­

المنشور

مذبحة غزة – استان!

ستظل صور أشلاء جثامين الأبرياء – خاصة الأطفال- ضحايا مذبحة قطاع غزة أو ‘غزة – استان’ عالقة في أذهاننا لفترة طويلة، تلاحقنا في اليقظة والمنام. وحيث إن الهيجان العاطفي من المشاعر القومية والدينية الجيّاشة (زادنا الأمثل) منفلتة من عقالها، متجاوزة درجاتها القصوى في الظرف الآنيّ، فإنه من الصعوبة بمكان في الوقت الحاضر أن نعيد ترتيب الحسابات الخاطئة وتحليلها وفق العقلانية الغائبة أصلا عن الزمان والمكان العربيين. لابد أن يمر بعض الوقت للعودة إلى الإحساس العقلاني السويّ ومبارحة حال التأجج العاطفي الأصمّ. على أن الصورة النهائية أو الترتيبات الأولية لوضع نهاية لهذه المأساة الإنسانية أصبحت واضحة من خلال الاقتراح المصري/الفرنسي ذي النقاط الاربع المتمثلة أولا في: وقف صواريخ حماس والإمدادات العسكرية لها في هذا السياق؛ حتى نتحصن عن مرمى اللؤماء ونتحاشى نعيهم لنا بصفة التخوين والجبن المجانيين، نقول بصدق.. في هذا الظرف العصيب لا يوجد أصلا اختلاف بين من يفكر بقلبه/عاطفته ومن يفكر بعقله حول الضرورة الآنية القصوى في عضد المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل المتاحة والمبتكرة ومحاولة كسر الهيبة العسكرية الإسرائيلية والهيمنة المتطرفة لليمين الإسرائيلي وخطته العدوانية والعمل على تقليل الخسائر، خاصة في الأرواح البريئة. ولكن السؤال كيف.. وهل من سبيل؟! في وقت يعاني فيه الطرف المقاوم من ضعف بيّن وشرخ لا مثيل له من قَبْل. بالإضافة إلى مؤشرات الاستمرارية في سياسة تكتيك ‘ركوب الرأس’ والهروب إلى الأمام وتحدي مرارة الواقع الأليم بلغة عاطفية وخطاب حماسي لا يسمن ولا يغني من جوع!
ألا يمكن مثلا ابتكار فكرة تأسيس جيش مليوني من المتطوعين المستعدين للذهاب إلى ساحة الوغى؛ بُغية نيل خلود الشهادة؟! إذاً .. علام يصرخ الآلاف إن لم يكونوا مستعدين لنجدة إخوانهم في العروبة والدِّين والحق الإنساني؟! لماذا الأنظمة العربية والإسلامية- الأكثر استبدادية- ترتب حشد مأجوريها/موظفيها وتحولهم إلى الشارع؛ بُغية تبيان تأييد وهمي لنضال أهلنا في غزة في معركة تتفنن الفضائيات في نقلها، حيث لا يتوانون هؤلاء، وهم في نشوة غوغائهم عن رفع الأحذية (الوسيلة النضالية الجديدة للعرب)! وحرق الأعلام الإسرائيلية والأميركية وصور القائد الفلسطيني محمود عباس!
لعل الغائب الأكبر في المعادلة الحالية هو السلاح الأمضى والأقوى بما لا يقاس للمقاومة الفلسطينية أي وحدة الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني الذي يعاني انقساما وشرخا لا يمكن ترميمه بسهولة، بعد انقلاب حماس في 14 يونية ,2007 الأمر الذي حدا بالآلة العسكرية الإسرائيلية من العدوان ومكنها في إعادة المواقع الخاسرة سابقا (المادية والمعنوية) وسهّل لها تسجيل سيطرة واضحة على الأرض، حيث إن خطة الدولة العبرية تتلخص الآن في تفتيت القطاع إلى قطاعات ومدّ توغله الواسع وفرض شروطه، على رأسها اتفاقية دولية ملزمة بحظر إطلاق صواريخ المقاومة بجانب مراقبة المداخل والمعابر الحدودية بدقة. ليس أقل من هذا سيكون على الطاولة في انتظار حماس، المجبرة على توقيع صكّ الغفران!
ألا يجدر بنا التساؤل عن الجدوى من فرض قوى اليمين الديني الفلسطيني (حماس وجهاد) بالتحالف مع بعض القوى القومية/اليسارية المتطرفة خطتهم ‘التحررية’ لكامل الأرض الفلسطينية وانجرارهم إلى حسم المعركة في وقت غير مناسب ألبتّة والوقوع في شرك الفخ الإسرائيلي وإعلانهم لـ دعوة ‘جهادية’ شاملة، انطلاقا من عبثية الرؤية وقصورالبصيرة السياسية والحسابات الخاسرة، المتعلقة بانتهاء مهلة الهدنة (على هشاشتها) وتعليقها من طرف واحد، حيث تحول هذا الى الجحيم الذي حصد حتى الآن مئات من القتلى تجاوزت الـ 700 وقد تصل إلى الألف أو أكثر بجانب آلاف المصابين مقابل سقوط حوالي عشرة إسرائيليين، النسبة التي تجسّد بوضوح ميزان القوى المختل لصالح العدو الإسرائيلي (واحد إلى مئة)، إن لم نحسب الخسائر المادية/العمرانية. تجدر الاشارة في هذا الصدد أن الحكومة الروسية حذرت في حينه حماس مرارا وتكرارا – أيام قبل العدوان- وحثّتها بصدق أن لا تنهي الهدنة من طرف واحد، مما ينكشف الآن أنه كانت لدى الروس المعلومات الكافية لخطورة الوضع والاستعدادات الإسرائيلية الباحثة عن ذريعة للعدوان، لتصب نتائجه في مصلحة النّخب السياسية من الصقور، المتنافسين في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.
هل من الممكن بعد هذا الثمن الباهظ أن تتمكن القوى الجهادية والحماسية الفلسطينية من تعلم الدرس البليغ ألا وهو استحالة الاستمرار في خطاب العناد والتحدي، والاتكال على قوة السماء في حساباتهم العسكرية المادية والرهان على عضد الأنظمة والقوى الحليفة العربية والإسلامية والجماهير العربية للمجيء إلى نجدتهم؟! فالمطلوب – قبل كل شيء- التخلص السريع من الاستراتيجية الاستحواذية للسلطة والحلم الطوبوي/الخيالي في تشييد الإمارة ‘الإسلامية’ على أمل تشييد مثيلاتها في ديار الإسلام قاطبة في سبيل عودة الخلافة الإسلامية وانتشار رايتها الخفاقة في العالم أجمع! بجانب ضرورة الرضوخ إلى الحسابات العسكرية الدقيقة لميزان القوى المحلية والدولية والعودة إلى رأس الحربة الفعلية وصمّام الأمان للنضال الفلسطيني المتمثل في وحدة الصف الفلسطيني، السبيل الأمثل لإعادة اللّحمة للكفاح المشترك بعيدا عن الخلافات الايديولوجية والعقائدية.

