقائق الموضوعية الدينية والاجتماعية بما فيها المأثورات والتقاليد الدينية وأثرها في تكوين وعي الفرد وثقافته الاجتماعية لا يستطيع أي إنسان سوي ان يتعالى عليها أو يفصلها عن تنشئته وسيرته التي لطالما توهمت كثرة من اليسار العربي بل العالمي بأنها تتناقض مع «العلمانية« أو «الفكر التقدمي«، وهي كما ذكرنا إحدى الاشكاليات الالتباسية في ذهن وأفكار اليسار التي أفضت الى جانب عوامل وتراكمات أخرى مديدة من الأزمات الى انفضاض الناس من حول قواه وتضعضع نفوذها الجماهيري. وفي المقابل وازاء وجود شريحة مثقفة غير قليلة من اليسار تؤمن وتتفهم دور الدين وتراثه التاريخي، ليس في الوعي الاجتماعي العام فحسب بل في الاصلاح والتغيير الاجتماعي، فضلا عن مقاومة الغزو الاجنبي طوال تاريخنا العربي والاسلامي الحديث، ولعل الرموز التي برزت على الصعيدين الاصلاحي والجهادي عديدة ومعروفة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الكواكبي، ومحمد عبده، والطهطاوي والافغاني وعبدالقادر الجزائري وعمر المختار، وعزالدين القسام وهي رموز موضع اشادة وتقدير من قبل كل قوى اليسار، فإن ثمة من يواجه هذا الإيمان أو التفهم لدى تلك الشريحة من اليسار بالريبة والتشكيك من قبل عتاة اليسار والعلمانيين المتطرفين من جهة ومن قبل عتاة ومتطرفي التيار الاسلامي من جهة أخرى، وعلى الأخص المتحزبون منهم. وفي كلتا الحالتين فإن الخاسرين في مثل هذا التشكيك على كلا الجانبين هما تياراهما عبر تغييب القواسم والعطاءات الثقافية والسياسية المشتركة التي يمكن ان تثري وتضيف لرصيد ثقافة كل تيار على حدة، هذا إذا ما أدركنا ان قوة فكر وثقافة كل تيار في عصرنا لا تتوقف على عطاءات مثقفيه وكتابه ومفكريه وما يقولونه عنه، بل الاغتراف والتلاقح بعطاءات وما يقوله مثقفو وكتاب ومفكرو التيارات والديانات والمذاهب الأخرى.

صحيفة اخبار الخليج
6 يناير 2009

اقرأ المزيد

وحدة الدم والنار

برغم أخطاء حماس والقوى الطائفية عموماً وتمزيقها للصفوف العربية والإسلامية، وجهلها بقوانين النضال في الإسلام والعصر الديمقراطي الحديث، فإن الوقوف العسكري مع غزة ضروري ومهم للغاية من أجل تكسير الآلة الحربية العدوانية وإحداث شروخ متسعة دوماً في المجتمع الإسرائيلي بين قوى العدوان وقوى السلام.
ما يحدثُ من عنفٍ وانفعالات حادة وتطرف كان دائماً لمصلحة القوى المتطرفة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، التي هي موحّدة وذات قوى عسكرية وسكانية كبيرة، وقادرة على توجيه النيران بدقة واستغلال نقاط الضعف في الخصم غير المتوحد والانفعالي.
إن مظاهرات الاحتجاج مهمة للغاية لكن إذا توجهت للمكان الخطأ وأحدثت الاضرار في الدول العربية وراحت تمزق الصفوف العربية فهي تضيف هدية أخرى للعدوان.
كان الفيتناميون في مجابهتهم لأكبر قوة عسكرية في العالم وهم الشعب الصغير الفقير يلجأون بالإضافة إلى المقاومة الباسلة العسكرية المتعددة الأشكال، إلى أساليب بسيطة يستطيع أن يقوم بها كثيرٌ من المواطنين المتميزين وهي كتابة الرسائل للمواطنين الأمريكيين وحثهم على التظاهر في مجتمعهم لكي ينددوا بالعدوان الأمريكي.
وقد فعلت هذه الوسيلة فعلها الكبير، ومن مظاهرات صغيرة بالمئات تدفق الملايين بعد عدة سنوات وحاصروا البيت الأبيض وشلوا فاعليته عن قصف فيتنام.
ما أبسط هذه الوسيلة! لكنها كانت أقوى من وسائل عنفية مرفوضة للفيتناميين وهي حرق السفارات والأعلام والاعتداء على المواطنين الأمريكيين غير المشاركين في الحرب، فكانت أي قنبلة ولو صغيرة يوجهها فيتنامي داخل أمريكا ويصيبُ بها مواطنين أمريكيين تغدو كارثة للمقاومة، لكن أي فيتنامي خلال تلك السنوات الطويلة الضارية لم يقم بتحطيم مصباح واحد في أمريكا أو أن يرسل قنبلة، أو أن يقوم حتى بحرق العلم الأمريكي، رغم أمطار القنابل التي كانت تنهمر فوق رؤوس الشعب الفيتنامي شماله خاصة وجنوبه!
لم يُحرق العلم الأمريكي من قبل الفيتناميين، فالعلمُ الأمريكي ليس هو علم الجيش والإدارة الحكومية بل هو كذلك علم الملايين من الشعب الأمريكي، وكلما حدث حرق الأعلام توجه جانبٌ من السكان الأمريكيين للعدوان وللجيش والإدارة الاجرامية!
حرق الأعلام والاعتداء على السفارات والأبرياء والسكان المسالمين هي وسائل الضعفاء السهلة وغير العقلانية والمؤثرة على تخريب العلاقات بين الدول، وتقوية إسرائيل وحكومات الولايات المتحدة، فهي وسائل تضيف للمعتدي قوة ويهتم بها أولئك أشد الاهتمام ويفرحون بحدوثها!
ما نريده داخل المجتمع الإسرائيلي هو تفكيكُ سكانه وعزلُ قسمٍ كبير منه عن مساعدة الجيش والإدارة الحكومية الاجرامية، فكلما حدثَ انقطاعٌ من السكان عن دعم الجيش وعلى التمرد داخل صفوفه وتعاظمت حركة السلام واليسار والديمقراطية داخل المجتمع ككل، تم شل يد العدوان الآن ومستقبلاً.
أنت حين تحرق علم أي دولة فإنما يصوره الجيش والإعلام ويقدمه للسكان البسطاء والجهلة والمفعمين بالتعصب كذلك، ويقولون لهم هاكم العرب يريدون قتلكم جميعاً وحرق دولتكم، ليزدادوا تعصباً وقتلاً ضد اخوتك هناك. وينضمون للجيش بحماس ليقتلوا العرب!
لقد وحدت حماس المجتمع الإسرائيلي ضدها بسبب العمليات الانتحارية، ولعدم فهم قوانين النضال، ثم فككتْ صفوفَ الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير، فأقيمت حكومتان متصارعتان استنزفتا الشعب الممزق والفقير، فتشكلت سياسة إسرائيلية لعزل حماس وضربها بسهولة، لكن لا يجب الرد على ذلك بتركها تحرق والشماتة بها والرغبة في إزالتها!
ومن هنا يجب اللجوء إلى أساليب المقاومة الإنسانية الأكثر فاعلية والبعيدة النظر.
لقد صارت أجهزة الإنترنت ميداناً لمعركة كسب الصفوف وشل يد المجرمين عن القتل.
ولو كانت هناك حكومة حمقاء فلسطينية لأعلنت الحرب ومزقت خطوات السلام، ولكن الرئيس عباس والحكومة الفلسطينية لم يفعلا ذلك، بل استخدما أدوات النضال التي في حوزتهما، ووجها القوى السياسية الفلسطينية للوقوف المشترك في الخنادق والشوارع مع المقاتلين في غزة.
ويحتاج ذلك أيضاً إلى مزيد من تدفق المقاتلين على جبهة القتال لكي تتكسر الآلة العسكرية الإسرائيلية وكلما كثرت النعوش الذاهبة كان ذلك أبلغ تأثيراً في الأمهات والآباء لكي لا يؤيدوا سياسة عدوانية مثل تلك، ودون أن تنقطع سياسة السلام كذلك، ومخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، وهزيمة الفوضويين والمتطرفين في الجانبين.
إن المغامرين وأهل الحرق والفوضى يخربونها ثم يجلسون على تلتها، نادبين صارخين كما فعلوا في قرار تقسيم فلسطين وإهدار الفرص الكبيرة الكثيرة على مر التاريخ، وفي كل فترة يعطون الإسرائيليين مساحة جديدة من الأرض ثم يصرخون ويشتمون ويتباكون ويحرقون ثم يقدمون تنازلات جديدة حتى لم يبق لديهم سوى أرض محدودة تتقلص كل يوم، ولكن جيش الانقاذ لم يأتِ!
إن الدروس كثيرة على الجماعات الدينية المتطرفة والقومية الشمولية التي لم تتعلم شيئاً خلال عقود من السنين، وكانت عباراتهم الثورية جداً من الأسباب التي قادت إلى الهزائم، وكذلك لأن الدول والجماعات السياسية المسئولة لم تتخذ مواقف قوية منذ البداية تجاه هذه الجماعات الفوضوية وغير المسئولة، وانزلقت إلى مواقفها وقادها ذلك إلى كوارث، ففتح تجري الانتخابات ليس على أسس الحداثة والعلمانية والديمقراطية، بل على نفس أسس المجتمع الطائفي الشمولي، ثم تفاجأ بالنتائج ويقود هذا إلى كوارث رهيبة يذهب المواطنون الأبرياء ضحايا لها.
هل تتعلم الدول والجماعات السياسية شيئاً من الأحداث؟
إنها لا تتعلم شيئاً إلى أن يأتي الخراب الشامل ويظهر أناسٌ جدد يشكلون سياسات مختلفة.

صحيفة اخبار الخليج
7 يناير 2009

اقرأ المزيد

صُناع الفتنة

ليس عبثاً‮ ‬أن قالوا‮: »‬الفتنة نائمة،‮ ‬لعن الله من أيقظها‮«.‬ الفتنة لا تخلق نفسها،‮ ‬بل هناك من‮ ‬يخلقها،‮ ‬وسُبل خلق الفتنة عديدة،‮ ‬ولكن في‮ ‬مقدمة هذه السبل الخطاب التحريضي‮ ‬المشبع بروح الكراهية للآخر،‮ ‬الذي‮ ‬يعمد أصحابه،‮ ‬مع سابق الإصرار والترصد،‮ ‬إلى خلق بيئة الحقد والبغضاء،‮ ‬وهي‮ ‬البيئة التي‮ ‬عنها تنتج مظاهر التعصب والغلواء والفتن،‮ ‬وحتى الاحتراب،‮ ‬على ما رأينا ونرى في‮ ‬بلدان عربية وإسلامية أخرى‮.‬ ولأن تأجيج الفتنة هي‮ ‬صُنعة هؤلاء،‮ ‬فإنهم‮ ‬يبرعون في‮ ‬التملق،‮ ‬ويُمعنون في‮ ‬إظهار أنفسهم‮  ‬بمظهر الداعية الرشيد الذي‮ ‬يبغي‮ ‬الخير للأوطان والمجتمعات من أخطار لا تقبع إلا في‮ ‬أذهانهم المريضة،‮ ‬لأنهم لم‮ ‬يألفوا فكرة نبيلة اسمها فكرة التسامح والعيش المشترك بين تكوينات مختلفة في‮ ‬مجتمع واحد،‮ ‬خبر مثل هذا الأمر ولمس،‮ ‬بالتجربة الحية،‮ ‬أن البلد تغتني‮ ‬بالتنوع،‮ ‬وأن التعدد،‮ ‬لا التماثل،‮ ‬هو من‮ ‬يأخذ بالأوطان نحو آفاق أرحب إذا ما وُظف هذا التنوع في‮ ‬مسارات آمنة مُخْلصة‮.‬ لكن صناع الفتنة لا‮ ‬يريدون هذه المسارات الآمنة،‮ ‬هم‮ ‬يريدون حفر الخنادق وإقامة السدود والجسور بين أبناء المجتمع الواحد من خلال لغة التحريض الحاقد الأعمى،‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن إلا أن‮ ‬يستثير،‮ ‬على الضفة الأخرى،‮ ‬من ردود الفعل والغضب الشيء الكثير‮.‬ وفي‮ ‬مناخٍ‮ ‬مثل هذا‮ ‬يغيب صوت الحكمة،‮ ‬وتضعف دعوات التسامح وتآلف القلوب،‮ ‬والانصراف نحو تقوية ما‮ ‬يوحد ويجمع،‮ ‬لأن تهييج المشاعر أسهل بما لا‮ ‬يقاس من تهدئتها،‮ ‬ولأن الهدم أسهل،‮ ‬بما لا‮ ‬يقاس،‮ ‬من البناء الصبور الذي‮ ‬أنفقت أجيال من رجالات بلدٍ‮ ‬مثل البحرين في‮ ‬تحقيقه،‮ ‬حتى‮ ‬يغدو هذا الوطن للجميع،‮ ‬وحتى تصبح فكرة المواطنة المتكافئة في‮ ‬الحقوق والواجبات ثقافةً‮ ‬لها من المريدين والأنصار والسعاة ما لا سبيل لتعدادهم من مختلف الفئات والاتجاهات‮.‬ من مساوئ زمننا البحريني‮ ‬الحالي‮ ‬أن تعتلي‮ ‬منابر بيوت الله،‮ ‬وتتبختر بالجلوس على مقاعد مجلس النواب،‮ ‬وتتصدر الصفحات الأولى من الصحف بعض هذه الوجوه التي‮ ‬تصنع الفتنة وتُحرض عليها وتؤسس لنتائجها المدمرة على هذا الوطن‮.‬ أعطت صحافتنا المحلية إشارة باعثة على التفاؤل حين ترفعت عن نشر فحوى خطبة من الخطب التي‮ ‬تندرج تحت باب صنع الفتنة،‮ ‬ومثل الصحافة فعلت الدولة حين أوقفت صاحب الخطبة عن الخطابة،‮ ‬كما نشرت الصحف منذ‮ ‬يومين،‮ ‬وأملنا أن‮ ‬يندرج هذا في‮ ‬إطار نهجٍ‮ ‬واضح متكامل لمنع هذا الخطاب التحريضي‮ ‬المدمر من التداول‮.‬ ومن شروط هذا النهج إفهام دُعاة هذا الخطاب،‮ ‬بالعربي‮ ‬الفصيح،‮ ‬أن ما‮ ‬يقولونه ليس محل ترحيب من الدولة في‮ ‬المقام الأول،‮ ‬لأنهم‮ ‬يسعون للإيحاء بأنهم‮ ‬ينطلقون في‮ ‬قول ما‮ ‬يقولونه ابتغاء رضا أهل الأمر‮.‬ ولا نحسب أن أهل الأمر سيسمحون لمثل هذا الخطاب أن‮ ‬يستمر،‮ ‬لأنه قادر على إحراق الأخضر واليابس إن لم‮ ‬يواجه،‮ ‬بما هو قمين به،‮ ‬من تصدٍ‮ ‬وزجر،‮ ‬فأمن الوطن وسلامته وضمان العيش المشترك المتآخي‮ ‬لفئاته هو أول الأولويات،‮ ‬إن أردنا للبحرين أن تبقى بيتنا المشترك‮.‬
 