صحيفة الوقت
10 يناير 2009

اقرأ المزيد

غزة.. ورسائل المسيرة الإسطنبولية

مع ان المظاهرة الاحتجاجية الكبرى الاسطنبولية المليونية ضد العدوان الاسرائيلي على غزة التي جرت الاسبوع الماضي غداة الاجتياح البري قد فاجأت في حجمها ليس العالمين العربي والاسلامي فحسب بل العالم بأسره، ومع ان قوى ورموزا يسارية وديمقراطية ونقابية تركية شاركت وجماهيرها فيها، إلا ان ثمة أكثر من رسالة أراد من خلالها منظمو هذه المسيرة، التي كان للقوى الاسلامية الدور والثقل الاساسي فيها، توجيهها من خلالها، أي ليس مجرد رسالة احتجاج على العدوان الصهيوني على قطاع غزة، او التعبير عن ألم الضمير التركي المسلم وسخطه ونقمته من المجازر الوحشية التي ارتكبها بحق أهلها المسلمين. وهنا نكاد نلمس أو نشم عدة رسائل اخرى في آن واحد متداخلة وغير خافية على اللبيب المتتبع بإمعان لهذا الحدث التركي الكبير ودلالاته وذلك على النحو التالي: الرسالة الأولى: تتمثل باختصار في حجم المسيرة، فهذا الحجم الذي فاق كل التوقعات لا يمكن التسليم بأنه جاء كله مصادفة أو عفويا من دون تعبئة أو تنظيم مسبق، فالعنصر التنظيمي واضح جدا، إن في كلمات المتحدثين الذين تناوبوا على القاء الخطب الحماسية الملتهبة في ذلك الحشد الجماهيري الكبير الهادر، وإن في اعلام وشعارات القوى والاحزاب التي شاركت في هذا الحشد. ومع ان حزب السعادة الاسلامي الصغير في الحجم هو الذي أعلن تنظيم المسيرة إلا انها كانت مدعومة من النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، فضلا عن القوى الاسلامية الاخرى وقوى اليسار، ناهيك عن قواعد وأنصار حزب العدالة الاسلامي الحاكم. وبذا فإن مسيرة بهذا الحجم المنظم أريد منها استعراض أيضا لقوة التيار الاسلامي، واظهار ما بلغه من قوة متنامية في المجتمع التركي.. وهذه رسالة ليست موجهة إلى النخبة السياسية العلمانية التركية داخل الدولة والجيش والمجتمع فحسب، بل إلى اوروبا، لتأخذ بعين الحسبان من الآن صعود هذا التيار وتنامي حجمه، ولاسيما ان هذه المظاهرة المليونية انطلقت من قلب واحدة من اعرق المدن التركية عرفت بأنها من اكبر معاقل العلمانيين وعلى خط تماس حضاري مباشر مع اوروبا ألا هي «اسطنبول«. الرسالة الثانية: وهي رسالة تتداخل وتترابط مع الرسالة الأولى ومؤداها ان لا مسوغ بعد الآن لاتهام «الاصولية التركية«، وعلى الأخص التي تنتهج الشرعية الدستورية كطريق مشروع للمعارضة والتغيير السياسي، بـ «التطرف« أو «الإرهاب«. فرغم ضخامة المسيرة، ورغم تعدد ألوان الطيف السياسي المشارك فيها، ورغم هتافاتها الحماسية الصاخبة والجريئة، فإنها اتسمت بالهدوء ودقة التنظيم دونما ان يتخللها أي شكل من اشكال العنف والتخريب، وهذا ما يحسب لمنظميها وللمشاركين فيها، وعلى الأخص القوى الاسلامية.
الرسالة الثالثة: لما كان الدور الخلفي الذي لعبه الحزب الاسلامي الحاكم «العدالة« في المسيرة غير خاف على أحد، فقد ارادت السلطة الحاكمة من تلك المسيرة ارسال رسالة لليمين العلماني في تركيا وللغرب في ذات الوقت، وعلى رأسه امريكا، ان مصالحهم وعلاقة تركيا بالغرب ليست بمنأى دائما عن التعرض للاهتزاز، ولو وفق ضوابط محددة ومحسوبة، إذا ما استمر اليمين العلماني داخل الدولة والجيش، وعلى مسرح الحياة السياسية عامة، واذا ما استمر معه الغرب في تجاهل مشاعر الشعب التركي الاسلامية، ومن ذلك الاستمرار في تغريبه عن محيطه الشرقي والاسلامي، وما يربطه به من مصالح جيوسياسية وقضايا مصيرية مشتركة، وعلى الأخص القضية الفلسطينية كقضية تهم كل المسلمين لا العرب وحدهم. ولم يتردد رئيس الوزراء في حديث له مع «الجزيرة« في التلميح بامكانية استخدام ورقة طرد السفير الاسرائيلي في تركيا بعد ان وجه انتقادا قويا عقلانيا ومتوازنا ضد الهجوم الاسرائيلي على غزة. وبمعنى آخر فان هذه الرسالة ارادت ان تقول انه كفى لعملية التغريب المديدة التي سارت عليها الدولة التركية الاتاتوركية العلمانية المتحالفة مع الغرب منذ أكثر من ثمانية عقود متواصلة بإبعاد تركيا ليس عن محيط جوارها الشرقي فحسب، بل عن أهم فضاء اسلامي تاريخي جيوسياسي واستراتيجي ظلت تبسط هيمنتها ونفوذها عليه طوال ما يقرب من اربعة قرون. ولذا فليس خال من الدلالات والمغزى المقصود حينما عمد أحد الخطباء في تلك المسيرة الاسطنبولية الحاشدة تحت المطر وفي درجة حرارة تقترب من الصفر بتعليل ما حدث للعرب من نكبات متعاقبة، زرع الدولة الصهيونية عام 1948 وصولا إلى عدوانها الاخير على غزة، ما كان ذلك ليحدث لو لم يتم اسقاط وتفكيك الامبراطورية العثمانية، على حد زعمه. ومن ثم فان الرسالة ارادت ان تعبر في ذات الوقت عما يداعب الاسلاميين من طموحات وأحلام تاريخية لإحياء مجد الامبراطورية العثمانية الغابر، ولو بدءا من النطاق التركي الحالي كخطوة أولى. الرسالة الرابعة: وهي رسالة تكاد تكون ضمنيا موجهة إلى إيران كدولة فاعلة في البيئة الاقليمية ومفادها ان تركيا تستطيع ان تجذب العالم الاسلامي بوقوفها مع القضايا الاسلامية بخطها الوسطي العقلاني المعتدل والمؤثر في ذات الوقت مقارنة بالخط الثوري الكلامي المتشدد الذي تنتهجه طهران وعلى الأخص رئيسها أحمدي نجاد. ومغزى الرسالة بلا شك ذو دلالات بعيدة المدى إذا ما تذكرنا جيدا ما عاشته الدولتان المختلفتا المذهب تاريخيا من صراع سياسي مذهبي مرير على كسب مناطق النفوذ في المنطقة ابان الامبراطورية العثمانية وقيام الدولة الصفوية في إيران. فتركيا أرادت أن تقول من خلال هذه الرسالة انه ليس صحيحا ان خط طهران الثوري المتشدد هو دائما البديل الذي يمثل خشبة الخلاص لمحن ومآسي العالم الاسلامي. بل انه يوجد خط آخر تمثله تركيا الحالية ويعكس النهج العقلاني المعتدل والمتوازن والمبدئي في آن واحد كما يعبر عنه حزب العدالة الحاكم والقوى الاسلامية الاخرى، وانه اذا كانت طهران رغم صراخ اعلامها الرسمي المدوي في شتم اسرائيل وتهديدها بمسحها بجرة قلم من الخريطة السياسية كما هدد رئيسها قد عجزت حتى الآن عن تنظيم مسيرة واحدة تقدر ولو بمائة ألف مشارك فان تركيا قادرة على تنظيم مسيرة تضامنية مع غزة تربو على مليون محتج، ولا تخلو من البعد الشعبي العفوي بلا اجبار او تحريض رسمي، كما هي في الغالب المسيرات الايرانية المتضامنة مع فلسطين في ظل تفاقم عزلة النظام عن الشعب.
 