صحيفة الايام
7 يناير 2009

اقرأ المزيد

واللبـيـب بالاشـارة يفهم!

 

 

 

 


ننقل المقطع التالي حرفيا كما ورد في مقال بعنوان “عصر من الاوهام” كتبه المستشار فؤاد راشد في صحيفة “صوت الأمة” المصرية في عددها رقم 417 الصادر في 8/12/2008م.


“كان السادات هو المؤسس والمنظر الأول في تاريخنا الحديث لمدرسة الادارة بالوهم، وفي أيامه شهدت مصر النهب الثاني في تاريخها الحديث، كان النهب الأول أيام الخديوي اسماعيل، وشهدت مصر السادات ظهور طبقة نهب المال العام وقيم الثراء السريع بلا جهد أو اضافة إلى ثروة البلد الانتاجية، وكان يطلق على عمليات النهب مسمى محبب إلى السادات هو مسمى العبور، فعندما يقال عبر فلان فإن المعنى هو هبر فلان فأثرى ثراءً فاحشا في برهة زمنية محدودة، ومع الزمن ظهرت على أيامه القطط السمان ثم ظهرت التيوس والحيتان ثم انتشر جراد شره نهم للحرام بكل صنوفه لا يدع أخضر ولا يابسا إلا أتى عليه حتى يوشك أن يحيل أراضي الكنانة أطلالا خربة ينوح على ذراها البوم والغربان”


“ومع مرور الزمن وتوحش الفساد والمفسدين انتهت الأمور إلى وضع بالغ الغرابة يضحك المرء فيقتله ضحكا ويبكيه فيبيته بكاء، فكلما انحدر الحال وازداد قبحا على قبح زادت جرعات الوهم والتخدير وتزييف الوعي العام والنفخ في قضايا صغيرة أو تافهة كالفوز في احدى اللعبات أو اتهام شخص في قضية آداب لتصبح قضايا جساما يتحمس لها الناس وعليها يتناقشون ويتقاتلون ويتشيعون فرقا وأحزابا، وكلما تردت الأمور ونزلت من حضيض إلى حضيض انطلقت أجهزة الاعلام حاملة البشارات بقرب المنى وتحقق الاحلام المبهرة والوعد برخاء مقيم يوشك يدق أبواب الحالمين”.


ليس لنا ما نضيفه إلى القراءات الدقيقة للمقال سوى القول للمولعين بالاسقاطات وعقد المقارنات إن اللبيب بالاشارة يفهم، أو كما يقول الأخوة في مصر “الحدق يفهم”، و”اللِّي على راسه ريشه يحسس عليها”.  

اقرأ المزيد

هزيمتان إسرائيليتان في أقل من ثلاث سنوات


لا أستطيع توقع النتيجة العسكرية للعدوان الإسرائيلي الجديد المتمثل في محرقة الإبادة ضد شعبنا الفلسطيني في غزة. لكنه منذ الآن يمكن القول أن إسرائيل تكبدت هزيمتين ماحقتين في أقل من ثلاث سنوات من عهد إيهود أولمرت. الأولى بنتيجة الحرب الظالمة على لبنان صيف العام 2006 التي بددت أساطير كثيرة عن إسرائيل الكلية القدرة. لكن المكون الأكبر في هزيمة العام 2006 كان في الدمار النفسي الهائل الذي لحق بالمجتمع الإسرائيلي والذي لا يزال يعاني منه إلى اليوم.
الهزيمة الثانية هي التي تتبين ملامحها في الحرب الجارية في غزة الآن. وهي هزيمة؛ لأنها مهما كانت نتيجتها فهي في إطار التكتيكات السياسية وليس الإستراتيجية في البحث عن حل لمشكلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن المكون الأساسي في هذه الهزيمة هو أيضاً تعمق ذلك التدمير النفسي الذي بدأت تلحقه في المجتمع الإسرائيلي علاوة ما ألحقته الحرب على لبنان. يقول الصحافي في جريدة ‘لوبوان- Le Point’ الفرنسية جان غيسنيل إن ‘الوضع ازداد سوءاً في الفترة الأخيرة، حيث إن الاستخبارات الإسرائيلية نشرت معلومات بأن حماس تمتلك الآن صواريخ أبعد مدى من السابقة ذات العشرين كلم[1]. وأثبتت الأيام القليلة الماضية أن مداها قد تخطى ذلك’. غير أن صحيفة ‘هارتز – Haaretz’ الإسرائيلية أشارت إلى أن الإسلاميين قد يصبحون قريباً قادرين على إطلاق صواريخ يبلغ مداها 70 كلم لتصبح تل أبيب نفسها هدفاً مباشراً.
يختلف المحللون بشأن إمكان دخول إسرائيل في مغامرة الاجتياح البري. لكن المعطيات تشير إلى أن اجتياحاً لمسافات معينة محتمل جداً، لكن ليس الآن بالضرورة. فالانطباع الذي خرج به غينسيل هو أن الجنرالات الإسرائيليين غير ميالين للإمعان عناداً في أخطائهم السابقة بالشعور بزهو الانتصار منذ بداية الحرب على لبنان صيف العام 2006 .  إنهم الآن يدمرون بشكل منظم كل المباني التي يعتقدون بأنها تمثل نقاط ارتكاز لحماس، بدءاً من قتل أكبر عدد ممكن من قادة المنظمة وموظفي أجهزة الأمن. ‘هذه الحرب لن تنتهي قريبا’ – يختم غيسنيل مقالته[2]. كما أن حماس تؤكد على أن المفاجآت الحقيقية للإسرائيليين لم تأت بعد.
لست من أنصار حماس لا فكراً ولا سياسة، ولا ممن يتمنون أن يبقى مصير شعبنا الفلسطيني في غزة رهن النزعة المغامرة لقادة كهؤلاء. لكن المسألة هي أن نزعة التطرف هنا تقابلها حالة أخطر من التطرف في الجانب الإسرائيلي. حيث إن كل الأمور تقرأ الآن إسرائيلياً في سياق السباق نحو الانتخابات التي ستجري في 10 فبراير/ شباط المقبل، بما في ذلك القرار بشن الحرب الحالية. وقد كشف جريف ويت في صحيفة ‘The Washington Post’  أن قرار الحرب قد اتخذ من قبل ثالوث هش في لقاء سري ضم وزير الدفاع إيهود باراك، رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني. وأن هذا القرار وجد كل التأييد من قبل بنيامين نتانياهو الواقع خارج السلطة الآن. وإذا كان أولمرت يتصرف كلاعب القمار، فإما أن ‘يغسل’ عن وجهه عار هزيمة لبنان ‘بنصر’ في غزة، وإما أن يخرج من السلطة بالعارين معاً، فإن كلاً من الثلاثة الآخرين يسعى لتجميع مزيد من نقاط الثقل السياسي عن طريق إلهاب هذه الحرب.
ما الذي يفسر التقاء تكتيكات الأعداء ‘الانتخابيين’ الإسرائيليين في مغامرة واحدة؟ وما الذي يجعل الإسرائيليين عموماً يؤيدون بغالبية ساحقة، حتى الآن على الأقل نزعة المغامرة التي لا يرى أحد من المراقبين الحصيفي الرأي من مختلف العالم غير آفاق مظلمة ستجرها على كامل المنطقة؟
الكاتب خوسيب رامونيدا يجيب في صحيفة ‘البايس – El Pais’ الإسبانية كتب محذراً اليهود من الجذر العنصري في وعيهم القومي ? الديني قائلاً ‘ما يلحق الضرر باليهود هو الوعي الملازم لهم بأنهم شعب الله المختار، الذي يقوم عليه اعتقادهم بأن قتل إسرائيلي واحد يبرر قتل 100 فلسطيني[3]’. ورغم أن الكاتب لا يذهب إلى حد مطابقة جرائم الإسرائيليين الشنيعة بالمحرقة النازية، إلا أنه يرى بأن هذا الوعي قد هيأ لأن توجد وتفّعل باستمرار آلية متكاملة للتدمير الدائم والمنظومي للشعب الفلسطيني. وفي إشارة إلى أن هذا التدمير يحمل في أحشائه تدميراً ذاتياً للمجتمع الإسرائيلي نفسه، يسجل رامونيدا في مقاله المعنون ‘شرف إسرائيل’ موقفا مهماً إذ يقول ‘.. وإنه ليتهيأ إلي أحياناً بأن غلطة الشعب اليهودي الكبرى كانت في إقامة دولة إسرائيل. وبهذا فهو ربما فقد القسم الأعظم من نفوذه. لقد حصل على سلطة ووطن محدد على الأرض، لكن الثمن أصبح باهظاً بالنسبة للجميع(4)’.
لا شك أن العنصرية الصهيونية أكثر تكلساً من الفكر ‘الحماسي’ المتزمت. ورغم أن قائد المكتب السياسي لحماس ظل حتى فترة قريبة يتهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأنه ‘لم يفهم لحد الآن أن القوة وحدها هي التي ستجبر إسرائيل على الموافقة على إعلان الدولة الفلسطينية في أراضي ,’1967 إلا أنه -وكأنه قد أدرك قبل 24 ساعة على نشوبها أن الحرب على غزة وشيكة- قال للناشر والكاتب والناشط الاجتماعي ماريك هالتز في لقائه معه الذي نشر في صحيفة ‘لا ريببليكا ?La Repubblica’ الإيطالية: ‘لو أن هابيل تحدث مع قابيل لما كان قتله[5]’.
وإجمالاً، إذا كانت حماس لم تقبل بتمديد الهدنة، وأن القادة الإسرائيليين رأوا في شن الحرب فرصتهم السانحة لتحقيق أغراض انتخابية، فإنه يبقى صحيحاً القول بأن رقصة الموت تحمل خطراً مزدوجاً يتمثل في تصاعد النزعة الإسرائيلية المغامرة نحو احتلال غزة بالكامل، غير أن هذه الحرب لن تساعد بأي شكل على حل النزاع، بل ستؤجج مزيداً من الكراهية وتمهد الأرض من أجل استمرار تعزيز قوة حماس.
وإذا كان المسؤولون الإسرائيليون كثيراً ما يرددون هذه المرة بأنهم في سعيهم لاجتثاث حماس، فإنما يحققون رغبة بعض البلدان العربية أيضاً، فليعلم القادة العرب بأن تكتيكات الإسرائيليين اقتضت مرة تقوية حماس في وجه فتح، وفي التاريخ دروس. الأهم من التخلص من حماس هو وقف سيل الدم الفلسطيني قبل أن تمتلئ المستشفيات العربية المتضامنة بالضحايا’.