صحيفة اخبار الخليج
10 يناير 2009

اقرأ المزيد

تجربة السوفيت في هزيمة النازية

كانت الستالينية والنازية متقاربتين في جوانب عديدة من حيث هيمنة الرجل الواحد والحزب الواحد واتخاذ القمع الشامل كوسيلة للحكم، رغم المضامين المغايرة لكلا التجربتين. وما بدا مشتركاً بينهما هو تلك الشمولية لكلا النظامين، رغم التباين التاريخي بينهما، حيث جاءت النازية كتتويج لحكم الاحتكارات وقوى الاستغلال الألمانية المتأخرة في نموها الرأسمالي والسيطرة على المستعمرات، مما جعلها تقوم بعسكرة الحياة الاجتماعية، والدخول في مغامرات حربية على المستوى الداخلي والقاري الأوروبي، ومن دون أن تكون لها تجربة ديمقراطية عميقة كأقطار أوروبا الغربية خاصة إنجلترا وفرنسا. فجاء هتلر تعبيراً عن غياب هذا العمق الثقافي الديمقراطي، واستخداماً لعامية شرسة في إدارة شؤون الرأسمالية الحديثة، فوظف تلك العسكرية المتجذرة في المجتمع الألماني للفتوحات، كما اعتمد على مستوى الصناعة المتطور. في حين جاء ستالين في نظام مغاير، وكان قد أسس مؤسساته السياسية الشعبية في غياب الديمقراطية، فكرس السلطة في مؤسسات الدولة، وغابت الديمقراطية عن الحياة الاجتماعية، وأُبعدت الأحزاب وغُيبت الصحافة الحرة والثقافة الديمقراطية الغربية الإنسانية. كما أن الإجراءات التحولية في الصناعة والزراعة اتخذت طابع العنف، خاصة في المجال الزراعي، حيث أباد ستالين الفلاحين الأغنياء من الريف، لكنه من جهة أخرى وسع الصناعة الثقيلة، فجعل الاتحاد السوفيتي في بضع سنين دولة صناعية مغايرة للطابع القيصري الإقطاعي الزراعي. فعمل النظام السوفيتي على جذب الملايين من البشر إلى قوى الصناعة والتحديث، وأدت المؤسسات المركزية إلى تسارع هذا المنحى الصناعي العلمي. وحين جاء الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي في بداية الاربعينيات كان المجتمع قد أنشأ شبكةً هائلة من المؤسسات الصناعية. لقد بدا للكثيرين أن التشابه الشكلي للمؤسسات الدكتاتورية في كل من البلدين سيكون لصالح الهتلرية ذات المجتمع الصناعي المتطور، التي احتلت أغلب بقاع أوروبا في ذلك الحين، وأعلنت حرباً ايديولوجية على الاتحاد السوفيتي خصمها الحقيقي الرئيسي. وككل دكتاتورية سياسية حاكمة فإن قيادة ستالين كانت فردية مطلقة، وكانت تخميناته وتحليلاته الهزيلة للوضع السياسي الأوروبي هي الموجهة للنشاط الحكومي، فكان قد وقع شراكة مع النازية وقسّم أجزاءَ من أوروبا الشرقية بينه وبين هتلر، فكانت الجبهة الشرقية، الروسية تحديداً هادئة، وكان الغربيون الذين اُحتلت أراضيهم يدعونه لفك هذا التحالف المشين، والانضمام للديمقراطية(البرجوازية). لكن الخط السياسي الذي قاده هو كان يعتمد على تحطيم وإزالة هذه البرجوازية وتقاليدها السياسية، مما كان يضر أبلغ الضرر بمواجهة النازية، رغم نضال القائد البلغاري ديمتروف في رفض هذا التوجه. وهكذا فإن الإشارات التي جاءت من مخبرين سوفيت وخاصة من مخبر في اليابان عرف موعد الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي، قد تم تجاهلها من قبل القائد الكبير، الذي اعتبرها عملية دس غربية.
لكن الهجوم الكاسح الشامل النازي جاء في الموعد نفسه، واندفعت جيوشٌ ألمانية هائلة على الحدود السوفيتية واعتمدت تكتيكات الصاعقة في الاجتياح من الشمال إلى الجنوب، وفي عدة أيام توغلت هذه القوات بقوة في الأراضي السوفيتية، حيث كانت القوات في حالة نوم سياسي وتعرضت للتشتت والانهيار. وقد ارتبك ستالين ارتباكاً كبيراً، وتوارى، ثم ظهر بقوة كشخص بدا مختلفاً عنيداً صارماً كعادته، وفي لحظة تغيرت السياسة السوفيتية، فلم تعد الشيوعية هي مدار الحكم، أو التجربة الاشتراكية، بل ظهرت السياسة الوطنية، سياسة توحيد كل المواطنين ضد العدو والتحالف مع الغرب! وبالتأكيد كانت هذه هي مأثرة ستالين الكبرى، وقد خاض الصراع رغم الأخطاء بكل كفاءة وصلابة، وكان على النظام الشعبي أن يظهر كل قدراته الكامنة المحبوسة في البيروقراطية المسيطرة وكانت تضحياته الجسيمة، وتقديم ثلاثين مليون قتيل لتحرير وطنه وتحرير الشعوب. كان الرفد السكاني الواسع لجبهة القتال متأسساً على هذه الملكية العامة الهائلة، فالملايين في خدمة الدولة، ولم تعد الدولة تريد أغلبهم في المصانع والمزارع، بل تم ترحيلهم للجيوش، وكان على النساء أن يحللن محلهم، وقد أعطى هذا الرفد السكاني الواسع قدرة للجيوش السوفيتية، فمهما قـُتل من طلائع فهناك قوى احتياطية ضخمة في الخطوط الخلفية مستعدة للحلول محلها. كما أن الصناعات تحولت للصناعات الحربية، وتم نقل مصانع بأكملها من غرب الاتحاد السوفيتي إلى شرقه، فتوسعت الصناعات الحربية وتجذرت، وقاربت مستويات الصناعة الحربية الألمانية. كما أن الحزب الشيوعي السوفيتي تحول إلى طليعة حقيقية للجمهور، فكانت أغلبية أعضائه في خطوط القتال الأولى، وقـُتلت نسبةٌ كبيرة منها، وُوظف كل شيء من صناعة وثقافة وبشر من أجل الحرب، وكان الشعار المحوري: كل شيء من أجل الجبهة، كل شيء من أجل النصر! وقد أظهرت هذه السياسة الصارمة جدواها على خطوط القتال، فالتدفق الألماني أوقف ومشى ببطء كبير، واشتعلت خطوطه الخلفية بحرب العصابات، وجسدت المعارك الكبرى مسار نظامين مختلفين، نظام للشعب ونظام معادٍ للشعب، نظامٌ كلما استمرت الحرب ظهرت قواه وتضخمت جيوشه، ونظام كلما طالت الحرب أصيب بالهزائم، والتمزق الداخلي، وقد أدركت القيادة السوفيتية أهمية الحرب الشعبية الطويلة الأمد، ووضع حد للحرب النازية الخاطفة، فجسدت المعارك الكبرى خاصة معركة ستالينجراد قوة هذه السياسة العسكرية، فتواجه أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، وتمت هزيمة النازية وصار الجيش السوفيتي هو المهاجم وتم اكتساح أوروبا، في حين كان الغربيون متذبذبين في مساندة الاتحاد السوفيتي، أملاً في تحطيم النظامين أنفسهما معاً.

صحيفة اخبار الخليج
10 يناير 2009

اقرأ المزيد

أمنيات صغيرة

الأمنيات! تلكم هي الكلمة التي تحملها إلينا تعابير التهنئة بالعام الجديد.  في حضرة اللحظة الفاصلة بين عامين يتمنى الناس لبعضهم بعضاً الأمنيات السعيدة: أن يكون العام القادم أفضل من العام الآفل، أن تكونوا في صحة وسعادة، وأن تتحقق أمنياتكم!. الأمنيات! هي ما نحيا من أجله، حتى في أقصى لحظات سعادتنا نكون مسكونين بأمنية غالية هي أن تدوم هذه السعادة، أن تمتد وتستمر وألا تنتهي وتهرب من بين اليدين، حتى استعادتنا المُرة للحظات السعيدة التي عبرت في سنوات مضت هي معادل آخر للأمنيات، ورغبة حقيقية في أن يحمل المستقبل لحظات مشابهة لتلك التي عبرت، فاللحظات نفسها لا تعود. نهرب من رتابة الحاضر إلى المستقبل بالأمنية، والى الماضي بالذكرى، ونخاف على سعادة الحاضر فنتوسل بالمستقبل أن يحافظ على هذه السعادة، بأن يبقيها ويجعلها دائمة. في اللحظة التي تنقل من عام إلى عام يسكننا الهاجس الذاتي، الحميم والخاص جدا. أحلامنا الكبرى مؤجلة أو قابلة للتأجيل، لأنها أحلام عامة يشترك فيها الجميع، لكن ما من لحظة نأوي فيها إلى ذواتنا كتلك اللحظة، حين نكون في حال من الشفافية المرهفة أمام النفس، لحظة حاسمة من لحظات التمني والاعتراف بالرغبات الحقيقية التي قد لا يعرفها سوانا، ولا نملك المقدرة على الإفصاح بها لأحد آخر، وان أفصحنا فللشخص الوحيد الذي يعنينا أمره أكثر من سواه. لدى بعض الشعوب اعتقاد أشبه باليقين أن الطريقة التي نستقبل بها العام الجديد في لحظة انبلاجه هي التي ستحدد الحال الذي سيكون عليه عامنا الجديد. إن كان مزاجنا سعيداً في لحظة هذا الانبلاج فان السعادة ستغمرنا في شهور العام التالية، وان كان المزاج مشوباً بالحزن أو القلق فان عامنا الجديد سيحمل شيئا من ذلك.  لكن الناس إزاء الرغبة في السعادة يغلبون التفاؤل دائماً، يغلبون الرغبة في أن هذه السعادة في الانتظار عند أحد مفارق الآتي. من طبيعة الإنسان أن يكون نابذا للتشاؤم والكآبة، حتى أشد الناس ميلاً للحزن يحملون في ذواتهم رغبة حقيقية أشبه بالثقة الغامضة في أن الحياة ستكافئهم بأيام سعيدة. في لحظة انبثاق عامٍ جديد ومغادرة عام أصبح ماضياً نأوي إلى ذواتنا، نصغي برهافة إلى نداء أرواحنا، إلى أعمق وأصدق رغباتنا، وليس من رغبة أصدق في النفس من أن نكون إلى جوار من نحب أو نظل إلى جواره. ما أقسى الفراقات! ما أقسى أن يؤخذ نصف روحنا إلى مكانٍ ويترك نصفه الثاني في مكان آخر. في اللحظة الفاصلة، الواصلة بين عامين ما من أمنية تُحلق في سماء الروح سوى تلك الأمنية العميقة الصادقة بأن لا يفترق الأحبة، بألا تطوح بهم الدنيا بعيدا، وفي أن يظل شملهم مُلتماً. هي أمنيات صغيرة .. ولكن أصدق وأعمق الأمنيات هي الأمنيات الصغيرة.
 
صحيفة الايام
10 يناير 2009

اقرأ المزيد

شيء من رؤية «التقدمي» حول قانون العمل

اذا ما اراد المجلس الوطني بغرفتيه رؤى عمالية طموحة تعينه وتجنبه عند مناقشة مشروع قانون العمل الثغرات الواردة في هذا القانون فانه من المهم بل ومن الضروري الأخذ بمرئيات الاوراق المشاركة في الحلقة الحوارية التي انعقدت مؤخراً في المنبر الديمقراطي التقدمي حول آفاق هذا المشروع.
ويمكننا القول بامانة ان ورقة “التقدمي” النقدية لهذا القانون كانت من أهم الاوراق وذلك استناداً للملاحظات والتعديلات المقترحة في هذا الجانب.
في هذه الورقة العمالية النقدية تم الاشارة الى اهم الثغرات ألا وهي ان القانون الجديد تجاهل نظام الحد الادنى للاجور بمعنى انه لم يتخذ خطوة ايجابية حول هذه القضية في حين ان قانون العمل الحالي أوجد آلية ازاحت هذا الغموض وهذا التجاهل وخاصة ان المادة (77) نصت على “ان يكون تحديد الحد الادنى للاجور بقرار من مجلس الوزراء وبناءً على عرض من وزير العمل.. ومن هنا نفهم ان الحاجة هنا تقتضي النص على ان تكون هناك آلية امام الارتفاع الرهيب في اسعار السلع الضرورية والحاجات الاساسية وبناءً على ذلك اقترح “التقدمي” في ورقته هذه ان ينص القانون الجديد على تشكيل لجنة وطنية مكونة من اطراف العمل الثلاثة بالاضافة الى ممثلين عن كبرى الشركات ونخبة من مؤسسات المجتمع المدني وتختص هذه اللجنة بدراسة وتقييم الاجور واستعراض اسعار السوق وتكاليف المعيشة لوضع حد ادنى للاجور ملزمة لكافة اصحاب العمل في القطاع الخاص ومن يخرج على ذلك تعد مخالفة للقانون.
كما تحفظت الورقة على سلطة رب العمل الواسعة في انهاء عقد العمل بسبب اغلاق المنشأة طبقاً للمادة (107) التي نص عليها مشروع القانون لما لها من اضرار تلحق بالعاملين ولا سيما ان المادة المذكورة لم تفرق بين الاغلاق المؤقت الذي لا يجيز لصاحب العمل انهاء العقد بل يوقف تنفيذه خلال فترة هذا الاغلاق وبين الاغلاق النهائي وهنا لابد من ضوابط وخاصة اذا كان الاغلاق النهائي بسبب يرجع الى صاحب العمل فان عقد العمل لا ينتهي ولا ينفسخ بقوة القانون وتظل التزامات صاحب العمل في التعويض واردة وقائمة في هذه الحالة.
وتقف الورقة ايضاً موقفاً واضحاً وصريحاً من المادة (106) من المشروع التي تنص على فصل العامل لعدم الكفاءة وهو حكم يتجاوز العدالة لان نص المادة (21) من مشروع القانون ذاته هي في الاصل تجيز تعيين العامل تحت شرط التجربة مدة ثلاثة اشهر كحد اقصى بغرض معرفة كفاءة العامل وعلى هذا الاساس ان حكم المادة (106) يتجاوز حدود الانصاف والعدالة ويفتح الباب على مصراعيه لصاحب العمل لفصل العامل في اي وقت بحجة عدم الكفاءة او نقصها. ولا يختلف الحال بالنسبة لتعويض العامل في حالة فصله من العمل بسبب او بدون سبب مشروع وفي كلا الحالتين المادة (108) من القانون الجديد صادرت سلطة القاضي في تقدير التعويض التي هي واضحة في القانون الحالي والمصادرة تتم هنا حينما وضعت تلك المادة حداً ادنى للتعويض وهو ما يعادل اجر يومين عن كل شهر من الخدمة وبما لا يقل عن اجر شهر ولا يزيد عن اجر اثني عشر شهراً اذا كان العقد غير محدد المدة او ما يعادل اجر المدة الباقية من العقد اذا كان العقد محدّد المدة. ومصادرة سلطة القاضي في تقدير التعويض يعني لا مكان لهذه السلطة في تقدير الضرر بنوعيه المادي والمعنوي وهو يختلف من حالة الى اخرى.
وابسط مثال على ذلك التعويض الذي يستحقه العامل المتزوج يختلف عن تعويض غير المتروج.
ومما يلفت النظر ايضاً ان هذه الرؤية النقدية لنصوص مشروع القانون لم تقف عند هذا الحد من الملاحظات بل عالجت قضايا اخرى جوهرية تمس العاملين من بينها افضلية التوظيف للعامل الوطني وحظر تكليف العامل بعمل غير متفق عليه في العقد وحق الاضراب بوصفه حقاً مدنياً وصيغة من صيغ حرية التعبير للدفاع عن مصالح العمال وعدم جواز حرمان المرأة العاملة من اجازة الوضع والعقود المؤقتة التي انتشرت في السنوات الأخيرة بين القطاعين الحكومي والخاص.
هذه هي بعض الجوانب التي تطرقت اليها ورقة “التقدمي” في هذه الحلقة الحوارية الهامة وهنا بغير شك جوانب اخرى وردت في القانون الجديد جديرة بالوقفة النقدية حتى لا يسلب هذا القانون حقوق العاملين.