[1]، [2] صحيفة ‘لوبوان – Le point’ الفرنسية، 30 ديسمبر/ كانون الأول .2008
[3] صحيفة ‘البايس- El pais’ الإسبانية، 30 ديسمبر/ كانون الأول .2008
[4]، [5] صحيفة ‘لا ريببليكا – La repubblica’ الإيطالية، 26 ديسمبر/ كانون الأول .2008

 
الوقت 5 يناير 2009

اقرأ المزيد

مجازر‮ ‬غزة والمراجعة المطلوبة


المهمة العاجلة اليوم هي إيقاف نزيف الدم الفلسطيني والضغط لإيقاف المجازر الصهيونية التي تتواصل ضد الشعب الفلسطيني في غزة الصامدة، وهي المهمة التي ما زال الموقف العربي الرسمي أبعد ما يكون عن التصدي الجدي لها.  مع ذلك فلعل العدوان الصهيوني بحجمه المرعب يكون حافزاً للتنظيمات الفلسطينية في أن تُراجع بمسؤولية موقفها من مسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية. ما من ثورة في العالم انتصرت في غياب وحدة مكوناتها. يمكننا أن نعود إلى التجربة الفيتنامية، ويمكننا أن نعود قبل ذلك إلى تجربة الثورة الجزائرية، يوم كانت جبهة التحرير الوطني إطاراً جبهوياً واسعاً استوعب فئات الشعب الجزائري المناضلة ضد الاستعمار، وأمكنها، في نتيجة ذلك، أن تلحق الهزيمة بالمستعمر وتحمله على الجلاء عن الجزائر. لن يستطيع الفلسطينيون تخطي المأزق الذي بلغته قضيتهم العادلة، التي هي قضيتنا جميعاً، إلا بالخروج من حال الانقسام المرير الذي هم فيه اليوم، والذي فاقمته الهمجية الصهيونية بعدوانها على غزة، والمرشح للتواصل في غياب إرادة دولية وعربية جادة لوضع حدٍ له. الوحدة الفلسطينية ليست مجرد استجابة أخلاقية لدعوةٍ نبيلة، إنها في الجوهر شرط سياسي لتحقيق النصر على عدو غاشم مدجج بترسانة أسلحة جعلت منه خامس أقوى جيشٍ في العالم، ومؤمن بدعمٍ دولي مريب. لإسرائيل طبيعة عدوانية خبرها الفلسطينيون والعرب على مدار ستين عاماً وأكثر، والتحضير لمعاقبة غزة عقاباً جماعياً، على النحو الدائر الآن، جاهز في أدراج قادة الأمن والعسكر الصهاينة. كل ما في الأمر كان اقتناص التوقيت المناسب، فاقتنصوه. لكن مواجهة العدوان والتصدي له ميدانياً وسياسياً ودبلوماسياً كان سيكون مختلفاً لو أن الموقف الوطني الفلسطيني كان في حالٍ غير الحال التي هو عليها الآن من تشرذم وتمزق، لا بل واحتراب معيب.
حرارة الدم الفلسطيني المسفوك تحمل حملاً على مطالبة القيادات الفلسطينية بمراجعةٍ جديةٍ لمجمل أدائها خلال الفترة الماضية. المسؤولية الأخلاقية والسياسية والتاريخية الواقعة على عاتق القادة الفلسطينيين في فتح وحماس وبقية الفصائل تلزمهم بأن يقوموا بمراجعة نقدية جدية وحقيقية، تفترض الاستعداد لممارسة النقد الذاتي وتقبل النقد من الآخر، والقدرة على الاعتراف بالخطأ، فيُقيّموا مجمل المسار الفلسطيني في المرحلة الماضية، ويؤسّسوا لرؤية مستقبلية جديدة، بعدما كشفت التجربة الخطأ الجسيم لرهانات السلطة الفلسطينية ورهانات حماس على حدٍ سواء. لسنا من ينصح الفلسطينيين بما عليهم أن يفعلوه، فمن يده في الماء ليس كمن يده في النار، ولكنّ هناك أسئلة يتعين طرحها. أيريد هؤلاء القادة التفاوض مع العدو؟ حسناً، لكن أين هي شروط التفاوض ومقوماته. الفيتناميون فاوضوا الأمريكان طويلاً على طاولة في باريس، لكن الكفاح في أدغال فيتنام لم يتوقف وقت التفاوض، لأنه هو الآخر كان أداة تفاوض حاسمة. أيريد القادة الفلسطينيون استمرار الكفاح المسلح والتحضير لانتفاضة أخرى؟ حسناً، لكن أين هي شروط الكفاح المسلح والتحضير للانتفاضة، وفي مقدمة هذه الشروط استعادة الوحدة الفلسطينية. كل خيار له شروطه ومستلزماته وتبعاته، ومنظومة تدابير متصلة به، بينها تدابير الإدارة الدبلوماسية له، بطريقة مخاطبة العالم العربي والمجتمع الدولي، لكي نضمن لهذا الخيار فرص نجاحه.
 