صحيفة الايام
10 يناير 2009

اقرأ المزيد

التوراة والحرب

ليس ثمة تجارب وآراء عسكرية كبيرة في التوراة، فالقبائل اليهودية قبل ألفين وأكثر من السنوات كانت قبائل صغيرة ليس ثمة إمكانية لحضورها على مسرح الأمم وقتذاك، مثلها مثل قبائل أشقائها العرب، القبائل القيسية، الذين انحدروا جميعاً من منطقة سواحل بحر قزوين.
ولهذا فإن التسمية للمجموعتين العرقيتين: عبرانيون وعرب، المتقاربة، توضحُ النشأة المشتركة، وكذلك عودة المجموعتين للجد المشترك النبي إبراهيم كما تؤكد الوثائق المقدسة لكلا الشعبين الكبيرين.
وفي حين توجهت القبائل اليهودية إلى السكن في بلد الآراميين والكنعانيين؛ وهي فلسطين وما حولها، ثم هاجر بعضٌ منها لمصر الزراعية الغنية، فإن القبائلَ العربية توجهت لشمال الجزيرة العربية، في هذه المنطقة الأوسع، والخالية من الامبراطوريات الكبرى.
فحدث مصيرٌ مغايرٌ للشعبين، واكتسبَ كلٌ من الرافدين تقاليد عسكرية مختلفة، ففي حين وجدت القبائل اليهودية نفسها في عبودية وأشغال شاقة في مصر وعدم القدرة على تكوين جيش، فإن العرب صاروا قبائل حرة وذات انتشار وتقاليد عسكرية متجذرة في تلك الصحراء المترامية الأطراف.
ولهذا كانت القصص والعبارات العسكرية في التوراة تقوم على حفز اليهود للقتال، وعدم تأهلهم للحرب، وتنقد ذوبانهم في الأمم الأخرى، وتحضهم على التفرد وكره الأمم الأخرى والانعزال عنها. فهم شعبٌ صغيرٌ والأمم الأخرى كثيرة الأعداد، وحتى حين اقتربوا من الأرض (الموعودة) فلسطين، احتاجوا إلى وقت طويل للتسلل إليها، ولم ينجحوا في السيطرة عليها إلا بعد تفكك الحضارة الكنعانية التي ورثوها فقد كانت أكثر تطوراً منهم وقد استعاروا تقاليدها وطرق تجارتها وتحديثها،، ومع هذا لم يستطيعوا الحفاظ على المملكة اليهودية التي تقسمت إلى مملكتين ثم سُحقتا.
وهذا لا يعود فقط للأعداد المحدودة لليهود قياساً بالأمم السابقة العريقة بل للموقع الذي أصرت اليهودية على البقاء فيه، وهو أرضُ فلسطين.
فهذه الأرض الصغيرة عموماً دُشنت في العقلية اليهودية كمكانٍ مقدسٍ أزلي للعبرانيين، بسبب هجرة الآباء المؤسسين لليهودية نحوها، وعدم قدرتهم على تكوين دولة فيها، فبدا ذلك كحلمٍ توشج مع تلك القصص الدينية الكثيرة والكثيفة للآباء والأنبياء.
وفي حين كان العرب في أمية وينحدرون أكثر وأكثر في البداوة في الصحارى العربية ويتحولون إلى قوة ضاربة عسكرية كبرى، كان اليهود يتفاعلون مع الحضارات في الشمال، ويؤسسون عبر دولتهم وبعد تحطيمها وأسر الكثير منهم في المعتقل البابلي، ثقافة دينية متأصلة استفادت وتأثرت وحورت الكثير من التقاليد والأفكار المصرية والعراقية القديمة الوثنية. لكنهم يحافظون على المعتقل أو الجيتو وعلى التقوقع وعدم الرغبة في الانفتاح على الأمم خوفاً من الذوبان، إلا إذا آمنت الشعوب بهم وذابت في تقاليدهم.
فكانت التقاليد العسكرية قليلة في هذا التراث المشغول بالهجرة والنفي وأحلام العودة لأرض الميعاد.
وما صعّد اليهود عالمياً هو تبنيهم لطرق التجارة المالية والصرافة المنتشرة بين الكنعانيين، وتحويلها إلى تقاليد شعبية مقدسة، تطبق على الأمم الأخرى ولا تطبق على اليهود.
فعبر أسر قليلة والتوجه للأرباح وعدم تكوين دولة كبقية الأمم والاصرار على العودة لأرض الميعاد فلسطين عبر ألفي سنة من الشتات، أخذت الأحلامُ الاجتماعية لهذه الجماعات اليهودية في التفتح في الغرب الذي جعل اليهودية المصرفية الاستغلالية هي حياته اليومية، فتبناها مادياً ورفضها روحياً.
وقد خاف زعماء اليهودية الغربية من هذا الذوبان للجاليات اليهودية المختلفة في الغرب المتوجه للمساواة بين المواطنين بشكل عام، وإبعاد الأديان عن الحياة السياسية، فقلت الفروق بين اليهودي والمسيحي، اللذين صارا مواطنين شكلياً على الأقل. لأن الجذور المسيحية بقيت في الغرب قوية ومسيطرة لأسباب اجتماعية كبيرة.
هنا تحقق لفكرة العودة لأرض الميعاد فلسطين إمكانية تحويل الجيتو اليهودي إلى دولة، وجعل الجماعات التي كانت تحن للأرض المقدسة في الخيال المستمر بأن تضع أقدامها على أرض حقيقية وهي مليئة بالذكريات والرموز.
كانت هذه هي دكتاتورية الكبار في تلك الجماعات الخائفة من الديمقراطية والعلمانية الغربية.
وقد جاء ذلك كله مع صعود الهتلرية التي استغلت الوجود اليهودي لأفكارها العنصرية، فاجتثت الملايين منهم وغدت بالنسبة إليهم مثالاً مكروهاً بغيضاً، ولكن غدت كذلك نموذجهم الباطني المرغوب فيه، فالقوة العظمى الباطشة القوية ذات الانتصارات الكاسحة تغدو كذلك مصدر إعجاب للضعفاء المحطمين والمهمشين.
خاصة أن اليهود لم يشهدوا تجربة عسكرية كبيرة لهم، وافتقدوا في منعزلاتهم الأشكال السياسية والفكرية الديمقراطية.
فجاءت التجارب العسكرية اليهودية على أرض فلسطين محتفية بتلك التقاليد الهتلرية، من أساليب القمع والعقاب الجماعيين، إلى استخدام أساليب (الصاعقة) وهي فرق ألمانية نازية اعتمدت أسلوب الحرب المفاجأة مع ضربات شديدة للخصوم.
في ألمانيا وإسرائيل المعاصرة كانت الدولتان وسط جمع أممي معاد لهما، فاعتمدت كلاهما على الحرب الخاطفة، أو على زرع الشقاقات الكبيرة بين الخصوم، واستفراد كل على حدة، وعلى القول بالعنصر المتميز المغاير لعامة البشر الأقل رقياً، وعدم التمييز بين العسكريين والمدنيين واستخدام أساليب الإبادة، وعدم جعل النساء والأطفال والشيوخ خارج الصراع.
وذلك بسبب المصدر القومي الاجتثاثي المتعالي على البشر، فوجدت إسرائيل نفسها أنها تهاجم هتلر في كل مناسبة ولكنها تطبق تقاليده السياسية والحربية، نظراً لوحدة الأصل الاجتماعي، وفكرة المجال الحيوي وحياة الغزو.
 
صحيفة اخبار الخليج
9 يناير 2009

اقرأ المزيد

صــــوت العبــــــث .. !