الأيام 5 يناير 2009

اقرأ المزيد

رحيل “هنتنجتون”.. والعدوان على غزة؟

لربما مشيئة الأقدار والمصادفات وحدها، هي التي جعلت من رحيل واحد من كبار مخططي ومنظري السياسة الخارجية الأمريكية الذين برزوا على وجه الخصوص بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينيات القرن الماضي يحمل مغزى في توقيته غير خافي الدلالة، حيث جاء هذا الرحيل عشية اليوم الذي شنت فيه قوات الاحتلال الصهيوني عدوانها الوحشي الغادر على سكان قطاع غزة المدنيين في 27 ديسمبر الماضي، باسم القضاء على منظمة حماس “الارهابية”.
 اشتهر المنظر السياسي الأمريكي الراحل صمويل هنتنجتون بمؤلفه الشهير الذي صدر غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحديداً عام 1996م والموسوم “صدام الحضارات” حيث لخص فيه فكرته التنظيرية التنبؤية لشكل ومحتوى الصراعات الدولية والعالمية الجديدة المقبلة بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق بأنها صراعات لن تقوم على أسس ذات جذور ودوافع أيديولوجية او قومية، بل لأسباب دينية وثقافية ناجمة عن تصادم وتناقض الحضارات الكبرى القائمة في العالم، ومن ثم فإن الحضارات وليست الدول القومية القائمة هي التي ستكون اللاعب السياسي المركزي في القرن الحادي والعشرين.
كما كانت لهنتنجتون تنظيرات سياسية أخرى ذات نزعة عنصرية بتحذيره من مخاطر المهاجرين، وكان يرى في الستينيات بأنه ليس بالضرورة أن يفضي التقدم الاقتصادي والاجتماعي التحديثي الذي يجري في البلدان المستقلة إلى قيام ديمقراطيات مستقلة فيها.
ولم تكن فكرة وتحليل الصراع الدولي الجديد القائم على الصراع الديني الحضاري قد تبنتها بوضوح وبشكل علني رسمي خطط السياسة الخارجية الأمريكية سواء في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون ام في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن الموشكة ولايته الثانية على الانتهاء.
لكن عملياً كان مخططو وراسمو السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة يتبنونها ويأخذون بها، ويعتبرون الدين يلعب دوراً محورياً في صراعات المستقبل، وينبغي تجيير المنظمات الدولية لخدمة مصالح الغرب وفق هذه الحقائق الجديدة، وينبغي أن تصدر قرارات هذه المنظمات في صورة معبرة عن إرادة المجتمع الدولي شكلياً، وان لا أمل في تحول مجتمعات البلدان الإسلامية إلى العلمانية، وان ما يميز هويتها هو “الإسلام الأصولي”، وان الصراعات العسكرية بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية استمرت قرونا وستستمر أكثر ضراوة مستقبلاً، وان الازدياد السكاني للعالم الإسلامي سيسبب المزيد من المشكلات لأوروبا لما يترتب عليه من زيادة في هجرات المسلمين صوب الغرب.
ولعل هنتنجتون هو المنظر السياسي الثاني الأبرز في طرح نظريات جديدة لتبرير الحملات والصراعات الجديدة التي تقودها أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة بغرض تزييف حقائقها إلى جانب المنظر الأول “فوكو ياما” الذي أعلن نهاية التاريخ بنهاية الاتحاد السوفييتي، بمعنى أن التاريخ العالمي انتهى بسيادة النظرية الرأسمالية وفشل النظرية الشيوعية او الاشتراكية.
لكن كلتا النظريتين اللتين طرحهما كل من هذين المنظرين الأمريكيين تواجهان الآن اختباراً حاسماً لستر تهافتهما الصارخ أكثر من أي وقت مضى، فلئن صح انه لم تقم حتى الآن قوى عظمى جديدة ندة لأمريكا تقوم على تجديد الفكر الاشتراكي، فإن النظرية الرأسمالية نفسها في ضوء ما تمر به نماذجها الكبرى، وعلى الأخص النموذج الأمريكي من أزمة مالية طاحنة، طاول شررها كل بقاع العالم من دون استثناء تواجه تحدياً استثنائياً تاريخياً في إثبات أنها النموذج الإنساني المثالي الأرقى القادر على الصمود من دون هزات أو أزمات تعصف بالسواد الأعظم ليس في بلدان العالم الثالث بل داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها.
اما نظرية صدام الحضارات لهنتنجتون فقد أثبتت تطورات الأحداث هي الأخرى كما ذكرنا، زيفها وتهافتها بامتياز، فالحرب على الإرهاب التي شنها جورج بوش تحت غطاء غير معلن لهذه النظرية لقيت معارضة شديدة ليس من البلدان العربية والإسلامية فقط، بل من داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها، وعلى رأسها الولايات المتحدة وذلك بعد حصادها المستمرة فصوله المأساوية الكارثي ليس على شعوب تلك البلدان فحسب، وعلى الأخص العراق وأفغانستان، وفلسطين، بل حصادها الكارثي المالي على الولايات المتحدة نفسها بسبب عسكرة الاقتصاد الأمريكي.
ولئن كانت سقطات وزلات لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد فضحت جانباً من مضامين وجوهر حربه المزعومة على “الارهاب” على اثر احداث سبتمبر 2001م حيث كان من ضمن ما تلفظ به ما مؤداه استعداده لشن حرب صليبية جديدة على الإسلام، فلعل وزير العدل الأمريكي هو أكثر من عرى صراحة مؤخرا الخفايا الحقيقية العنصرية لهذه الحرب ضد العرب والإسلام والمسلمين، وقد جاءت تعريته لهذه الأهداف الخبيثة لتلك الحرب ذات مغزى أيضا في توقيتها لتزامنها مع رحيل هنتنجتون والحملة العدوانية الوحشية الإسرائيلية الأخيرة على غزة والمدعومة أمريكيا تحت شعار القضاء على “حماس” كحركة “إرهابية” أصولية إسلامية، وليس كحركة تحرر وطني تقاوم احتلالاً تدينه الشرعية الدولية كما يفترض.
اذ يقول كلارك في حوار له مع قناة “روسيا اليوم” إن الحرب الأمريكية على الإرهاب ليست سوى حرب على الإسلام والمسلمين، وهي تظهر أن الإسلام دين عظيم يجب احترامه وهو لا يقل شأنا عن المسيحية، وينبغي عدم التقليل من شأنه او الاستخفاف بمعتنقيه او الدور الذي يلعبونه على الساحة الدولية في عالم اليوم، وأدان كلارك عدم تمييز إدارة بوش، في حربها على “الإرهاب”، بين “الإرهابيين” الحقيقيين ومعتنقي الدين الإسلامي الأبرياء في أمريكا وخارجها، خاصة أن من قتلوا في أحداث سبتمبر على حد تعبيره 10% من مجموع من طاولهم الإرهاب الرسمي بعدئذ في الولايات المتحدة نفسها. ويضيف في العراق ارتكبنا أعظم الجرائم في العصر باسم هذه الحرب، فقد قتلنا مليون إنسان وتسببنا في تهجير 6 ملايين إنسان من الناس العزل الأبرياء.
 