قد يكون التشنج في السيرك السياسي الحاصل الآن إزاء العدوان الإسرائيلي الجوي والبحري والبري على الشعب الفلسطيني في غزة أمراً وارداً بل ومتوقعاً.
وقد تكون العصبية وتباين الرؤى وردود الأفعال الشعبية على المواقف العربية الرسمية إزاء هذا العدوان الوحشي أمراً طبيعياً ومشروعاً.
وقد يكون رأي ووجهة نظر البعض من «حماس» أو  «فتح» أو  «السلطة الفلسطينية» تحكمه حسابات واعتبارات معينة سياسية أو دينية فذلك أمر مفهوم.
ولكن من غير المفهوم ، ومن غير المقبول أن يذهب الشطط والهراء ببعض ممن يكتبون في بعض الصحف الخليجية إلى طرح ما لا يجوز ولا يليق مهما كانت درجة الخلاف والاختلاف مع أي طرف فلسطيني، خاصة وسط دوامة الاحباطات المستمرة على كافة المستويات التي يعاني منها المواطن العربي جراء هذه السلبية من العدوان الوحشي المتصاعد على الشعب الفلسطيني في غزة وعلى كافة المستويات.
نعم من غير المفهوم وغير المقبول أن يذهب البعض إلى المدى الذي يعبر عن حالة من الابتهاج بهذا العدوان، والشماتة للشعب الفلسطيني بشكل مقيت تجاوز كل الحدود حتى وأن جاء تحت ذريعة  «عدم نسيان إساءات الفلسطينيين خلال الغزو العراقي على الكويت» ففي صحيفة خليجية  انتابنا قدر كبير من الدهشة ممزوجة بدرجة عالية من الاستغراب حين قرأنا ما ذهب إليه كاتب يدعى عبدالله الهدلق إلى مستوى نراه يعبر عن عبثية عموم المشهد العربي الراهن، فقد دافع هذا الكاتب دفاعاً مستميتاً عن اسرائيل ومهاجماً  «حماس»، واقعاً في فخ التعميم حينما وصف الفلسطينييــــــــن  «بالإرهابيين والمعتوهين والحمقى»، ولا تقف الدهشة والاستغراب عند ذلك الحد، وعند تلك الدرجة، وإنما نتواصل حينما نقرأ دعوة المذكور إلى إبادة الفلسطينيين وتلقينهم درساً لن ينسوه، قائلاً «بأن الفلسطينيين أينما حلوا حل معهم الإرهاب والإفساد والقلاقل والفتن واللؤم ونكران الذات ، وأن قطاع غزة هو رحم التطرف والإرهاب وما يتعرض له شعب هذا القطاع وقياداته هو جزاؤهم». ويذهب كاتبنا إلى القول بأنه «لا يمكن لشعب لم يعرف إلا التشرد والضياع ثم التشدد والتطرف والإرهاب والقتل والهجمات الانتحارية وقذائف الكاتيوشا التي يطلقها بشكل يومي على المدنيين الأبرياء والنساء والأطفال في المدن الإسرائيلية أن يشكل مجتمعاً مدنياً ونواة لدولة فلسطينية حضارية قابلة للاندماج في المجتمع الدولي»..!!
إنه مقال فيه الفجاجة الشيء الكثير مهما كانت دافعية هذا الرأي الذي لا يقيم وزناً لمئات الصور المأساوية التي نراها كل يوم على الشاشات، والدماء التي تتدفق على امتداد أرض قطاع غزة لشهداء أبرياء من الأطفال والشيوخ والعجزة وأبطال المقاومة والتي كلها تحمل المزيد من الألم والحزن والكآبة، وكأن في معاناة الشعب الفلسطيني في غزة انتقام لموقف بعضهم، ومهما حاول هذا الكاتب أو ذاك أن يتمنطق بالحجج في مناهضة حماس والفلسطينيين، فهو حتماً رأي لا يمثل رأي شعبه.
إن ما قاله هذا الهدلق لم يكن غريباً أن تضعه اسرائيل في صدر الصفحة الإلكترونية لوزارة خارجيتها التي وصفت هذا الهراء بأنه يمثل الصوت العربي المتعقل.. !! حقاً لا خير في أمة اذا كان هذا هو صوت عقلائها.
ذلك النموذج مخجل حقاً، والأكثر هلعاً وفضاعة عندما تخرج وسط هذه الدوامة من الاحباطات المستمرة  كتابات أخرى مماثلة، منها على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه فؤاد الهاشم الذي ضمن ما قاله بأنه «ليس من مسؤوليتنا أن نلم شمل الفلسطينيين».. و «أرسلوا لهم فقط الخيام والبطاطين والأدوية وعلب الفول والباذنجان المخلل، ولا شيء غيـــر ذلك ».. !!.
لا أدري هل مطلوب من الفلسطينيين في غزة أن يبوسوا أيديهم «وش وظهر» كما يقال ويحمدوا للعدو الإسرائيلي «نعمة» التنكيل بهم وأن يتمنوا ويشكروا له قصفهم والضربات التي تنهال عليهم وتعرضهم لأقسى ألوان الذل والطغيان والمهانة، وأن يعربوا عن شكركم العميق لرئيس أكبر دولة تزعم أنها ترعى الحرية والديمقراطية والسلام لأنها تطلب منهم ضبط النفس وتطلب من اسرائيل المزيد من العدوان، وأن يشكروا الدول العربية على «موقفهم العقلاني» الداعي للفلسطينيين في غزة إلى رفض فكرة الاحتجاج والرفض والقبول بعدم المقاومة وإلا صاروا إرهابيين ومتطرفين، وألا نكترث كشعوب عربية لموت طفل، أو مواطن فلسطيني، وأن لا نبدي أي اهتمام بكل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان وحصار وتجويع وقتل وإرهاب، حتى يرضى الهدلق والهاشم وغيرهما من الذين يسيرون في هذا الركب، من الكتاب والسياسيين العرب خاصة أولئك الذين يصرون على أن يظهروا لنا بمظهر الحرص على أمة العروبة والإسلام، والذين صار بوسعنا أن نتوجه لهم بالشكر والامتنان لأنهم نبهونا مجدداً وان كنا لسنا في حاجة إلى تنبيه إلى ما كان يفترض أن نتنبه إليه باستمرار ، وهو أن واقعنا العربي الــذي دخــل في طــور العبـــث الذي ينتمي إلى عالم اللامعقول.. !!

صحيفة الايام
9 يناير 2009

اقرأ المزيد

في غيبوبتي .. رأيت درويش يكتب قصيدة النصر

 

 


أقولها بفم ملآن ودون تردد : ان جزمة طفل فلسطيني يدافع عن وجوده وكرامة أمته أعلى من كل الرتب واشرف من كل النياشين العربية ! وان منديل عجوز تلوح به باكية هو علمنا الوطني من المحيط الى الخليج .. فلتنخفض الأعلام العربية الرسمية أمام منديل النحيب !
ولمن يحاول أن يهمش الصراع ويجعله صراع معابر .. فتحها أو عدم فتحها أقول : شعبنا لا يريد معبرا لندخل له الفتات.. شعبنا يريد معبرا نحو الحياة الحرة الكريمة .. حياة الاستقلال والتحرر



 


المذابح في غزة.jpg


 

أعترف أنني لم أواكب الأحداث المؤلمة بتفاصيلها… نتيجة رقودي في المستشفى ولمدة ليست بالقصيرة ، لكنني عندما دخلت في غيبوبتي رأيت فارس فلسطين شامخا في فضاء غزة يجدد قصيدة النصر، وأفقت على الطبيب يقول لي (الحمد لله على سلامتك ) … كم كنت أتمنى لو تستمر غيبوبتي أولا : لأتابع ما يكتبه فارس فلسطين عن أن القنابل الإسرائيلية وحدت الدم الفلسطيني وثانيا : لئلا أصاب بالصدمة التي هزتني نتيجة المجزرة التي ارتكبت في مدرسة (الاونوروا). كنت أهذي وقلبي يكاد يتشظى !


أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا ، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف – ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز – ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وعلينا ، نحن ، أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا ، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر ، والحاضر ، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. والآخرة ْ
فاخرجوا من أرضنا
من برنا .. من بحرنا
من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا
من كل شيء ، واخرجوا من ذكريات الذاكرة ْ
أيها المارون بين الكلمات العابرة


كم هي محزنة حالتنا ونحن نشارك بالإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعبنا .. لن أحابي أحدا ولن أكون اليوم روتينيا في قراءتي … ولا أنكر أنني من حين لآخر اتصل بالأخوة الأصدقاء الكتاب الفلسطينيين في غزة لأطمئن على حالهم وحال شعبنا .. ما يروونه يفوق ما نراه على شاشات التلفزة ! وأقولها بفم ملآن ودون تردد : ان جزمة طفل فلسطيني يدافع عن وجوده وكرامة أمته أعلى من كل الرتب واشرف من كل النياشين العربية ! وان منديل عجوز تلوح به باكية هو علمنا الوطني من المحيط الى الخليج .. فلتنخفض الأعلام العربية الرسمية أمام منديل النحيب !
ولمن يحاول أن يهمش الصراع ويجعله صراع معابر .. فتحها أو عدم فتحها أقول : شعبنا لا يريد معبرا لندخل له الفتات.. شعبنا يريد معبرا نحو الحياة الحرة الكريمة .. حياة الاستقلال والتحرر
 
هل عرب أنتم..؟
والله أنا في شك من بغداد إلى جدة
هل عرب أنتم..؟!
وأراكم تمتهنون الليل على أرصفة الطرقات الموبوءة
أيام الشدة!
قتلتنا الردة.
قتلتنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده
مظفر النواب أدرك واقع الأمة العربية حتى قبل أحداث غزة ..

ستدخل التاريخ مصطلحات جديدة يندى لها الجبين (هولوكوست ذاتي) (عرب وباعوا روحهم )
ستدخل التاريخ معادلات وقوانين جديدة لم نعرفها من قبل وأولها ( نيرون مات وروما لم تمت بعينها تقاتل ) وثانيها الحجر صار أقوى من الطائرة والبارجة !
هذه المعادلات لم نعرفها الا في تاريخ النضال الفلسطيني ، والقانون التاريخي الآخر والذي ادخله (السيد حسن نصر الله ) هو ان أيادي الشعوب المؤمنة بحقها أطول من كل اذرع الأنظمة وهي فقط القادرة على التصدي وإحراز النصر في معركة البقاء والوجود . 
  


 المذابح.jpg 
هولوكوست بغطاء دولي !

اقرأ المزيد

تقارب المحافظين والتجديديين

هناك جوانب مشتركة بين المحافظين الدينيين واليساريين والتجديديين بسبب الجذور المتقاربة لكلا الجانبين. فهناك ذكورية مسيطرة في الهياكل السياسية وبين حشود الأعضاء في التنظيمات، فالنساء لا مكان كبيرا لهن في الجانبين، وهناك المرجعية البكائية على الرموز والزعماء، وكذلك التمثيل المحدود للعمال في الهياكل القيادية، أو الغائب كلياً، وغياب الفلسفة والثقافة لدى القيادات والقواعد، وخضوع هذه الجماعات لردود الفعل وغياب الاستراتيجيات البعيدة المدى. بالنسبة إلى حضور النساء وتعددية الطوائف والأديان نجدها لدى الحكومات المُراد تغييرها، أكثر من هذه الجماعات التي تريد أن تغير، فقد قادت الظروف العملية الحكومات، إلى التعامل مع مجموع الشعوب برجالها ونسائها، والاستفادة من كل الطاقات من أجل أهدافها وسياستها، كذلك فهمت طابع العصر حتى لو كان بشكل شكلي في العديد من الأحيان للاستفادة من الذكور والإناث والمذاهب، فيما بدت أحزاب التغيير متجمدة في قوالب، لكونها لم تمارس السياسة الحاكمة وضروراتها، وتلونها واستجاباتها للظروف والتحولات، ولديها (فورمة) جاهزة تعبر عن الكسل العقلي لدى هذه الجماعات وبقاء القواعد في حالة تصفيق وتأييد، ولعدم وجود خبراء يقدمون معلومات موضوعية للأحزاب من أجل أن ترسم سياستها. هنا نجد ان دكتاتورية الحكومات أكثر مرونة من دكتاتوريات الأحزاب المعارضة، لأنها تقوم على مجموعات كبيرة من الخبراء، وعلى برامج متعددة مرنة للظروف، من دون أن تخرج هذه البرامج عن أهداف الطبقات الحاكمة. والحكومات تستفيد من خبرات الأحزاب أيضاً عبر استثمار بعض اعضائها المتحولين بشكل مستمر إليها، فتجد أن أغلب كوادر الحكومات هي من أحزاب المعارضة. وهذا الجمود ينطبق على المحافظين والمجددين، لكونهم يتعاملون مع جماعات ضيقة محصورة، وليس مع تيارات التدفق المستمرة في الحياة، وربما مع زعيم مطلق محدود الإمكانات الفكرية سواء على مستوى الدين أو على مستوى النظرية. إن الجدال مع الواقع، ومع الشعوب، يتقلص لدى الجماعات المعارضة، فهي تظل في منولوج داخلي مع نفسها، وترديد ما تؤمن به من دون بحث عن بدائل وطرق جديدة للتعبير والتفكير، ولهذا فإن التقارب بين المحافظين والتجديديين وارد مستمر، لأن الفريقين لا يشتغلان على تغيير عميق في الحياة، والبنى التنظيمية ليست متغايرة كثيراً، فكلها قائمة على الذكور المسيطرين، مع بعض العادات القليلة المختلفة، وكلها لا تواجه قرارات تحويلية للحياة والتفكير في بدائل وطرق مختلفة للصعاب القائمة، في حين ان الحكومات تواجه ذلك بشكل دائم. وكما يُفترض بأن تكون أحزاب المعارضة هي التي تغير الواقع، لكنها هي التي تتغير عبر السياسات الحكومية، فتصبح أدوات مفيدة للسياسات الحكومية. لا تستطيع الحكومات أن تعيش من دون المفكرين والاختصاصيين فهم يقدمون لها ما يفتقده البيروقراطيون المحنطون في دوائرهم ومراكزهم، والمسؤوليات الجسيمة فيما يتعلق بظروف البلد وتطوراته وأحوال العالم المتغيرة، ويقدم الخبراء مثل هذه الاحتمالات للتطور عبر دراسات متأنية فيها خلاصات عملية لما يجب أن يُجسد على الأرض، وتوضع هذه الاحتمالات والخطط لدى الدوائر التي لديها القرار لتختار ما يناسبها. في حين ان أحزاب المعارضة نظراً لغياب المفكرين والاحتصاصيين فهي تعتمد على العفوية السياسية، فتتخذ قرارات لا تمثل سوى اللحظة الراهنة، فليس لديها بدائل وخطط مدروسة، ولعل الدينيين أقل عناءً في ذلك فلديهم محفوظات جاهزة صالحة لكل زمان ومكان، ويجد التجديديون مثل هذه الجاهزية بعد فترة مع تلكؤ النشاط السياسي وضعف المبادرات ومحدودية العناصر النشطة وقلة التغلغل بين صفوف الناس. تقوم المحفوظات والعادات المحافظة المتجذرة في المجتمع بإحداث تقارب بين الدينيين والتجديديين، فتجد المحافظ يبكي على رمزه الديني وكذلك يفعل التجديدي في بكائه على رمزه، ويتم استعادة التاريخ النضالي بصورة محفوظات، وتتحول إلى محفوظات مقدسة، مع انقطاع الأجيال الجديدة عن التجربة الحقيقية وعن فهمها الموضوعي، ويصبح الماركسي إماماً وشهيداً تحل البركة بترديد اسمه، وتغدو القومية عقيدة مقدسة، لا يأتيها الباطل من خلفها أو من بين أيديها. تصبح الأحزاب السياسية بلا سياسة فعلية، نظراً لغياب أدوات السياسة، فتغدو طوائف جديدة محدودة، في حين تستفيد الحكومات من هذا الضعف، لتتحول إلى هيئات ممثلة للناس ككل، خاصة مع وجود الموارد في أيديها وتوزيعها بطرق تضمن السيطرة لها. والطوائف الجديدة ترتبط بالطوائف القديمة السائدة، فتجد اليساري يمارس عادات المحافظ الديني نفسها الذي ينتقده، فتضيع النوعيات الجديدة في ظل التقليد. وكلها لا ترتبط بمعاش الجمهور والجمهور يمشي حسب من يعطيه معاشه ويطوره، في حين ان الحكومة لا تجعل أحداً سياسياً يسيطر على المعاش غيرها. تقوم الحكومات بتنفيذ ما تقوله الأحزاب فتخطف انتقاداتها وتوظفها وتكون لها شعبية مستمرة، وتحدد البرلمانات والنقابات والجماعات المختلفة. وتقود سيطرة الحكومات وشلل الأحزاب إلى ركود في الحياة السياسية فلا شيء يتغير والجميع يتحدث عن التغيير! لكن الحياة تتغير لكن إلى الأسوأ فهناك المزيد من المشكلات ومزيد من تدفق الفقر والمواليد ومن سوء الأحوال الاقتصادية واشتداد الأزمات وضعف الخدمات وارتفاع الغلاء وتزايد الازدحام والتلوث وتباين توزيع الثروات بين الطبقات والمناطق والطوائف، فمن سوف يحل كل ذلك؟ حين تزور أي بلد عربي تجده في حال أسوأ من السابق، ويبدو هذا مصير بعض دول العالم الثالث العاجزة حكومياً وسياسياً عن فعل شيء حقيقي وكبير في حياة شعوبها.