أخبار الخليج 5 يناير 2009

اقرأ المزيد

التضامن مع غزة.. المستويات والدلالات


تنطوي أشكال وأحجام ومستويات التضامن الشعبية والاحتجاجات الجماهيرية التي انطلقت في عواصم ومدن عدد من البلدان العربية على مغزى ودلالات سياسية خاصة، على درجة من الأهمية، فبقدر ما تعكس تلك الأشكال والمستويات الاحتجاجية ترمومتر حال الشعور القومي العربي والإسلامي والإنساني للقضية الفلسطينية، بقدر ما غدت أشكال التضامن مع هذه القضية المركزية للعرب تعكس مدى رحابة صدر معظم الحكومات العربية حتى بهذه الأشكال من الاحتجاجات الجماهيرية والتي كانت منذ خمسينيات القرن الماضي حتى سبعينياته عادية ومن المسلمات وأبسط الحريات العامة المسموح بها من قبل تلك الحكومات، طالما هي مخصصة لغاية محددة هي إبداء التضامن مع الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية واستنكار وشجب الاعتداءات الإسرائيلية عليه أو على شعوب البلدان العربية.
اليوم باتت معظم الأنظمة العربية، ونظراً لتداخل أجندات القضايا القطرية الملحة، سواء المتصلة بالقضايا المعيشية، أم تلك المتصلة بقضايا الحريات والحقوق الدستورية وقضايا حقوق الإنسان.. إلخ، تداخلا مع أجندة القضايا القومية، وعلى الأخص الفلسطينية، يصعب فكه أو تجاهله، وهو ما تدركه جيدا جل هذه الأنظمة فقد أصبحت هذه الأخيرة تحسب ألف حساب للسماح باحتجاجات ومسيرات قد تتداخل وتترابط قضاياها الوطنية بالقومية على نحو لا مناص منه. ومن ثم فإن غالبية هذه الأنظمة تجد لا مفر لها من فرض قيودها الأمنية على تلك المسيرات الجماهيرية، سواء العفوية منها أم المنظمة مهما تمادى العدوان الصهيوني في جرائمه ومجازره المنهجية اليومية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة.
كما أن الانقسام والصراع الفلسطيني المتواصل بين “فتح” و”حماس” حتى في عز ارتكاب العدو المذابح الحالية المتواصلة ينعكس هذه المرة بوضوح سلبيا على روح ومعنويات الاحتجاجات الجماهيرية العفوية والحركات السياسية العربية على السواء. فكيف يمكن إدانة الصمت الرسمي العربي أو إدانة الأنظمة لممارساتها القيودية والتضييقية على تلك الاحتجاجات الشعبية وسائر أشكال الفعاليات التضامنية في الوقت الذي لم تستطع فيه نوافير الدم الفلسطيني المسفوكة وأشلاء الأطفال الممزقة توقيف ذلك الانقسام والصراع على السلطة والحرب الإعلامية التخوينية الطاحنة المتبادلة بين الجانبين؟
ومثلما الانقسام الفلسطيني يترك آثاره السلبية على حجم ومستوى وقوة الاحتجاجات الشعبية ضد المجازر الصهيونية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني، والتضامن مع القضية الفلسطينية وسائر فعاليات وأشكال التضامن معها، فإن الانقسامات الشعبية العربية بدورها على مستوى الجبهات الداخلية في غالبية البلدان العربية تترك أثرها وتعكس نفسها على فاعلية وقوة الاحتجاجات الشعبية، وعلى حجم ومدى اتساعها وعلى قوة سائر أشكال التضامن الأخرى. ولهذا ليس غريبا ان نجد ومنذ سنوات في تلك الأقطار العربية مسيرات تضامنية مع فلسطين خاصة بكل تيار على حدة، وبكل طائفة أو مجموعة من الأحزاب على حدة، وهذه بلا شك واحدة من المفارقات التاريخية الراهنة الساخرة المؤلمة لما بلغته الأوضاع العربية على
المستويات القطرية والقومية من تدهور ومآس تراجيدية متفاقمة ومتصلة وبخاصة اذا ما نظرنا كيف كانت القضية الفلسطينية تكاد تكون هي الأجندة الوحيدة والراية التوحيدية الوحيدة التي تلتف حولها وتيرات كل الرايات ومختلف ألوان الطيف السياسي في كل الأقطار العربية بلا استثناء على امتداد الوطن العربي من المحيط الى الخليج.
ولئن كان بروز أقوى هذه الاحتجاجات وأشكال التضامن مع غزة، قد جرى في العالم العربي ليعكس أولوية وقوة الإحساس القومي المشترك تجاه القضية الفلسطينية على غيره من الاحاسيس الأخرى فإن من اللافت هذه المرة الذي لا يخلو من دلالة أن تأتي بعض هذه الفعاليات الاحتجاجية في الأقطار العربية الأكثر تضررا بالحروب والصراعات الداخلية كما جرى في العراق والسودان، وعلى الأخص في دارفور الجريح، فضلا عن لبنان جرت أقوى الاحتجاجات العربية بالرغم من انه لم يتعاف بعد من آثار الاعتداءات والاجتياحات الصهيونية السابقة، وعلى الأخص عدوان الـ 33 يوما الذي جرى في صيف 2006 . وإذا كانت مسيرات لبنان لم تخل من رموز وطنية غير عربية وعلى الأخص من قبل الأرمن، فإن أكراد العراق الذين يرتبطون مع أشقائهم العرب العراقيين في المصير الواحد المشترك بدا إقليمهم وكأنه يعيش في كوكب آخر غير معني البتة بما يجري في العالم العربي. ومع أن الجزائر المعروفة بـ “بلد المليون الشهيد”، والتي ظلت طيلة عقود تحتضن قيادات ومؤتمرات الثورة الفلسطينية وتمدها بكل أشكال الدعم السياسي والعسكري والمالي، وعلى الرغم مما هو معروف عما مرت وتمر به من أزمة داخلية مديدة ترقى الى شكل من أشكال الحرب الأهلية التي لا تقل خطورة عن الحرب اللبنانية، وبالرغم كذلك مما هو معروف عن قوة التيار الإسلامي فيها، فإن الغضب الشعبي تجاه الجرائم الصهيونية نجحت القيود الأمنية المشددة في منع انفجاره في ظل رئيس لطالما عُرف بمساندته للثورة الفلسطينية خلال الحقبة البومدينية.
 
أخبار الخليج 4 يناير 2009
 
 
 

اقرأ المزيد

عزمي بشارة يكتب بيان غزة

 

 


 


 


 