صحيفة اخبار الخليج
8 يناير 2009

اقرأ المزيد

مثقفون لا‮ ‬يقرأون

حين تناقش أزمة القراءة،‮ ‬أو في‮ ‬تعبير أوسع‮: ‬أزمة الكتاب في‮ ‬العالم العربي،‮ ‬نذهب مباشرة إلى تقديم أرقام عن نسبة الأمية العالية،‮ ‬حيث لا‮ ‬يقرأ الناس ولا‮ ‬يكتبون‮. ‬ويجري‮ ‬الحديث أيضاً‮ ‬عن منافسة وسائل الاتصال الحديثة للكتاب‮. ‬ وغالباً‮ ‬ما نقرأ دراسات عن تهديد التلفزيون للقراءة،‮ ‬أو أثر‮ »‬الانترنت‮« ‬في‮ ‬انحسارها،‮ ‬وفي‮ ‬معارض الكتب‮ ‬يجري‮ ‬الحديث عن ارتفاع أسعار الكتب بوصفه سبباً‮ ‬لانصراف الناس عن شراء هذه الكتب،‮ ‬ولكن الواضح أن هذه الأسباب،‮ ‬إذا ما استثنينا مسألة الأمية،‮ ‬هي‮ ‬أسباب وهمية‮. ‬ يمكن الحديث عن تهديد وسائل الاتصال الحديثة للقراءة بالنسبة لأمةٍ‮ ‬قارئة أصلا،‮ ‬لا لأمة لا تقرأ‮. ‬ثم كم هو عدد أولئك المشتركين في‮ ‬شبكة‮ »‬الانترنت‮« ‬في‮ ‬العالم العربي،‮ ‬والذين‮ ‬يجعلون من هذا الاشتراك وسيلة للمعرفة،‮ ‬للاطلاع والقراءة بحيث إنهم وجدوا أنفسهم في‮ ‬غنى عن الكتاب،‮ ‬خاصة اننا نطالع على الدوام شهادات أولئك المثقفين الذين‮ ‬يؤكدون أنهم لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يستغنوا عن طقس الكتاب،‮ ‬أو بالأحرى طقس قراءته،‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن لأية وسيلة أخرى أن تعوضه‮.‬ لكن الأمر الذي‮ ‬لم‮ ‬ينل العناية الكافية في‮ ‬غمرة الحديث عن أزمة القراءة هو‮ »‬أمية المثقفين‮«. ‬ولا‮ ‬يجب النظر إلى هذا المفهوم باستغراب انطلاقا من الانطباع الفوري‮ ‬بأن المثقف لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون أميا،‮ ‬بل المطلوب التفحص في‮ ‬حقيقة أن‮ »‬أمية‮« ‬المثقفين تكمن في‮ ‬أن المثقف في‮ ‬مرحلة من المراحل حين‮ ‬يجد أن مكانته قد تكرست‮ ‬يكف عن تطوير معارفه بالمزيد من المتابعة والاطلاع والبحث ومتابعة الجديد‮. ‬ وهذا‮ ‬يفسر لنا مصدر تلك الصدمة التي‮ ‬تنتابنا حين نحضر محاضرة لاسم معروف في‮ ‬دنيا الثقافة،‮ ‬كنا قد قرأنا له مؤلفات ربما تكون قد أسهمت في‮ ‬يوم ما في‮ ‬تشكيل معارفنا،‮ ‬فنفاجأ بأن لا جديد لديه ليقوله،‮ ‬وأنه ظل‮ ‬يدور في‮ ‬حلقة المفاهيم التي‮ ‬صدئت وعتقت،‮ ‬ليبدو لنا خارج المعرفة،‮ ‬إذا ما سلمنا بأن المعرفة عملية مستمرة لا تعرف التوقف،‮ ‬وأنها تتغذى دائماً‮ ‬بالجديد والمفيد‮.‬ والحق أن هؤلاء‮ »‬المثقفين‮« ‬يستمدون جانباً‮ ‬من وجاهتهم من ضعف الجدل الفكري‮ ‬والثقافي‮ ‬الذي‮ ‬يدفع نحو المثابرة وحتى المنافسة في‮ ‬البحث والتقصي‮ ‬ومتابعة الجديد المعرفي،‮ ‬لا بل الارتقاء بمنهج القراءة والتحليل نفسه كي‮ ‬يكون أداة فعالة في‮ ‬فهم واقع متحرك متغير ليس بالإمكان فهمه بالأدوات القديمة نفسها‮.‬ ‮ ‬وليس مفاجئا أن‮ ‬يتحدث بعض كبار المثقفين بخجل أو حتى من دون خجل أنهم لم‮ ‬يقرأوا شيئا مهماً‮ ‬منذ سنة أو سنوات أو‮ ‬يعتذرون عن أنهم لم‮ ‬يتمكنوا بعد من الاطلاع على أعمال زملاء لهم‮ ‬يشتغلون في‮ ‬الحقل المعرفي‮ ‬أو الإبداعي‮ ‬نفسه،‮ ‬ويقدمون فيه اجتهادات مغايرة أو‮ ‬غير مغايرة‮.‬ ئهذا عن كبار المثقفين،‮ ‬فماذا عن صغارهم أو أشباههم؟ هنا تبدو الكارثة مضاعفة مرات،‮ ‬فإذا كانت قوة التأسيس ومتانته قد تشفع جزئيا للأسماء المعروفة،‮ ‬فإن صغار المثقفين وأشباههم ممن حفظوا بضع جمل وعددا من المصطلحات تخفي‮ ‬وراءها هشاشة وخواء‮ ‬يشكلون أزمة وعبئا حقيقيا على الثقافة والفكر وإساءة لهما‮.‬
 
صحيفة الايام
8 يناير 2009

اقرأ المزيد