  • العدوان على قطاع غزة استمرار للحصار بوسائل أخرى، فالحصار عدوان والقصف عدوان. وعندما فشل الحصار التجويعي على القطاع في كسر إرادة أهلها، لم يعد ممكنا الاستمرار في إحكامه فترة طويلة، وأصبح محتما لمن يريد الاستمرار في نفس النهج لتحقيق نفس الهدف أن يقوم بعملية عسكرية.
  • كان واضحا أن هذا “الاستحقاق” سيحل مع نهاية مرحلة ما سميت زورا وبهتانا بالتهدئة. كانت التهدئة عدوانا مسكوتا عنه، كانت عدوانا يرد عليه بتهدئة، كانت حصارا تجويعيا دون رد. وكان واضحا أن العدوان سيحل مع المزاودة بين القوى السياسية الإسرائيلية في التنافس الدموي على كسب قلب الشارع الإسرائيلي المجروح الكرامة من لبنان.
  • كان واضحا أن من لم يأت إلى حوار القاهرة للاعتراف بانتصار الحصار وبنتائجه السياسية المستحقة سيدفع الثمن. كانت هذه هي الفرصة الأخيرة التي يلام عليها من لم يستغلها.
  • تماما كما أعذر من أنذر ياسر عرفات عندما لم يقبل بكامب ديفد، وكما أعذر من أنذر سوريا بعد الحرب على العراق، ومن أنذر حزب الله على طاولة الحوار التي سبقت يوليو/تموز 2006.
  • جرى التحضير للعدوان بعد تنسيق أمني سياسي مع قوى عربية وفلسطينية، أو إعلامها على الأقل، حسب نوع ومستوى العلاقة.
  • يتراوح موقف بعض القوى العربية من إسرائيل بين اعتبارها حليفا موضوعيا ضمنيا حاليا أو حليفا مستقبليا سافرا، وبين اعتبار النقاش معها مجرد سوء تفاهم، في حين تعتبر نفس هذه القوى الصراع مع قوى الممانعة والمقاومة صراعَ وجود.
  • لا تناقض بين تنسيق العدوان مع بعض العرب وبين إدانة العدوان الصادرة عنهم، بل قد تكون الإدانة نفسها منسقة. ويجري هذا فعلا بالصيغة التالية “نحن نتفهم العدوان ونحمل حركة حماس المسؤولية، وعليكم أيضا أن تتفهموا اضطرارنا للإدانة.. قد نطالبكم بوقف إطلاق النار، ولكن لا تأخذوا مطلبنا بجدية، ولكن حاولوا ان تنهوا الموضوع بسرعة وإلا فسنضطر إلى مطالبتكم بجدية”.
  • من يعرقل عقد القمة يريد أن يأتيها بعدما تنهي إسرائيل المهمة، ومن يذهب إليها في ظل القصف الإسرائيلي الآن يعرف بعقل وغريزة السلطان أنه رغم التردي العربي فإنه ما زال الذي يقف مع إسرائيل يخسر عربيا.
  • عندما قرر جزء من النظام العربي الرسمي أن إسرائيل ليست عدوا، بل ربما هي حليف ممكن أيضا، صارت دوله تتحين الفرص للسلام المنفرد، وتدعم أية شهادة زور فلسطينية على نمط “عملية السلام”، وعلى نمط “لا نريد أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين”.. أصبحت مقاومة إسرائيل شعبية الطابع، وهي تحظى بدعم من جزء من النظام العربي الرسمي لأسباب بعضها تكتيكي وبعضها إستراتيجي.
  • من اتجه للتسوية منع المقاومة الشعبية من بلاده، ولكنه لم يستطع شن الحرب عليها في البلدان التي بقيت فيها مقاومة. وقد دامت المقاومة فقط في البلدان التي تضعف فيها الدولة المركزية ولا يمكنها منع المقاومة: السلطة الفلسطينية، لبنان، العراق.
  • ومن هنا يستعين هذا المحور العربي بإسرائيل مباشرة لضرب المقاومة. ففي العام 1982 صمت هذا المحور على العدوان على المقاومة وحاول أن يحصد نتائجه فيما بعد، وهذا ما جرى عند حصار المقاطعة. أما في يوليو/تموز 2006 وما يجري في ديسمبر/كانون الأول 2008، فقد كان التنسيق سافرا.. هذا هو الجديد.. فقط اللغة المستخدمة في وصف هؤلاء لم تعد واضحة وحاسمة، ولم تعد تسمي الأشياء بأسمائها.
  • العالم -بمعنى الرأي العام العالمي- مصطلح وهمي، والشرعية الدولية مصطلح عربي.. لو فشلت المقاومة اللبنانية في الدفاع عن ذاتها، لما نفعها مجلس أمن ولا برلمان أوروبي، ولانتقلت شماتة “المعتدلين” إلى التبجح وحصد نتائج انتصار إسرائيل الذي لم يأت.
  • انتهى موضوع الديمقراطية عربيا كأجندة غربية، لفظت مصداقيتها أنفاسها الأخيرة، فهي إما أن تكون عربية أو لا تكون: أميركا تتعامل مع كل عدو لإسرائيل بمن فيهم أعداء الاحتلال الإسرائيلي كأعدائها، حتى لو كانوا منتخبين ديمقراطيا. أما حلفاء إسرائيل فهم حلفاؤها حتى لو كانوا دكتاتوريات.
  • حصار السلطة الفلسطينية المنتخبة وعدم منحها فرصة، وتفضيل شروط وإملاءات إسرائيل على انتخابات ديمقراطية وعلى إرادة الشعوب، فضحت قذارة الحديث الأوروبي عن الأخلاق في السياسة، فأوروبا هي الأقل أخلاقا خارج أراضيها.
  • العالم” لا يتضامن مع ضحية لأنها ضحية، هذا ما يقوم به بعض النشطاء الأخلاقيين الصادقين.. ولا “شرعية دولية” تُعِينُ مهزوما، أو تهرع لتأخذ بيده على إحقاق حقوقه، أو على تنفيذ القانون الدولي. “العالم” يتضامن مع ضحية تقاوم لأنها على حق وتريد أن تنتصر.. والشرعية لمن لديه القوة أن يفرضها.
  • الأساس هو الصمود على الأرض، الأساس هو قلب حسابات العدوان بحيث يدفع المعتدي ثمنا. هذا ما سيفرض نفسه على القمة العربية، وهذا ما سيفرض نفسه على الهيئات الدولية.
  • التضامن المسمى إنسانيا مع الضحية لا يدعو للحقوق بل للإغاثة، ولا معنى للتضامن السياسي المطلوب عربيا، إذا لم يدعم صمود المقاومة. والإغاثة عمل مهم ولكنها ليست هي التضامن.
  • خطأ الحديث عن تضامن فلسطيني، أو تضامن الضفة أو الشتات مع غزة.. هذه نفس القضية، ونفس المعركة ويجب أن تخاض. ولا أحد يسدي لأحد معروفا هنا.
  • حتى الأعداء يعالجون الجرحى في الحروب، وحتى الأعداء يسمحون بدخول قوافل الأدوية والغذاء.. هذا ليس عملا تضامنيا، ولا هو أضعف الإيمان.
  • يجب ألا يتحول التضامن العربي الانفعالي إلى تنفيس عربي، فبعده تستفرد إسرائيل بنفَسها الطويل بالشعب على الأرض. ومن أجل ذلك يجب وضعُ أهدافٍ سياسية له، أهمها أن تخسر إسرائيل المعركة سياسيا، وذلك بإضعاف ومحاصرة التيار الذي يؤيد أي تسوية معها.. وهذا نضال تصعيدي حتى تحقيق الهدف، حتى يحصل تراجع بعد آخر لإسرائيل والقوى المتعاونة معها على الساحة العربية.
  • يمكن إفشال العدوان.


 28 /12/200   عن الجزيرة

 
د. عزمي بشارة هوعضو سابق في البرلمان الإسرائيلي “الكنيست”، رئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة
 

اقرأ المزيد